عاد من العمل ذات يوم فوجدها حبيسة الذكريات هائمة داخل درجها السري. لأول مرة يكون عصبيا بهذا الشكل.
انفجر الحمل النفسي المكبوت داخل صدره منذ سنوات متهما اياها بأنها مريضة و لا ترضى بقضاء الله و ستتسبب في عُقد نفسية لابنهما من فرط تعلقها بالماضي.
- لقد عوضك الله بابن كنا نترجاه من الله فأعطانا اياه فلم الطمع؟ لما لا نفرح بابننا ونشكر الله وننسى ما مضى؟
كانت صامتة لا ترد لكن ملامحها تتغير و تتبدل كل لحظة حتى بدأت أوداجها تنتفخ واللون القرمزي يغطي وجهها.
ماضي؟!!
هو بالنسبة لك ماضٍ مفقود عُوضت عنه بغيره فلا معنى أن تتذكره بل عليك أن تنساه.
اما بالنسبة لي هو ابني وسيظل معي في منامي وصحوي حتى ألقاه يوم اللقاء شفيعا.
أعلم أنك تعرفت عليه و بدأت أبوتك له يوم أن رأيته ولم يبق طويلا حتى رحل فلم ترتبط به. لكن قلبي رآه قبل أن تراه عيني. ارتبطت به أما منذ اللحظة التي علمْتُ أني أحمله داخلي. كنت أشعر به وهو يكبر هو و أخوه من حجم بطني الذي يتزايد يوما بعد يوم منبئا عن نمو جسديهما من دَمي وعظامي. أشعر بحركتهما وهما ينعمان بالسكينة والأمان في رحمي. أرضعتهما سويا ليظل الرابط بينهما موصولا قبل أن أعلم مصير كل منهما ولعل ذلك ما كان له أثره في نفس فريد حتى اليوم. لم يدركا ما كان يخبئه لهما القدر.
سأظل أشاركه أفراحي و أحزاني لن تمنعه هذه الحفرة التي توراى عني فيها من أن أضمه بقلبي. دائما أفعل وسأظل. أفعله وحدي ولا أفرضه على أحد لكن لا أريد لأحد أن يفسده على. هي لحظاتي أنا وابني اتركونا و شأننا. فريد ابني نعم الذي عوضني الله به عن فقد أخيه و أنا أصلي لله شكرا كل يوم على هذا العطاء الكبير و هذه المنة العظيمة.
اهتمام فريد بتعلم الرسم خصيصا ليبق أخاه معه في الذاكرة والواقع. لم يكن ذلك بتوجيه مني بل تفاجأت به مثلك و حمدت الله عليه.
فريد ابن بار و ذكي ونشيط ومحب وما حدث له ذات مرة لم يكن مفهوما رغم أنه لم يتكرر إلا أني لست سببا فيه فلا تلق باللوم علي فيم لم أفعله.
تأثر كثيرا و لم ينطق بكلمة أخرى ترك الغرفة مفسحا لها المجال لتعيش تلك اللحظات التي تختلسها من الزمن عائدة به سنوات إلى الوراء تختلي فيها بفلذة كبدها.. أو ذكراه.
على مائدة الغداء كان الجو الأسري رائعا كالعادة لكن فريد اليوم كان ينتظر أن ينتهوا من طعامهم ليخبرهما بأمر هام.
- هلا أتيتما معي إلى غرفتي؟ أريد أن أريكما شيئا.
نظرا إلى بعضهما وقاما معه إلى غرفته بشيء من الفضول. دعاهما للجلوس وتنفس بعمق...
إلى اللقاء في الجزء السابع