ضوء ضرب عينيه المحتقنتين فلم تقو جفونه المثقلةُ على متابعة الحركة فكان الاستسلامُ للنوم هو سبيله لبلوغ السكينةَ التي ينشدُها من عناءٍ لم يعلم مصدرَه لكنه ألمَّ بكل خلية من خلايا جسده. أغمض عينيه ولكنه لا يزال يرى الضوءَ بكامل سطوعه و كأن جفونَه أصبحت أكثرَ شفافية وانفاذا للضوء لكنها لازالت غيرَ قادرة على الحركة . خبا الضوء شيئا فشيئا و ظل يخبو حتى أعتم تماما و سيطر الظلامُ على محيطه الكائن في تلك البقعة غير محددة الإحداثيات.
غيبوبة طويلة متقطعة ظل يصحو ويغفو مرات و مرات إلى أن جاء من أجبره على الإفاقة فلن يظل هكذا ساكنا ممددا على ظهره مدى الحياة.
_ هل أنت بخير؟
_ ما هذا الصوت؟ هو أشبه بارتداد الصدى من جبل بعيد. اشعر أني اخف وزنا وكأني روح هائمة تحررت أخيرا من محبسها في جسد فانٍ لم يعد يتسع لها فآثر أن يطلق سراحها إلى رحابة الملكوت اللانهائي. ما هذا؟ هل أنا ميت؟ هل روحي تطفو في عالم غيبي؟
كرر الصوت صلصلته: هل أنت بخير؟
رد بوهن ملحوظ : لا أدري لكن أرجو أن أكون حيا.
ضحكة عالية لم يدر كيف انفتحت لها جفونه بلا تردد أو ألم.
نظر حوله فلم ير شيئا سوى ضوء أبيض قوي يخفي معالم المكان من حوله فلا يدري إن كان في صحراء انتصف نهارها أم فوق قمة جبل يلفه الضباب من كل جانب. لا يشعر ببرودة او حرارة. نظر حوله. المكان غير مألوف بالمرة فلم يشاهد مثله من قبل و لكنها تبدو كغرفة عمليات بإحدى المشافي. تأكد من ذلك عندما رأى جسده وقد غطت كل بوصة منه تلك الأجهزة التي تبدو أنها تقيس وظائفه الحيوية مُصدٍرةً طنينا و نبضات غير معتادة.
_ أين أنا؟ ماذا حدث لي؟
_ اطمئن أنت في أمان. سنتركك ترتاح لبعض الوقت حتى تسترد كامل عافيتك و وعيك وحين نعود سنجيب عن كل أسئلتك.
_ من أنتم؟
_ إلى اللقاء.
كيف لكل هذا الغموض أن يدعني أنعم بأي قدر ولو ضئيل من الراحة.
لا أعلم أين أنا ومن هؤلاء الذين يتحدثون إلى؟ اسمع اصواتا لكني لا أرى أي ملامح. لماذا يتحدثون إلى من خلف ستر تحجبهم؟ ليتني أستطيع تذكر ما حدث.
راودته الظنون و سيطرت على عقله أفكارا متداخلة جعلته أكثر تشويشا.
حاول النهوض ولم يستطع فكان جسده مقيد الأطراف. مشدود عليه أحزمه من المنتصف جعلت قيده أكثر إحكاما.
لم يبق له إلا التجول خلال أفكاره فهي دائما ما تأخذه بعيدا حيث اراد.
لكنه اليوم لا يريد إلا أن يعرف. أن يفهم...
قفزت أولى أفكاره من أعماق عقله فكأنما كانت تنتظره أن يسمح لها بالحضور فجاءت على عجل تسبق أخواتها الذين توالى حضورهم..
هل اختطفتني إحدى مافيات سرقة الأعضاء التي تجري التجارب السرية على البشر؟ بالفعل قد أكون قابلت أحد افرادها في سفرياتي المتعددة. لكن أين بالتحديد؟ قد تكون فيينا فأحد المتحدثين في المؤتمر كان يناقش هذا العنوان الكبير عن الشفرات الوراثية واستخدامها للتحكم في الامراض وخلق أنواع من الأسلحة تستهدف أجناسا دون أجناس وغيرها من الاستخدامات غير الأخلاقية. ما أزعجني أني كنت أراه في كل مكان أو ربما خيل إلي أن طيفه يلاحقني و كأنه يتبعني أثناء جولاتي المعتادة في جميع المعالم الثقافية والحضارية هناك
لم أخطئه في قصر شونبرون حين قل عدد المترددين على الغرف الأخيرة ذات التذكرة الإضافية. كان منهمكا في سماع الشرح من خلال السماعات الالكترونية. رأيته في بيت الرعب المظلم في مدينة ألعاب براتر و عندما كنت أجول ببصري من أعلى نقطة للعبة الساقية التي ترتفع لتطل على فيينا بأسرها. حتى أني رأيته في أحد شخصيات مدام توسو في متحفها الشهير. الأغرب ما حدث عندما قررت في آخر لحظة أن أذهب لرؤية مبنى الأمم المتحدة فقد لمحته على الضفة الأخرى من نهر الدانوب المتجمد. لكني لم أشاهده أمام بيت موتسارت في الشارع الضيق ولا اثناء عزف سيمفونيته الأربعين في اوبرا فيينا و التي غنت فيروز على أنغامها اغنيتها الشهيرة " يا أنا وياك " ليست النمسا. إنها حتما إيطاليا فلا يعقل أن أكون صادفته في ماليزيا فلم أقض فيها إلا ثلاث ليال حتى أني لم أتمكن من زيارة البرجين التوأم " بترونس " فقد ضاع الوقت في China town و رؤية فن الباتيك لأحضر لزوجتي إحدى القطع المميزة لترتديها في عيد زواجنا فكم أعلم حبها لهذا الفن ولكل عمل يدوي متقن. بالإضافة الي الكريم المستخلص من اللؤلؤ الذي أحضرته معي بناء على إلحاح البائعة ولم أعلم إن كانت زوجتي استخدمته أم لا فهي حريصة على بشرتها ولا تضع عليها إلا المنتجات الموثوق بها . أعلم أنها إيطاليا فهي بلد المافيا ولعل التشابه الكبير بيني وبين أحد أثرياء المنطقة جعلهم يتابعوني ليتأكدوا من هويتي ويساومون على ثروتي الطائلة. لم أنس الأجواء المرعبة في فينيسيا مساء. هذا الشارع الضيق في سان بولو حيث كنت اقطن في شقتي الحديثة التي استأجرتها لليلتين. كان الرعب يلف قدمي عندما أرى هذا العجوز الذي يبقى في متجر الكتب الخاص به عند منتصف الطريق حتى وقت متأخر من الليل. كنت لا ألتفت إليه حتى لا اجذب انتباهه لكني مع ذلك كنت أتابعه بطرف عيني حتى أصعد السلم الحجري العتيق عدوا و أغلق عليّ باب شقتي رغم الباب الأخضر العملاق الثقيل الذي يخفي خلفه تماثيل رخامية بيضاء في بهو المنزل وانا اقطع الممر شديد الضيق بجوار صناديق القمامة متعددة الألوان والأغراض فاصطدم بإحداها لتصدر صوتا يجعلني أسرع من خطواتي . هل كان هذا الذي ينفث الدخان الأزرق من سيجارته المحشوة هو وصديقته خلف كاتدرائية سانتا ماريا على جزيرة سالوتي. لقد كان صوت الجندولات المتراصة بأربطتها الخشنة القوية يحدث أصواتا مرعبة عند اصطدامها بحافة المارينا في المساء وكأنها تثبت تواجدها كمعلم سياحي هام لايمكن أن ينام في البندقية مهما كان المساء قارسا ومخيفا ومهما انصرف سكانها شديدي الرقي إلى " تياترو دو لا فينيس " لمشاهدة أحدى عروض الأوبرا الرائعة. كان القنال الكبير و جسر ريالتو و كاتدرائية سان ماركو أجمل ما أذكره في فينيسيا بعد جزيرة مورانو بزجاجها وبيوتها الملونة فلم أذكر ما يثير ريبتي هناك.
أووه ..تبا لتلك الأفكار. كيف أفكر بهذا الشكل الطفولي؟ فلِم يلحق بي أحدٌ من هؤلاء. لماذا يحاولون الإضرار بي و قد مرت سنوات على تلك الزيارات ولم يكن هناك أي سبب يجعلهم يستهدفوني أنا بالتحديد. إنها نظرية المؤامرة تسيطر علي و تبعدني عن التفكير المنطقي... بالتاكيد الأمر أعقد من ذلك بكثير. لعل تلك المخلوقات الميثولوجية من الرماديين اختطفوني بعد أن وقع الاختيار علي بحسب اتفاقية جريادا. إذن
لم تكن اتفاقية مزعومة كما اعتقدت. إن كان الأمر كذلك فكيف لي أن أمنعهم من محو ذاكرتي قبل أن يطلقوا صراحي كعادتهم مع كل من يلتقي بهم في جوف الأرض. ام تراهم يقومون بمحو الذاكرة لحظة بلحظة؟! و لم لا فأنا لا أذكر شيئا مما حدث لي حتى وجدت نفسي هنا الآن.
يكاد عقلي يذهب كما ذهبْتُ أنا فهل سأعرف كيف استرده؟ وقد يكون هذا هو هدفهم. أن يسوقوني إلى الجنون وأنا مشغول بتطبيق نظرية الاحتمالات هذه. لا لن أمكنهم من هزيمتي. سأستعيد هدوئي و رزانتي وما خفي عني الآن، حتما سأعلمه عما قريب حين يعودون. إن عادوا...
إلى اللقاء في الجزء الثاني