وصل القطار إلى القاهرة وهي لازالت لا تعلم المفاجأة التي أخبرتها عنها والدتها هي تعلم انها داخل المفاجاة الآن و انها تحدث بالفعل لكن ما هي ؟ لا ليس الهرم مرة أخرى تريد شيئا جديدا. صحيح انها تستشعر رهبة ما. شيء من الهيبة والجلال في الأجواء لكن بلا علامات أو أدلة تأكيدية إلا دليلا واحدا.. قلبها.. كعادتها حاولت تجميع الخيوط و تربيط الاحداث لتستكشف الأمر مادام الكل يرفض البوح بأي شيء لاطفاء ظمأ الفضول عندها.. قاطعها صوت وردة تشدو بالأغنية التي ترددها هي كثيرا في الآونة الأخيرة بصوتها الساحر رغم عدم اكتماله. الصوت الذي جعلها فيما بعد نجمة الحفلات المدرسية وأحد أعضاء الكورال المدرسي الكبير لكن تبقى أغنية وردة الأكثر ترديدا في مرحلة الطفولة المبكرة . الأغنية التي كانت ذات يوم سببا أن طرقت الجارة العجوز باب المنزل وبعد الترحيب وواجب الضيافة سألت عنها تريد أن تراها. كانت تلهو كعادتها ولكنها استجابت لنداء العجوز الطيبة التي أجلستها بجوارها وظلت تمسح على رأسها بالرقية الشرعية في مشهد تكرر كثيرا كانت بعده تنعم بهدوء و طمأنينة تجعلها تحظى بفترات نوم أكبر و أكثر عمقا. اختلط صدى الصوت الخافت القادم من الأعماق بصوت وردة الذي أصبح الآن واضحا لا شك فيه" حلوة بلادي السمرا بلادي الحرة بلادي.. وانا على الربابة بغني.." تسمرت في مكانها لهول المشهد الذي رأته أمامها. مشهد صمت معه أي صوت وتوقفت أمامه الذاكرة. نظرات الذهول وزعتها هنا وهناك ثم عادت ونظرت إلى الأم بعرفان و سعادة .. " المفاجأة ".. قفزت من على الأرض في حضن أمها فأصبح المشهد أكثر وضوحا جنودا وعساكرا وضباطا منظمون ومرحبون بالضيوف وفي الخلفية اجسام معدنية عملاقة جعلها نور الشمس الساطع تبدو كسراب مهزوز لامع. إنه المكان الذي شاهدت افتتاحه بعد الحرب باشهر و الذي كانت تقارير شبه يوميه تأتي منه بعد أن أصبح قبلة لكل الرحلات المدرسية وكانت ترى الأطفال دائما يخرجون السنتهم لا تعلم لها أم لهذا العلم الممزق ذو النجمة الزرقاء. إنه بالفعل " معرض الغنائم" كل مشاهد الحرب التمثيلية ستراها بعينبها مباشرة لا من خلال الشاشة الصغيرة أو الكبيرة ستلمس كل شيء بيديها الصغيرتين. ما أن تخطت السياج حتى تحولت إلى جندي صغير تشتعر كما يشعرون و تتصرف كما يتصرفون غير انها تنبهر وهم لا ينبهرون وكيف وهذه غنائم الحرب التي خاضوها فعليا وسط انفجارات الدانات و طلقات تخترق الاجساد ودماء وصرخات هنا وهناك . وهذه الدبابات العملاقة كانت يوما متحركة تصوب فواهات مواسيرها و رشاشاتها نحوهم تطحن العظام وتدك الخرسانات تحت جنازيرها ويبرز من قبابها عدو حاقد رغم غله لم يسلم من مدفع الآر بي جى لمحمد عبد العاطي صائد الدبابات الذي دمر ٢٣ دبابة للعدو بمفرده لذلك استحق أن يقص شريط هذا المعرض يوم الافتتاح. كانت تتجول بين ما غنمه المصريون من معدات و مركبات و زخائر لكن ما كان يثلج صدرها هو رؤية حطام مجنزراتهم والمدرعات والدبابات بجنازيها المهلهة و قد طارت من فوقها القباب و انكسرت المواسير على صدورها فكانت تبدو كمن كسر أنفه وبترت أعضاؤه فلم يعد يقوى على الحركة قهرا و ذلا. و يتوسط المكان مجسما عملاقا لأرض المعركة برمالها وتباتها وحصبائها مع الاسلاك الشائكة والجثث المتناثرة والاشلاء تنقل لمن يجلسون في منازلهم بعضا عن حقيقة الأجواء على الجبهة. و نماذج من تحصينات خط باريف المنيع الذي سواه المصريون بالارض واستولوا على نقاطه الحصينة التي تهاوت جبنا وخنوعا تحت أقدام الابطال. ونماذج للاعاشة و الترفيه داخل الدشم وتمثال لجندي من العدو كان يوما ينعم على ارض اغتصبها فزلزلت هذه الارض من تحت قدمية. كان الاطفال يمرحون داخل الدبابات التي غنمها المصريون ويقودون المدرعات المتوقفة وهي كانت تروح وتجيء وعينيها على هذا التمثال وودت لو لم يكن موجودا أو ان تتبرع هي بدفعه ارضا فربما بذلك تكون قد ساهمت بنصيبها في الحرب. رأت ما كان يستخدمه المحتل من ادوات تمويهية ومعدات ولفت نظرها فرشة حلاقة كانت تحوي من الداخل على جهاز إرسال صغير جدا. كل ما رأته جعلها تدرك أن العدو لم يكن غبيا أو ضعيفا و ان دحره لم يكن ابدا نزهة أو فيلما و قد تطلب تضحيات غالية مما جعل للانتصار عليه مذاقا أغلى و أجل ويرسخ في القلب أن تراب الوطن غالي والحفاظ عليه يهون من أجله كل نفيس. وللحديث بقية ان شاء الله