يدخن غليونه الأنيق وينفث بتأنٍ دخان التبغ الفاخر. غاب الأفق عن ناظره للحظات خلف سحابة الدخان صابغة كامل جسده بالنكهة الفريدة التي يعشقها وقد تشبعت بها كل خلاياه ليتذوق من خدرها الناعم اللذيذ ما يجعله يسترخي ما تبقى له من زمن رحلته.
قبل أن تنهي أعمدة الدخان رقصتها الثعبانية بفعل هواء المحيط الساحر عاد الأفق إلى سيرته الأولى؛ عميق أطرافه مترامية و متداخلة مع سطح الماء. تأملات رائعة أنفق الكثير من أجلها.
فتلك المياة الداكنة؛ أمواجها العميقة متخفية بعيدا عن السطح تراقصه رقصة الحياة. تهدهد سفينته برفق فتتمايل بدلال تستدعي إليه ذكريات البلدان الساحرة التي زارها.
كانت الهند من أهم محطاته بعد المكسيك والبرازيل والكونغو؛ عشق أساطير الهند القديمة. ذكرته المياة العميقة بصحاف الماء المملوءة بمياة أنهارها المقدسة وتعاويذ كانوا يقرؤنها من أجل شفائه من مرض شديد ألم به وكاد أن يودي بحياته لولا رعاية اهل تلك الأرض التي تعبئها روائح البهار الممزوجة ببريق الذهب. ما أجمل أصباغها الصارخة الألوان عند امتزاجها مع مروج الشاي الخضراء الشاسعة. كل هذا العبق عجل بشفائه. بعد منحه لقب البارون من ملك فرنسا مكافأة له على مجهوداته في إنشاء مترو باريس. وبعد عدة مشروعات اقتصادية ناجحة جعلته أحد أثرياء العالم؛
قرر المهندس والإقتصادي البارع إدوارد إمبان أن يشبع حبه للسفر والترحال ويجوب البلدان. وكانت محطته الأخيرة هي تلك البلد ذات الحضارة العريقة التي أسرت لبه وجعلته أشد ولعا بها من أي مكان آخر زاره مما جعله يقرر الاستقرار بها ويوصي أن يواري جسدَه ترابُها وأكد على ذلك في وصيته المكتوبة.
لاحت ظلال الأهرامات من خلف الرمال الصفراء المترامية.
لكن شيئا ما قطع هذه الرحلة البديعة بجمالها و إثارتها.
فجأة أظلم كل شيء.
- عليك أن تذهب إلى فراشك حالا. لقد تأخر موعد نومك الليلة كثيرا.
ذهبت إلى غرفتي مهموما بعد أن أغلقت أمي التلفاز. لقد كان فيلما رائعا أثرني وزاد من رغبتي في معرفة المزيد عن صاحب قصر البارون الذي يقبع منذ سنوات في مواجهة شقتنا بالدور الرابع من تلك البناية العريضة. كم تمنيت أن أكون كبيرا بما يكفي لأعترض و لأقرر متى أنام ومتى أصحو.
كثيرا مارغبت في زيارة القصر الذي أصبح قبلة السائحين من جميع أنحاء العالم، لكن رغبتي هذه كانت دائما تقابل بالرفض القاطع غير المبرر.
تمددت على فراشي وأطفأت نور المصباح بجانبي. فانقطع ماتبقى من نور خافت؛ وأظلمت الحجرة تماما كما أظلمت حياتي التي لم تزل في بدايتها.
كان همس أمي يصلني وهي تتحدث إلى جارتنا العجوز أولجا. عادت من إيطاليا بعد أن هاجرت إليها منذ سنوات؛ وقد اعتادت ان تأتي إلينا كلما زارت مصر لتعيش ذكريات الأيام الخوالي حين كانت تقطن معنا في نفس الدور في الشقة المقابلة. لم تحضر معها هذه المرة حفيدتها تاتيانا التي أفتقدها كثيرا رغم أني أتابعها دائما وأتواصل معها أحيانا على انستجرام.
كانت أمسية مملة بغياب تاتانيا وإجباري على النوم دون إكمال فيلم ادوارد إمبان.
بدأ صوت الهمس يعلو قليلا حتى أنني أستطيع تمييز بعضا من حديثهما. يبدو أنهما اعتقدتا أني خلدت إلى النوم.
_ هل تتذكرين عندما كنا نسمع موسيقى قادمة من القصر ليلا وأصوات تحريك للأثاث بين الغرف؟ لن أنس عندما تصاعدت النيران من النوافذ وخرجت أعمدة الدخان من أعلى البرج ثم انطفات النيران وانتهى كل شيء.
لم تمر إلا لحظات وتعالت صوت صرخة مدوية ملأت أرجاء المكان قادمة من ناحية القصر ثم ارتطام شديد بالأرض.
خرجت أمي مسرعة إلى الشرفة وقد سبقتها أولجا إلى هناك. صرخت أولجا وهي تقول: هيلانا...
سقطت فتاة من أحد شرفات القصر. لكن كيف والوقت قد تأخر والقصر يقفل أبوابه قبل الخامسة عصرا أمام الزائرين. تساءلت أمي: هل عاد عبدة الشيطان إلى المكان من جديد وهذه واحدة منهم؟ ألم تقبض عليهم الشرطة منذ أكثر من خمس وعشرين سنة؟
أكملت أولجا حديثها: ذكرتني بهيلانا أخت البارون. لقد لاقت نفس المصير ومنذ ذلك اليوم المشؤوم؛ توقفت تروس البرج عن الدوران. و سكنت الأرواح المعذبة جنبات القصر تريد التحرر.
أضيئت أنوار القصر وصدحت نغمات الموسيقى العذبة من الفرقة الموسيقية الإيطالية وقد توسطت حديقته الغناء التي تحيطها أشجار الموالح والزهور والنباتات النادرة. بينما كانت الشموع الطويلة تزين الشمعدانات الذهبية التي اصطفت على السطح المزخرف بتلك التماثيل الهندية وهي تغمز بأعينها الرخامية وتشارك الحضور رقصاتهم الأنيقة.
دبت الحركة في كل مكان وانتشر الخدم بزيهم المنمق يحملون الصواني الفضية التي يعكس بهاؤها حمرة ما تحمله من كؤوس النبيذ المعتق.
في القبو الحال يختلف.. دق جرس المصعد الضيق عدة مرات. اقتربت إحدى الخادمات منه وهي تحمل بيدها أباريق الشاي الأسود المفضل لدى الطبقة البرجوازية والمعد من مزيج الشاي السيلاني، وشاي الأسام ، وشاي دارجيلينغ الهندي. تسمرت أمام المصعد دون حراك. بدت ساهمة واجمة والدموع تنهمل من عينيها المحتقنتين.
الدقات متواصلة وتبعتها إضاءات مرتعشة لمصباح المصعد استدعى صديقتها التي هرولت إليها وتناولت من يدها الصينية الثقيلة ووضعتها بالمصعد وتركتها تصعد للطابق العلوي. ثم ربتت كتفها وأخذتها بعيدا وهي تحتضنها وتشاركها الحزن على ذكري السيدة دي مورييه رئيسة الخدم الذي تسبب ذلك المصعد في فصل رأسها عن جسدها في حادث بشع كان حديث القصر لفترة طويلة.. القصر الذي شهد حوادث مثيلة متكررة لعدد من الخادمات وسكان القصر أنفسهم.
الجميع يتساءل: أين البارون؟ لم نره منذ أكثر من ساعة. لماذا يترك ضيوفه الذين شغلوا كل ركن من القصر بطوابقه؟ فأين ذهب؟
كان الكلب الوفي يجلس في ركن مظلم من الحديقة ممددا ذراعيه أمامه وفي عينيه لمحة حزن وقد تقاطرت منها الدموع. ينظر إلى ذلك الجسد الملقى على عشب الحديقة الرطب. إنه صديقه البارون وقد بدأ يستعيد وعيه بعد نوبات الصرع التي تصيبه من آن إلى آخر نتاج لكل ما مر به من أحداث مأسوية في قصره الذي شيده في ضاحية هليوبوليس التي لم يكن لها وجود قبله؛ وبتصميم فريد للمعماري الفرنسي ألكساندر مارسيل.
كان كلب البارون وحده من يستطيع الاقتراب منه وهو على هذه الحالة وفي كل مرة يخشى أن تكون الأخيرة ولا يعود البارون بعدها لوعيه مرة أخرى.
لم يكن هناك بد من السفر لوطنه بلجيكا حتى يتلقى العلاج هناك. لكنه عاد جسمانا في صندق خشبي ودفن في كنيسة البازيليك التي شيدها بجوار قصره في مصر. لتتحق أمنيته وتنفذ وصيته بالدفن بها.
الآن تضيء القصر أضواء مضطربة زرقاء وحمراء لسيارات الشرطة والإسعاف التي ملأت المكان للكشف عن غموض حادث سقوط الفتاة من أحد شرفات القصر.
حاول المسعفون إبعاد الناس خلف شريط السياج الذي طوقت به الشرطة مسرح الحادث. وبدأ الطبيب في فحص الفتاة التي لم تفارق الحياة بعد. والتي ظلت دموعها تنهمل بلا انقطاع رغم غيابها عن الوعي. أثناء محاولة اسعافها كانت محاولة أخرى لإفاقتها.
ضربات خفيفة على وجنتيها. افتحي عينيك.. ركزي.. انتبهي.. استيقظي..
فتح عينيه وجد أمه ومعها كوب اللبن الدافئ وشطائر الخبز المحمص الغارقة في الزبد والمربي. تحمله في صينية الإفطار اليومي المعتادة.
انتبه.. استيقظ.. افتح عينيك. ستتأخر عن موعد المدرسة. لن تدع سيارات الشرطة حافلة المدرسة تتوقف كثيرا لنتتظرك.
أسرع...
قام متثاقلا ونظر من نافذة غرفته. فوجد قصر البارون قائما في مكانه وكل الأمور تبدو طبيعية. فتناول افطاره بسرعة وارتدى ملابسه ووقف أمام المنزل في انتظار حافلة المدرسة التي لم تتأخر. جلس بجوار النافذة وهو ينظر إلى القصر والحافلة تبتعد وكله عزم أن يزوره يوما.