٧_ صعود اضطراري
. مرت بالتجارب القاسية التي علَّمتها أكثر مما آلمتها. خرجت منها أقوى و أقدر على تجاوز النفق المظلم دون خسائر بل أنارت الطريق لكل من اقتفى أثرها. لم تهزمها محنة.
هل هي شخصية رمزية من وحي الخيال؟ أم واقع مرير استطاعت ان تعتصر منه السكر الحلو؟ لعلنا أنا و أنت نمثل جزء منها وليتنا كنا هي بكامل تجربتها.
فهي الثبات رغم تقلبات الزمن. هي القوة في أشد لحظات الضعف. هي نافذة عل النور حين يشتد الظلام. هي الإيجابية في عرين المحبَطين.
كانت تتساءل لماذا أبي في بيت آخر؟ لِم لا يضمنا ولو عش صغير؟ مكانه دائما خالي في هذا البيت الفسيح مهما حاول قاطنوه سد هذا الفراغ.
كثيرا ما كانت تفزع في الليل فلا تجد أبا و لا أخا يشعرها بالأمان و يسبل عليها السكينة التي تفتقر إليها، وهي لن تنتظر حتى الصباح لتعبر الشارع و تجوب الطرقات لتصل إلى ذلك الحصن حيث أبيها ليطمئنها و يخبرها أنه موجود لحمايتها. فلحظات الفزع لا تنتظر أحدا لكنها تباغتنا وتقتحم علينا أحلامنا وتشق ستر الليل بخيالاتها و أشباحها التي تنفرد بالصغيرة الشارد عنها حضن أبيها.
ما كان يؤرق صحوها أكثر من نومها هو كيف لهذه الكوابيس المتكررة أن ترافقها حتى الجامعة. هي الآن فتاة يافعة لكنها لازلت تحلم بغارات العدو و طيرانه المنخفض ولحظات ما قبل السقوط من الجبل العالي و محاولاتها الاختفاء و الهروب من الأسود المسيطرة على الشوارع وحتى تحت الدكك الخشبية المتراصة في مدرستها القديمة. أما باب شقتهم كان بطل الكوابيس متعدد الأدوار فأحيانا يكون مكسورا ثم مخلوعا أو يبدو في مكانه لكن دون تثبيت وتصحو منهكة بعد أن قضت معظم الليل في محاولة تثبيته أو سد الثغور لمنع العدو المتربص بالخارج من التسلل لكن دون جدوى.
كان زميل الدراسة الشاب الوسيم الغني. هدفا لكل البنات في الجامعة بينما قلبه لم يدق إلا لها. كم تمنى منها كلمة أو حتى نظرة لكنها حرمته مما كانت هي في أشد الحاجة إليه، ليس تكبرا لكن توترا وقلة خبرة حتى مرت السنوات وكل ذهب في طريقة لا تعلم عنه شيئا وهو لا يعلم أنها تزوجت و أنجبت أطفالها الثلاثة و قد صاروا الآن في مرحلة الشباب. تعجبت كيف مرت هذه السنوات الطوال بهذه السرعة. لم تكن ابدا نزهة بل كانت مليئة بالأحزان والأوجاع التي نالت من كرامتها فأوهنت جسدها و أمرضته وهي تحاول العبور بسفينة أسرتها إلى بر الأمان مقاومة الغرق مرات بين أمواج عاتية من أهل زوج قساة القلوب إلى زوج لم يكفل لها حماية من أي نوع حسية كانت أم معنوية والأشد ضراوة هو عدم تقديره لتضحيات متوالية قدمتها. تخلت فيها عن مستقبلها المهني و هي الموهوبة المتميزة من أجل مستقبله هو . حرمت نفسها من كل شيء حتى الوطن لتتخذه هو وطنا في بيت خال من الأمان لم تشعر يوما انه بيتها. كانت الغريبة المنبوذة دائما. الجميع يحط من شأنها رغم علو هذا الشأن قبل الزواج.
كفكفت دموعها التي ظلت سنوات حبيسة غرفتها المغلقة. حين تخرج من هذه الغرفة لا يراها أحد إلا يحسدها على سعادتها فهي المهتمة بجمالها ورشاقتها. تخرج في كامل الزينة و الاناقة وعطرها الساحر يسبقها أينما حلت و لا يغادر إن غادرت. بينما الر وح خواء و رنين النبض يُسمع له صدى حزين في أعماقها المظلمة إلا من نور العزيمة و الإصرار.
كانت تخبئ داخل صخرة صمودها حماس لا يفتر بل هو كامن ينتظر اللحظة المحددة لينطلق محلقا حتى يبلغ عنان السماء فيقطف الحلم من أجلها ويعود ليهديها ما كان يوما بعيد المنال. عانقت حلمها بل كل أحلامها. لا تنفك عن أحدها حتى تحقق كل أمانيها فيه فتحرره ليرفرف حولها بجناحي السعادة والفخر.
كم اختلست اللحظات من الأيام والسنوات المنقضية. تخرج مكنونات نفسها على الورق فهو الرفيق الذي تطمئن إليه في البوح بكل أسرارها و أوجاعها ونواياها. أما الأوقات القليلة التي تنفرد فيها بربها دون مقاطعات كان صوتها يلهج بالدعاء مناجاة و مناداة دون تردد أو خجل. وهي على يقين أن منه القوة و إليه المشتكى و لا يجيب دعاءها إلا هو.
هي الآن الأديبة و الشاعرة حاصدة الجوائز التي يشار إليها بالبنان. لا لموهبتها فقط ولكن لتجربتها التي لم تفقدها يوما حيويتها و اصرارها أن تنعم بالحياة التي تستحقها.