هذه الديَكة نشيطة جدا.ما بالها لا تكف ابدا عن الصياح و قد عاد المصلون من صلاة الفجر ولازال صوت صياحها يعلو مما استفز الأوز المتحمس و باقي الطيور لعزف كونشرتو الصباح التنافسية وكل يريد أن يثبت أنه الأعلى صوتا. لكن المحير أين هم؟ وما الذي جاء بهم إلى هنا؟ كان البرد قارصا وكوب الشاي المضاف إليه الحليب يبرد بعد صبه مباشرة من الترمس. واتقنت سندوتشات مربى الجزر واللارينج المنزلية دورها في التغلب على كثير من برودة الجو. موعد القطار قد اقترب وازدادت حركة المسافرين في محطة سيدي جابر مع أول ضوء للنهار. الآن اختفى صوت الديكة خلف صوت الباعة وصوت القطار الذي أتى ليعلن انه السيد في هذه المعمعة.
الوقت يمر وهي منشغلة بعد أبراج الكهرباء المنتشرة على طول الطريق وسط الأراضى الزراعية المترامية الأطراف لكن كيف تكمل العد مع تلك السرعة الكبيرة للقطار كانت تحاول اللحاق بالعمود العاشر لم يكن آخر رقم تحفظه لكنه أفلت وتوارى عن الأنظار. مشهد الماشية ومعها الفلاحون متجهون إلى حقولهم كان دائما يسعدها وينسيها الأعمدة الهاربة لكنه يذكرها بمشاهد الحقول والأغنام لبلدة محمد المغاوري البطل الذي خاض حرب اكتوبر حتى انتصر ورفع العلم وعاد لبلدته التي رفعته على الاعناق وهم ينشدون "سالمة يا سلامة" هذه البلدة التي تمنت لو تجوب حقولها عدوا و قفزا كما كان يفعل محمد و فاطمة. في واحد من أعظم ما انتجته السينما المصرية من وجهة نظر الناقدة الصغيرة. " الرصاصة لا تزال في جيبي " الفيلم الذي لم تفوت سنة متعة مشاهدته وتأثرها بأحداثه وكأنها تشاهده لأول مرة كانت تطلق لنفسها العنان في الضحك والبكاء والدعاء حتى كبرت وتزوجت وانجبت وكبر الابناء وهي على هذه الحال. كان الصغار يلتفون حولها يُرَبتون كتفها وهي تبكي بحرقة لمشاهد استشهاد ابطالنا المدافعون عن أرضهم ودماؤهم تختلط بمياة القناة و رمل سيناء الغالي. إلى ان كبر الأبناء على هذا المشهد فلم يعد غريبا ان يسمع أحدهم أمه و هي تبكي بصوت مرتفع فيقول في نفسه انها مشاهد الحرب قد بدأت في الفيلم.
استقر في نفسها وهي صغيرة أمرا طالما أضحكها الآن وهو أن محمود يس بالفعل خاض الحرب. فهو صابر الذي كان مفقودا في مهمة خلف خطوط العدو
و كان آخر من عاد من الحرب في فيلم " بدور ". ألم يكن صفوت.. القائد الذي فقد أحد ساقيه في فيلم " الوفاء العظيم " وهو يمنع العدو من الوصول الى الإسماعيلية من خلال ثغرة الدفرسوار؟ و لكن يبقى " محمد المغاوري " هو الشخصية الاقرب إلى قلبها ويبقى فيلم " الرصاصة لا تزال في جيبي " موثقا لفترة ما بين الهزيمة والنصر فقد بدأ الفيلم بحوار لن تنساه كما لم تنس المشاهد.
" ايه اللي حصل في ٥ يونية؟ ايه اللي شفته؟ "
" انتوا ادرى باللي حصل. اللي شفته.. فظيع فظيع.." ثم تتوالى مشاهد من المهانة والذل و الحسرة والحزن الدامي الذي يقطع القلوب تسيطر على بداية الفيلم الذي ينتهي بمشهد بين محمد و فاطمة.
" محمد.. الرصاصة لسة في جيبك؟"
" ايوة و هتفضل في جيبي عشان لسة خايف عليك."
" خليها دايما في جيبك عشان أفضل مطمنة."
ثم يقفل الفيلم على كلمة واحدة من محمد " اطمني"
وللحديث بقية ان شاء الله