أردفت: لا مراحل لاحقة صدقني لن يكون ذلك. لن أدع ابنيِّ يتركاني لحظة واحدة بعد الآن، ثم نظرت إلى وحيد تتلمس ملامحه بقلبها و اناملها. صمتت فترة ثم سألته هل كنت تعلم عني يا وحيد؟ هل شاركتهم في ذبحي؟
كيف يا أمي وقد كان عمري لا يتخطى بضعة اسابيع!! لم أعلم إلا أنني في مدرسة داخلية أنال أعلى رعاية و أفضل تعليم. قاطعته: نعم كمن يهيئون
ضحيتهم قبل الذبح.
أكمل حديثه : قد يكون هذا صحيحا فلم أشعر يوما بالعواطف الدافئة رغم كل هذا الاهتمام. كان كل شيء معدا. لا خيار لي ولا إرادة حتى في اختيار ملابسي لأنها كانت إحدى نقاط التجربة في إحداث التشابك بيني انا وأخي وهي بالفعل نفس الملابس التي أراها في الصور المرسومة أمامي الآن. قد كنت يا أخي جزءا من الخطة دون أن يدري كلانا بالأمر. و كنت أُعَد لأمر آخر بالغ الأهميةأخذ كل وقتي وتفكيري وهذا كان مقصودا.
إلى أن جاء موعد تنفيذ أول اتصال كمومي لحظي بين التوأمين وحيد و فريد وهو ما ظهر على فريد بما يشبه الفصام لكنها كانت رسائل آنية متبادلة نجح فريق العمل في اتمامها بنسبة نجاح مائة بالمائة. هنا أُخبِرت بالأمر بكل تفاصيله من خلال فريق متخصص وجلسة مطولة يتحدث فيها معالجون نفسيون اوصلوا الأمر إلىّ بشكل يجعلني أتقبله بأقل ردات فعل كخطوة حتمية في سلسلة خطوات التجربة المعدة بحسب الجدول الزمني المكتوب.
قالت له و اللهفة والخوف يأكلان كبدها: وماذا كان رأيك؟
هل فكرتِ يا أمي فيمن عاش فردا وحيدا ثم يعلم فجاة ان له أسرة أب و أم و أخ توأم. رغم تضارب المشاعر و احتداد الصدمة إلا أني كنت سأقبل بأي شرط يجعلني التقي بأسرتي ولو مرة واحدة لأنعم بلحظات دفء حًرمت منها لسنوات.
قال الأب لكنك معنا الآن ولن يكون الدفء للحظات بل ستعيشه معنا العمر كله إن شاء الله.
هنا التقط أحدهم الحديث غير متخليا عن نظارته المعتمة:جئناكم من أجل مهمة واضحة فالأمر لن يتوقف عند هذا الحد بالتأكيد.
لا تقل أنك ستأخذ ابني مني مرة أخرى. لست أحمقا كي تتصور أنني سأسمح بذلك.
بل نريدهما هما الأثنين.
سادت لحظة صمت من الجميع قطعتها ضحكة مرتعشة منها وهي تقول: أنت مجنون. أليس كذلك؟
بل هي الحقيقة.. وجودنا هنا هو السبب الذي منحك فرصة رؤية وحيد مرة أخرى.اشار لها زوجها بالانتظار بينما قال فريد: ماذا تعني؟
حان تنفيذ المرحلة الثانية من التجربة والتي ظل وحيد يتدرب عليها لسنوات. سكت برهة وهو ينظر إلى وجوههم ثم أكمل بكل هدوء. سيسافر رائد الفضاء وحيد هو وفريق العمل في مهمة رسمية إلى إحدى مجرات مجموعتنا المحلية والتي تحتوي على ٥٠ مجرة هدف الرحلة يبعد عن مجرتنا بما يقارب ٥ مليون سنة ضوئية و قد أعدت مركبة فضائية بمواصفات خاصة لذلك.
من المعلوم أن الجسيمات التحت الذرية المتشابكة تكون متصلة مع
بعضها بنوع من الثقوب الدودية الكمية
الثقوب الدودية هي معابر بين موقعين في الكون. فنظريًا إذا سَقطتَ في جهة من الثقب الدودي فإنك ستظهر في الجهة المقابلة فورًا تقريبًا، حتى وإن كانت تلك الجهة بعيدًا في الطرف المقابل من الكون. لكن الثقب الدودي ليس بوابة بين موقعين في الكون، بل هو بوابة لزمانين مختلفين في الكون أيضًا،
بدا ثلاثتهم فاغري الأفواه يحاولون استيعاب ما يقال بينما وحيد والغرباء ذوي النظارات المعتمة لا يبدو عليهم أي اندهاش فهم متوقعون تلك الصدمة على الوجوه. أكمل حديثه: أما فريد فسيأتي معنا بالتأكيد لإجراء اختبارات التواصل ومعرفة مدى فعاليتها.
قالت: من سيسمح بهذا؟
رد أحدهم وكانت لغته العربية خالية من أي لكنة أجنبية: أنت من سيسمح بذلك. فجميع الدول في سباق للوصول إلى هذا العلم الذي سيفيد في الحواسب الكمومية وتشفير وتأمين وسائل التواصل وسرعتها لتصبح لحظية عن طريق إحداث تغيير محدد في أحد المتشابكين مما يؤدي إلى إحداث تغير مماثل آني في الآخر مهما كان الزمن أو كانت المسافة. وسيكون لذلك أثره في مجالات الطب والهندسة وكل فروع العلم بما يعود بالنفع على البشرية. وقد قُدم لنا عرض بالتعاون معهم لنكون من الدول الرائدة في هذا المجال وربما نسبق الآخرين ونصل إلى نتائج مبهرة بتعاوننا معا و سيخلد اسم وحيد وفريد في سجل الشرف العلمي الذي لن تمحيه السنون.
قال الأب: وما مدة هذه الرحلة؟
ساد الصمت فجأة ثم أكمل حديثه: هنا تكمن المعضلة. المدة غير محددة ولكنها ستستغرق سنوات
صاحوا ثلاثتهم في نفس واحد: سنوات!!!
ربت وحيد كتف أمه و أبيه ونظر والدموع في عينيه لأخيه شريك التجربة القادمة وشريك الجسد سابقا. لكنهم جميعا شركاء الحرمان.
أكمل حديثه ملقيا كل مافي جعبته من سهام قاتلة.
ليت الأمر يقف عند هذا الحد..
عندما ينتهي وحيد من مهمته بعد عدة سنوات ويعود سيكون الوقت قد اختلف تماما على الأرض فربما تكون عشرات السنوات قد مرت.
قاطعته:؛تعني اننا سنموت قبل أن نرى أولادنا مرة أخرى ؟!
قال: من جهة الرؤية حتما سيكون هناك وسائل متاحة للرؤية الدورية والتواصل الدائم مع وحيد وسيسمح لكما أيضا بزيارة فريد على فترات بالتأكيد.
هل سنعيش وحيدين ما تبقى من عمرنا؟ وأبنائي عزوتي هل كُتب علي أن اتخلى عنهما الواحد تلو الآخر. قالها الأب بحزن بالغ
رد عليه ذو اللكنة الأجنبية بل سيتحدث التاريخ عن ابنيك. أحدهما رائد فضاء والآخر عالم كبير شاركا في أعظم تجربة علمية ستدرس في المناهج الأكاديمية و سيعلم الصغار هذين الاسمين جيدا فريد فهمي ووحيد فهمي و ستصبحان ضيفين في جميع وسائل الإعلام العالمية و ستكونان فخورين باولادكما في جميع المحافل.
قالت: لا تساوموني على أولادي.
رد عليها مجددا: بل نرسم لهما مستقبلا يتمناه أي والدين محبين لاولادهما. ماذا لو كانت أمنية وحيد منذ الصغر ان يصبح رائد فضاء؟ هل كنتما ستمانعان أم كانت ستشتد فرحتكما به و ستبذلان أقصى مافي وسعكما لمحاولة تحقيق حلمه؟
لو جاءت لفريد منحة للعمل مع أكبر وكالات الفضاء العالمية هل كنتما ستقفان في طريقه أم ستباركان خطوته وتدعوان له بالتوفيق . .
سنترككما تفكران وتستشيران ابنيكما وسنعود غدا ونحن واثقون من النتيجة، لكن عليكما أن تعلما أن الحياة ليست نزهة كما أنها ليست دار البقاء وعلى كل منا أن يترك بصمته ويساهم بنصيبه فبها قبل أن يغادر.
تركوهم ورحلوا في لحظة فارقة من حياتهم ينظر كل منهم إلى الآخر. هل هي نظرات تعوض سنوات من الحرمان مضت أم نظرات وداع استعدادا لمرحلة جديدة من حرمان أكبر سيكون هذه المرة من اختيارهم؟...
تمت.