. شنطة سفر
كان اللقاء الاول في صالة المغادرة بمطار القاهرة لمحها من بعيد.جذبته بتوردها الذي يشع بهجة مستعرة. تلك الهالة المتوهجة التي تحيطها لينال كل من يقترب نصيبه من شظاياها المتطايرة فيشتعل صميم قلبه شغفا و حبا. نشيطة هي وحماسية و لا تكف ابدا عن الحركة. رغم انها مقيدة في يد صاحبتها. لاحظ انبهارها بما حولها فعلم أنه سفرها الأول.
بينما هو المخضرم الذي قضى السنوات في المطارات يغلب عليه اللون الداكن الذي خيم على حياته و قد انقضى منها الكثير في ترحال شاق متواصل ترك آثاره الواضحة على أشلائه الممزقة التي لم تفلح كل محاولات الترميم في اخفائها بتلك الدرزات التي توجع أكثر مما تصلح. هل يمكن أن يلفت نظرها بمظهره الرث وسط كل هذا المحيط الزاخر بعيون رامقة تأكلها أعجابا و رغبة. تمنى لو وجهت تلك الحركة الدائبة نحوه فهو لا يملك الشجاعة على اتخاذ هذه الخطوة. ولكن كيف لهما ذلك وهما لا يملكان حرية التصرف. فكل منهما رهن قرار صاحبه.
النداء الاخير للرحلة.. متوجه بلا ارادة منه الا إرادة البحث عنها وسط الحقائب المصطفة. نعم هي قريبة يشعر بطاقة الحب وحرارته تنبعث من العربة الأمامية و قد تعلقت عربته بعربتها تتبعها وهي تسير بمحاذاة حافلة المسافرين. لم يمكنه ازدحام المكان الخانق من رؤيتها الا بعد ان انعطفت تلك العربة يمينا فظهر نورها الخاطف الذي لم يلبث ان اختفى بفعل الهزهزات على مدرج المطار فبرغم نعومته كانت الحركة تهدهدها و تهز أركانه بحثا عنها بعيون زائغة و قلب مرتجف. تمنى لو جاورته خلال الرحلة لكن هيهات. فهو لا يتذكر آخر مرة تحققت له فيها أمنية. فكم تمنى استراحة قصيرة أو معاملة طيبة او حتى أن ينال جزءا مما يستحقه من احترام ومعاملة تليق بكل ما يقدمه ويبذله.
كان مستندا على أحد أركان الأمل و قد أسلم عينيه لحلم منتظرا تحققه بين لحظة واخرى و إن لم يتحقق فيكفي أنه عاشه كما أراد في خياله. هكذا كان يفكر دائما و هكذا لم تتحقق معظم أحلامه وقد قنع بكونها أحلاما. وربما كان هذا خطأه الذي لم تكن لديه رغبة يوما لإصلاحه الا اليوم. انتهت الجلبة وحوارات العاملين وأغلق الباب على ما تحمله بطن الطائرة من حقائب ليستفيق على ورودها الأريجية الساحرة. هي بالفعل بجواره ليس حلما بل حقيقة لا يفصله عنها إلا بعض الحقائب و أحزمة الأمان تلك التي ستبقى مقيدة له طوال الرحلة. لكن هل تمنع روحه من معانقتها؟ لن يعوق هذا القيد حديثا كم تمنى لو حدثها به منذ أن رآها ولكن قد يعوقه تلعثم لسانه الذي اعتاد الصمت لسنوات. و قد حان الوقت للتخلي أخيرا عن صمته. فالقدر الذي منحه هذا القرب يذكره أيضا بأن الوقت يمر ولا عزاء إن ضيع فرصته هذه المرة ايضا فقد تكون الأخيرة.
أرسل إليها بكل الحب الذي يجيش به قلبه تحمله ابتسامة رقيقة. بادلته عينيها الناعسة بابتسامة أرق ثم لم تلبث هاتين العينين أن استسلمتا لغفوة حالمة وإن كانت قد حرمته متعة الحديث الذي استعد له بكل حماس لكنها لم تمنعه متعة الصحبة والألفة، بل مكنته من إمعان التطلع لسحرها بكل هدوء خشية أن توقظها نظراته. دعته تلك النظرة الباسمة الخاطفة للتسلل إلى جوهرها العميق الذي كان أشد حلاوة من مظهرها الخارجي رغم بهائه. كانت لحظات من السعادة روعتها من روعة القرب الآمن من التقلبات المفاجئة طوال فترة الرحلة. رغم الحرارة المنبعثة فقد كان على يقين انها الحرارة اتي سببتها أول نظرة إليها.حتى أنه لم يلحظ أن الجميع يتفصد عرقا من حوله . هل يعقل أنهم يعانون الحب الذي أعانيه؟ حذاري أن تحبونها. هي لي طوال الرحلة. لا تحرموني منها أو تشاركوني مشاعري تجاهها. لا تستكثرون هذه اللحظات المؤقتة على قلب عانى جفافا وقحولة طوال سنوات.
أضاء المكان وانفتح الباب وعادت الجلبة. و بدأ العمال في حمل الحقائب. لا لا توقظوها... بل أيقظوها لعلي أحظى بنظرة أخرى.
دُفع دفعا في الممر الضيق المظلم ليخرج منه وقد استطدم بمصد صغير وتوقف قليلا ليرى المسافرين كل يحدق فيه بنظراتهم المتفحصة و قبل أن ينطلق في طريقه على السير الكهربائي اصطدمت به قادمة من الخلف غيمة وردية رقيقة فاعتذرت منه بابتسامة وكلمة أسف كانت كفيلة أن تحلق به مجددا رغم هبوط الطائرة.
رأى من حوله كل يُجذب من فوق السير بسرعة قبل أن يُحمل بعيدا ليدور دورة أخرى أما هو فكان في انتظار دوره. جذب بشدة وطرح أرضا بشكل مفاجئ وهي كذلك ابتعدت مع أحد الفتيات المسافرات . كان يعتصر ألما كلما ابتعدت أكثر فألم الفراق قاس و أشد ألما من تلك الدفعات و الهبدات العنيفة. كادت أن تغادر صالة الوصول الى الخارج وهو لايزال مدفوعا بيد هذا العجوز الذي اوسعه ضربا وركلا ليستقر أخيرا على عربة ذات عجلات كالعاجز الغير قادر على الحركة. بالفعل هو عاجز عن الحركة والكلام والاعتراض والتعبير لكنه غير عاجز عن الحب
وصل أخيرا إلى الخارج. كانت بانتظاره بجوار الفتاة الرقيقة التي كانت تحتضن أقاربها بكل سعادة و قد أبدى جميعهم أعجابا بحقيبتها الوردية اللون الجديدة بزهورها الاريجية الجميلة. منح دقائق أخرى قبل أن يراها تحمل لتوضع على كرسي السيارة الخلفي ليغلق الباب و تنطلق السيارة واضعة كلمة النهاية لأجمل رحلة مر بها منذ سنوات. فهكذا هي الحياة نلتقي لنفترق. نمنح الفرص لتسلب منا. نعيش الأحلام أكثر ما نعيش الواقع. إن لم تكن فاعلا ستكون حتما مفعولا به. قدرك تابع لأقدار الآخرين. لكن لحسن الحظ أنك من تختار أي الطريقين تسلكه.
ركب العجوز تاكسيا كان منتظرا بعد أن تأكد من وضع السائق لحقيبته العتيقة المهترئة في الصندوق الخلفي. وانطلق بهما التاكسي مسرعا. آلمته ظلمة المكان وضيقه لكن وحدته كانت أكثر إيلاما وهو لا يعلم هل سيراها يوما؟ هل هناك رحلات جديدة أم هذه آخر الرحلات.