بخلفية بيضاء تنفث زمهريرا قارصا، يقبع؛ ذلك المنزل المتآكل بفعل برودة العلاقات وصقيع العادات. من خلف بابه المغلق، تفوح من ثغراته وكواته المظلمة رائحة الأسرار؛ لا يجديه التجمل الخارجي ببعض الزهور المبعثرة؛ فالداخل لايزال كئيبا ينوء بأحمال أثقلت جدرانه بانواع شتى من العذابات والحرمان.
غلاف ينبض بحكايات..
إهداء بهز القلوب، يقتلعها من قفصها الصدري تاركا المجال لشراينها وأوردتها النازفة لتكتب كلمة النهاية، يغريك بمحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه، لكن كيف وقد مضى قطار العمر يجرنا خلفه. وقد كانت كل أمانينا أن يمضي ونحن فيه.
" إهداء.. إلى عمري الذي عاشته الأيام وحدها."
مجموعة قصصية للأديبة المبدعة أستاذة صباح عبد النبي.
قد يصنفها أصحاب المناهج النقدية على أنها تتبع المناهج الحديثة وعلى وجه الخصوص المنهج الاجتماعي الذي يجعل قصر غاية التلقي على الانعكاسات المتبادلة بين النص الأدبي والواقع الاجتماعي.
إلا أن الأمر تخطى الحديث عن العلاقات الإجتماعية إلى العلاقة المركبة بين الشخص ونفسه ومحيطه القريب والبعيد ليصل الى علاقته بوطنه وبالحياة ذاتها.
فاختلطت كل المناهج السياقية الخارجية فيما بينها، الاجتماعي بالتاريخي بالنفسي.
فلم يخل الخط الدرامي للمجموعة من ابعاد سياسية واقتصادية وايدلوجية ونفسية وطبقية.
كُتبت بحرفية بالغة شملت كل تقنيات القصة القصيرة.
تكثيفا موزونا بميزان الذهب. ريشة فنان ركز الألوان بدرجات تنفذ بك إلى أعماق تاويلية لانهائية المدى. تقنية الفعل المضارع والجمل القصيرة والفاصلات والنقاط والمفارقات التي تدهشك.
لا كلمة زائدة ولا معنى في غير موضعه إلا أنها رغم حرفيتها غنية بالمفردات والتراكيب والانزياحات والصور البلاغية المذهلة.
تقول:
- في بيئتنا زروع بعض الاماكن تموت قبل الحصاد.
_ يضع أمامي كأسا مثلجا.. ينثر حولها بعض زهرات الياسمين، تتقاطر عليها دموع الكأس المنبثقة من جوانبه.
_ تقتنص قبضة قوية ذاكرتي. أنتزع من بين أنياب النسيان صوت جدتي.
_ تتأمل مؤهلها السجين داخل البرواز؛ تنتظر سنوات أربعا عجافا أخر؛ محت الاربع الاوليات.. يرفض عقلها أن تلوكها الدنيا مستمتعة.
_ هو يأبى الوقوف في صفوف العبيد لينجب عبيدا آخرين يرسفون في قيود الذل والحرمان يحتسون المر المتساقط من سماء العجز في زمن قادم.
_ تفرد العجوز شعرها على كتفيها بلون الثلج، ينطلق صوتها من حنجرة مبحوحة وحروف سقطت مكان الأسنان الغائبة.
_ تتفرس وجهي بعينين نجلاوين يشوبهما حَور أخاذ، يحميها سياج من السيوف المتراصة على شاكلة رموش.
مع عناوين داخلية تحمل معان فلسفية غاية في التركيز والدقة تصل إلى حد الإبهار.
كموت نصفي. أشلاء ابتسامة . مطر مر. نكش الأوردة . ياقوت اصفر..
في نظري أهم ما يميز هذه المجموعة القصصية إلى جانب ما سبق.
هو تنوع المواضيع، وإغراقها في بيئتها بجغرافيتها وتقاليدها ومشكلاتها.
وأن كل قصة كتبت بشكل مختلف وتقنية مغايرة حتى لكأنك تشعر أنه لم يكتبها كاتب واحد وهو ما يجعل النص حيا متجددا، حرا طليقا، بعيدا عن الملل.
رائحة الأسرار..مجموعة رائعة أبهرتني لدرجة أني قرأتها عدة مرات وتوقفت عند كثير من جملها اتأملها بعين العشق لحروفها ومدادها المستخلص من رحيق الزمن.