أغلق سماعة الهاتف حين سألته زوجته من المتصل أجابها : النمرة خطأ. رمته نظراتها بسهامها المرتابة و أشار صمتها إليه بألف اتهام فهو الموعد المعتاد لهذه الاتصالات اليومية المبهمة فرغم انها لم تسمع مرة واحدة صوت رنين الهاتف إلا أنه يحرص دائما على الرد بسرعة وغلق السماعة فورا معللا تعليلاته المتكررة إما النمرة خطأ أو قُطع الاتصال وهذا ما لم يكن حاله قبل سنوات. حاولت مرات أن تجلس بجوار الهاتف انتظارا لهذا الاتصال لكن في كل مرة تنتظر لا يحدث شيء و كأن هناك من يعلم بوجودها فلم يجر اتصاله، مما أثار الفضول عندها الذي سرعان ما تحول إلى شك و حيرة فزوجها الرجل المثالي والابن البار والصديق الطيب والاستاذ المحبوب. لم يَرُد ابدا أحدا طلب منه المعونة حتى و لو على حساب نفسه. هو ليس بالخائن ولا المراوغ. لا يرهق بطلبات ولايتذمر على طعام.
لم أنس حين ذهب معي لزيارة أخي عند عودته من السفر رغم اختبارات نهاية العام لقسم الكيمياء. فأخي كان قد طلب منه قبلها مصاريف السفر و لم يكن معه المال وقتها فاستدان من أجله وظل يسدد ديونه حتى رد أخي له المال مؤخرا عند عودته هذه المرة.
ما الذي حدث له وما هذه الاتصالات الغريبة؟
هكذا كانت تفكر و تُذكر نفسها بمن هو زوجها فهو لا يستحق منها إلا الثقة...
لم ينم ليلة أمس إلا بعد بزوغ أول خيط ابيض في الشرق.
انهى كل تفاصيل رسالة الدكتوراة لعرضها على أساتذته المشرفين بالجامعة. كان يرغب في موضوع آخر غير التفاعلات الاندماجية لكن رسالته كانت حولها نزولا على رغبة كبير المشرفين و رئيس قسم الكيمياء.
انتظرت خروجه ورأته من الشرفة وهو يغادر بسيارته مبتعدا. دخلت بسرعة و نظرت إلى نفسها في المرآة و أخذت تتلمس وجهها و تدور بأصابعها على جبينها و وجنتيها. كانت تقترب أكثر لترى بشرتها عن قرب.
_لازِِلت جميلة لكن بالتأكيد لست كالسابق. هل لم يعد يحبني؟ هل يخفي عني علاقته بأخرى؟ لمحت في المرآه سترته المعلقة وأوراقه المبعثرة التي تركها قبل خروجه. تملكتها رغبة قوية في البحث عن دليل إدانة وهي التي لم تفعل ذلك يوما. لكنها لم تلبث أن تراجعت وتركت الغرفة و أغلقت الباب خلف تلك الأفكار السيئة.
أجرت اتصالا بأخيها لتؤكد عليه موعد العشاء اليوم. لمح نبرة حزينة في صوتها. هذا الصوت الدائم البهجة و الحماس فماذا أصابها؟ ترددت في البداية فهي لم تعتد الشكوى ولم يكن هناك ما تشكو منه. ولكن مع إلحاح الأخ أخبرته بأمر المكالمات المبهمة ومايدور في نفسها من تفسيرات.
ما كان من أخيها إلا أن أثنى ثناء مستحقا على الزوج الذي وقف بجانبه في أمر السفر ولم يغضبها يوما وكان لها دوما الزوج المحب مجيب الطلبات ومحقق الرغبات مهما كانت درجة صعوبتها.
_رغم أني أخوكي إلا أني أقسم أنك تستغلي طيبته طول الوقت لصالح رغباتك وطلباتك..
أما هذه المكالمات فلا تعدو أن تكون مصادفات رتبها القدر لإختبار ثقتك وحبك لزوجك.
كانت كلمات أخيها بلسما وترياقا أبطل سموم الشك التي كادت تفسد عليها حياتها.
في المساء اجتمع ثلاثتهم على العشاء في جو أسري دافئ. سألهم الأخ سؤالا مباغتا: ألم يحن بعد موعد الإنجاب؟ هل توقفتما عن مناقشة الموضوع نهائيا؟ ألا تشتاقا لطفل يجدد حياتكما ويملأها سعادة و نشاطا؟
نظر إلى صمتهما بتعجب وفضول ولكنه لم يتلق أي إجابة. شعر بالخجل من تدخله في أدق شؤونهم فربما تناقشا و اتفقا فلا معنى لأسئلته هذه. استأذن في المغادرة بعد أمسية جميلة كان يشتاق إلى مثيلاتها في غربته. أغلقت الباب بعد أن ودعت أخاها وتلفتت حولها فلم تجده و كأن الأرض ابتلعته في لحظات. جالت ببصرها في الكراسي و على أريكته المفضلة أمام التلفاز لكنها لم تجده و كان التلفاز مغلقا.
لم تشأ أن تبدو كمن يراقبه و يقتفي أثره متتبعا خطواته. تركته و شأنه و بدأت في تنظيف المكان ثم دخلت إلى المطبخ و أعادت كل شيء إلى مكانه. مكثت أمام الأطباق والأكواب المكدسة في الحوض فترة من الزمن لم يشد انتباهها إلا صوت الماء وقد ملأ الحوض و بدأ في التسرب إلى الأرض ببطء. أسرعت بغلق صنبور الماء وفتح سدادة الحوض وقامت بتجفيف الأرض و ذهنها لايزال شاردا. فقد أنهت كل أعمالها و ستتحدث معه الآن في الأمر الذي أثاره أخوها فهي ترغب في طفل مع أنها من كانت تؤجل فكرة الإنجاب حتى نسيا الموضوع أو تناساه كلا منهما. حزمت أمرها واتجهت إلى غرفة النوم وكلها عزم على الحديث معه. ثم روادتها فكرة لئيمة سيطرت على خطواتها فأبطأتها. لعله يتحدث الآن في هاتفه. أطرقت السمع وتباطأت لكنها لم تسمع شيئا. حركت مقبض الباب و فتحته بضعة مليمترات فهالها ما رأت.
تسمرت في مكانها للحظات ثم قررت أن تتقدم إليه وتواجهه لكنه لم يشعر بوجودها فقد كان مغمض العينين ممددا على الفراش و يحتضن نفسه و يقول: أحبك أشعر بك.
تراجعت قبل أن تخور قواها وخرجت من حيث أتت. أغلقت الباب بهدوء وبعد أكثر من ساعة صممت أن تواجهه بكل ما سمعت ورأت لعله يجد تبريرا لهذه التصرفات التي تؤكد وجود غيرها في حياته. تعلقت بمقبض الباب وفتحته بشدة وقبل أن تتحدث سمعت أنفاسه تعلو في انتظام. يبدو أنه نائم منذ أكثر من ساعة.
لم تنم تلك الليلة قضتها في حركة مستمرة قطعت فيها غرفة الاستقبال ذهابا و ايابا عشرات المرات حتى انهارت قواها على اقرب كرسي و لم تشعر الا بيده وهو يوقظها في الصباح قبل ذهابه إلى الجامعة متأثرا من أجلها فكيف قضت ليلتها هنا؟ وما الذي حملها على ذلك؟ لم تجب و أخذت تتمطى محاولة أن تلين عضلاتها ومفاصلها المتيبسة. ثم دخلت تكمل نومها في السرير. سمعت صوت صرير الباب فعلمت أنه في طريقه إلى الخارج. اغلق الباب برفق و رحل وغابت هي عن الوعي تماما من شدة الإرهاق.
في تمام الساعة الرابعة عصرا عاد و لم يجدها. وجد بجانب طعام الغداء ورقة مكتوب عليها أنا عند أخي وسأعود في المساء.
أزاح الغطاء من فوق الأطباق ثم أعاده مرة أخرى و دخل غرفته.
أخذ حماما دافئا و ارتدى أجمل ثيابه و استعد للقاء داوم عليه ما يقرب من ثلاثة أسابيع. تنفس بعمق حتى هدأت نفسه و راح يتنقل بين الحدائق الوارفة. بينما ظلال الأشجار ترسم علامات على العشب الرطب تدله على الطريق. كانت أصوات الطيور و خرير الماء ونقيق الضفادع هو أكثر ما يفجر فيه رغبات اندثرت منذ سنوات فسمح لنفسه أن تعيشها بكل روعتها. ظل يقفز بخفة خلف أحد طيور أبو الفصاد الذي ما أن شعر به حتى انطلق محلقا بعيدا في الفضاء الشاسع. ابتسم وعلت ضحكاته. أخرج من جيبه بعض قطع الحلوى تناولها بنهم و اطعم صغار البط في البحيرة رقائق البسكويت المبللة. كان سعيدا بصخبها في الماء وهي تتسابق إلى كفه وتضرب الماء بأجنحتها الصغيرة. نهض بسرعة ليلحق بضفدع كاد يقفز في الماء. امسك به لكن جسده اللزج انفلت وسقط في الماء وسط نقيق الضفادع المشجعين لصديقهم الفار. نظر في ساعته بشغف. لقد حان الوقت. تلفت يمينا و يسارا وفي كل اتجاه ثم جلس على الدكة الخشبية وضربات قلبه تتسارع عندما وضع أحدهم أطراف أصابعه على عينيه صائحا بلطف: أنا مين؟
أمسك اليدين وقبلهما. جلسا متجاورين. والعتب في عينيه على هذه الدقائق الفائتة و هذا التأخر الطفيف .
أخيرا التقى بالحبيب
إلى اللقاء في الجزء الثاني...