تشابك سري ج٥
مرت السنوات والتزمت ابنة الخالة بما وعدتهما به من وضع الزهور أمام هذا اللوح الرخامي الذي يحمل اسم طفلهما الوحيد في غربته. كانت بعد كل زيارة ترسل لهما الصور التي تسري عنهما هذا الحزن العميق بعمق الألم من مصابهما . حتى تجمعت لديهما صور لعشر سنوات متتالية فشلت كل محاولاتهما فيها للذهاب مرة أخرى للزيارة وقراءة الفاتحة والتحدث إليه كما كانت تتمنى. ففي كل مرة كان يحدث ما يعيق السفر ويتأجل للعام التالي و كأن هناك من يعمل جاهدا على منعهما من السفر ولا يعلمون عنه شيء. بينما فريد يكبر ويأخذ من الحنان والهدايا الضعف من أجله ومن أجل وحيد. إلى أن امتلأت الغرفة بالملابس والهدايا لكنها مقسمة على سريرين و خزانتين ومكتبين صغيرين حتى الصور.. كانت هناك دائما صورا مرسومة بريشة فريد لأخيه تحمل نفس الملامح لكن بملابسه و أشيائه الموجودة في خزانته وعلى مكتبه. فقد اتقن فريد الرسم فقط من أجل أن تؤنسه تلك الصور وتعوضه عن غياب أخيه.
في يوم غائم كان حديثها إلى نفسها ذو شجون وهي تحتضن ملابسه وتشم رائحته فيها. تلك الرائحة التي لم تستطع السنوات إجبارها على التطاير و ترك مكانها بين خيوط النسيج فلم تفارقها منذ خلعها في المرة الأخيرة. وكيف تتطاير والذكريات تزيدها عبقا و تركيزا.
- أفتقدك كثيرا. لم استطع حملك وضمك إلى صدري كما ينبغي فقد كان قلبك أضعف من يتحمل شوقي إليك لازال صوت أنينك الضعيف في أذني. لازلت أشعر بأنفاسك المتقطعة تداعب وجهي عندما قبلتك ذات مرة. كنت ألمح بريق دمعات تأبى السقوط من تلك المقلتين البنيتين. لعل الأنابيب كانت تؤلمك ولم ترد إخباري لكني كنت أعلم يا صغيري ألمك رغم شموخك وعزة نفسك التي تأبى الانهيار و البكاء حتى آخر نفس. أنا أمك. اعلم نبضاتك قبل أن أراك كانت تخبرني عنك و عن أخيك و أنتما في أحشائي.
وبينما هي تقلب في الذكريات المدفونة في الدرج السحري لخزانتها حيث لا أحد يجرؤ على لمس هذا الدرج وفتحه إلا هي. سقطت من بين الملابس ورقة قديمة على أحد أطرافها شعار صغير لمستشفى ريتشموند ومكتوب عليها بعض الكلمات الغريبة بالإنجليزية هي أقرب للطلاسم منها إلى الكلمات. حاولت قراءتها لعلها تفهم لِم هذه الورقة في خزانتها مع متعلقات طفلها الراحل. قرأت الكلمات المكتوبة بصعوبة
Graviton
Entanglement
Singularity
Super string
Stanford
لم تفهم شيئا و ظلت هكذا في مكانها تحاول حل لغز هذه الورقة حتى عاد الزوج من الخارج. اندفعت نحوه. تشبثت بملابسه تسأله بلهفة عن هذه الورقة لعل بها شيء يساعدهما في السفر لتنعم دقائق بجوار ابنها تناجيه وتشكو إليه قسوة الحياة في غيابه. وتدعو الله أن يؤنس وحشته فهو وحده القادر على ذلك.
مسح بيده على مقدمة رأسه كأنما تذكر تلك اللحظات بتفاصيلها.
- اتعلمين؟ هذه الورقة كتبتها بنفسي. كنت تهذين بهذه الكلمات فحرصت أن أدونها حتى أسألك عنها عندما تستردين كامل وعيك. تركتك بضع دقائق لأطمئن على حالة الاولاد و الغريب أني عندما عدت وجدت عندك الأطباء انتظرت حتى غادروا و سألتك لكني وجدتك لا تعلمين عن هذه الكلمات أي شيء و ظلت في متعلقاتنا بالمستشفى حتى عدنا إلى هنا. لكن أين وجدت هذه الورقة؟
- تعلقت نظراتها بالكلمات على شفتيه وتذكرت.. بالفعل حدث ذلك. ولازلت حتى الآن لا اتذكر هذه الكلمات و لم أدر لِم كنت أرددها وأين سمعتها؟
ما حدث فجأة وأنتشلها من بحر الذكريات صوت فريد يتحدث بصوت مرتفع . لا أحد معه في غرفته.
لم يفعلها فريد من قبل. فهو عبقري فنان هادئ حالم.
ذهبت إليه مباشرة. طرقت الباب عدة مرات و لم يرد فهو لايزال منهمك في الحديث. فتحت باب الغرفة . لا أحد معه. ولا يتحدث مع أحد من زملائه في الهاتف.
وقفت أمامه. لم يشعر بها وظل على حاله؟
ظنت أنه مسه طائف من الشيطان. أخذته في حضنها. عانقته بكل الحب. فلم يمنعه ذلك من التوقف عما يفعل. . ظلت تدعو الله وهي تبكي. يارب يارب أرجوك ليس مرة أخرى. لن أتحمل. كن معي يارب. ماذا يحدث لإبني؟ فريد.. فريد..
- نعم يا ماما. رجع لهدوئه و طبيعته في لحظات و كأن شيئا لم يكن. لم يفهم حديثها عندما حاولت أن تعرف منه ماذا ألم به.
احتضنته والدموع في عينيها و طمأنت نفسها. لعله مرهق فهو لا ينام كثيرا. سحبها الأب بهدوء وربت كتف ابنه وقبله على جبينه ثم تركاه. وغادرا الغرفة. ذهبت هي لتحضير طعام الغذاء و الأب ذهب ليتوضأ ويصلي العصر كان في سجوده يدعو الله كثيرا أن يحفظ لهما ابنهما.
مرت الأيام والشهور وكل شيء طبيعي و بخير. لم يحدث ما يثير قلقهما. حمدت الله على ذلك لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير.. ماذا لو تكرر ما حدث؟!!!
إلى اللقاء في الجزء السادس