صباح صيفي مشرق معبأ برائحة القرنفل والورد و زهور الياسمين المتساقط من أشجاره الباسقة خلف أسوار الفلل المجاورة.
كل شيء يبدو اعتياديا عم رمضان يستقبل الخبز الساخن من العامل في أحد الأفران القريبة، و عم ابو المجد رغم المشوار الطويل الا انه الوحيد المختص بأنواع العطارة الفريدة، وفي الشارع المجاور يقع دكان عم ابراهيم ، برغم سنه الكبير إلا إنه حريص على توزيع البضائع المدعومة على بطاقات التموين. الكل في كامل نشاطه امام محلاتهم حتى عم فوزي يقوم برص أنواع الخضار والفاكهة الطازجة بشكل فاتح للشهية. و لا يزال عم سالم منهمكا باصلاح الأحذية ويجلس ساعات طويلة من العمل الشاق رغم ساقه المريضة وعكازه الحديدي.
الكل عائلة كبيرة مترابطة. لا شيء يبدو غريبا الا هذا الشباك المغلق في الدور الأرضي لأحد المنازل في الطريق إلى مدام فريال الخياطة.
خفقات و نبضات تشي بقلق بالغ.
اليوم الجمعة وأم رانيا لم تخلف موعد النضافة المنزلية الأسبوعية فهو يوم أجازتها الوحيد من عملها في التأمينات.
" ماما .. أم رانيا فين؟ شباكها مقفول. "
" دول سافروا خلاص. رجعوا بور سعيد."
" و رانيا كمان؟ و اختها الصغيرة ؟"
" طبعا و باباهم. كلهم. رجعوا لبلدهم."
" يعني مش هنشوف رانيا تاني؟ معقول مش هنوحشهم؟"
" اكيد هنوحشهم بس أكيد بيتهم ومدينتهم واحشاهم اكتر."
" وشقتهم اللي هنا؟ "
دي شقة قرايبهم لكن هناك بيتهم الكبير سابوه و اتهجروا عشان الحرب. "
" ما الحرب خلصت من زمان؟"
" كل بيوتهم اتهدت واتدمرت وكان لازم ترجع تتبني من اول وجديد ويرجعوا لاشغالهم وتجارتهم."
" اشمعنى همة؟ وليه بورسعيد؟ "
" مش همة بس ولا حتى بورسعيد. دي مدن القناة كلها . مدن خط النار. و دي مش اول مرة يتهجروا فيها. دي تالت مرة مع كل حرب بيحصل كدة ."
تذكرت الأم جلساتها مع ام رانيا وكيف كانت مدينتهم الباسلة وكل مدن القناة كيف كانت حاضرة في الصفوف الأولى يدها بيد الجيش بعد عدوان ٥٦ و نكسة ٦٧ وكيف قتل طيران العدو ومدفعيته منهم الالاف وهدم كل احيائهم بعد أن تساقطت منازلهم الواحد تلو الآخر ولم يخل منزل من دانات المدفعية او قصف الطائرات ورغم ذلك خيروا بالرحيل لمناطق أكثر امنا فلم يرحلوا ثم كان القرار بترحيل النساء و الأطفال والكبار الى ان هُجر الجميع الذين تعدوا مئات الالاف إلى محافظات مصر المختلفة حفاظا على ارواحهم و حتى لايكونوا نقطة ضعف في الحرب ضد المعتدي الخسيس. كانت أم رانيا ترى أنهم اسعد حظا من جيرانهم الذين سكنوا المدارس و تشاركوا الفصول. وكانت هي محظوظة ان منحها الاقارب شقة للاسرة لا يشاركهم فيها أحد. لكن ظل الجميع يستعذبون المعاناة مادامت في سبيل الوطن و عينهم على مدنهم ينتظرون اليوم الذي يسمح لهم فيه بالعودة و قد تأخر أكثر من سبع سنوات. كانوا خلالها وعلى فترات متباعدة يعودون في زيارات خاطفة للاطمئنان على منازلهم المهدمة وعليها وهي في طور اعادة البناء.
حتى جاء اليوم الموعود وعادت الطيور المهاجرة إلى اعشاشها.
ظلت عينها على شباك أم رانيا أياما وشهورا كلما راحت او جاءت تقف دقائق تتخيل الشباك وهو ينفتح وتسمع صوت منفضة أم رانيا و هي تنفض التراب من السجاد ورانيا تقف أمام المنزل في انتظارها ليتجولا سويا.
حتى جاء ذلك اليوم. لم تصدق عينها. الشباك مفتوح وصوت أبو رانيا يأتي من الداخل. يبدو متعجلا.هل يتحدث إلى رانيا؟
عادت بأنفاس لاهثة لتخبر أمها فوجدت أم رانيا عندهم.
بعد تبادل التحية والقبلات الرقيقة. دعتهم أم رانيا لزيارتهم في بورسعيد التي أصبحت منطقة حرة يأتي إليها الزائرون من كل مكان. فهي في زيارة سريعة لتخليص بعض الأوراق واخذ باقي المتعلقات حتى انها لم تستطع احضار البنات معها لكنهم ينتظرون زيارتهم بفارغ الصبر.
بعد رحيل أم رانيا
ناولتها الأم علبة جميلة تركتها لها أم رانيا
فتحتها فإذا بها هدية من رانيا سلسلة جميلة و كارت يحمل كل الكلمات والمعاني الرقيقة مع دعوة للزيارة و مجموعة من ذكرياتهم معا حملتها بعض الصور الفوتوغرافية التي ذكرتها بأيام سعيدة مضت وأيام أسعد في الانتظار.