_افتقدتك. لماذا تأخرت اليوم؟
_أخرتني والدتي. لم ترغب أن اخرج اليوم كي ألتقي بضيوفها. اعتذرت منها.
_ هذه أول مرة تفعلها .
_نعم. لأني على موعد مقدس معك و لن أتركه من أجل أناس لا أعرفهم و لم يخبرني أحد أنهم قادمون.
_ هل غضبت منك؟ هل علمت أنك ستلقاني؟
_ في البداية فقط لكن بعد أن أقنعتها زال غضبها لكني تركتها متعجبة من تغير سلوكي. فلم أعد " the yes person " بعد الآن.
أما أنا فلازلت كما أنا لكن اليوم سأضع النقاط على الحروف مع زوجتي ومع الجميع.
تعانقا بحنان بالغ حتى صارا كيانا واحدا وهو يردد أحبك أشعر بك.
شهقة و انقطاع في النفس ثم خطوة للوراء حركت فرع الشجرة البعيدة التي تختبئ خلفها زوجته فقد تبعته بعد أن خرجت من عند أخيها. ظلت أمام المنزل على الجانب الآخر من الطريق خلف اللوحة الإعلانية المثبتة على الأرض تنتظره أن يتحرك لتقطع الشك باليقين.
تعجبت من هذا المشهد... طفل؟؟؟؟ هل يحتضن طفلا!! أمعنت النظر في هذا الطفل فزاد عجبها أضعافا. إنه يشبه زوجها تماما. نسخة طبق الأصل. كأنه صورة مصغرة منه.
_ أممم لقد اتضحت الصورة. هو متزوج من أخرى و أنجب منها هذا الطفل الذي يشبهه. لذلك كان يسأله عن والدته إن كانت تعلم أنه سيلتقي به. لعلها تمنعه أن يقابل طليقها. لكن لم يخبرني يوما بأمر هذا الطفل أو هذا الزواج. نعم نعم أفهم الآن لماذا لم تشكل رغبتي في تأجيل الإنجاب أي مشكله لديه فهو يملك الإبن بالفعل. لابد أن أواجهه. كانت معاملته اللطيفة معي ستارا يخفي خلفه هذا السر الخطير. أوهمني بالوفاء والإخلاص و يسر الطبع وسلاسة الحياة معه لينعم بحرية الحركة أينما ووقتما شاء. ليمارس حياته الأخرى بعيدا عن ناظريّ.التفتت إليهما وقد تأهبت للمواجهه لكنها وجدتهما في أكثر اللحظات سعادة يتناولان الحلوى والبسكويت ويضحكان في جو من السعادة و المرح. فآثرت أن تتحدث معه بعد أن ينتهي اللقاء. فليس لهذا الطفل ذنب أن تعكر عليه صفو لحظات يدخرها من الزمن ليلتقي بابيه.
جلست تنظر إليهما من خلف الشجرة. كان يدور به في الهواء فيشعره أنه ريشة يحملها النسيم. كانت ضحكاتهما تضيء أماكن مظلمة في قلبها جعلتها تحن لطفل يملأعليها حياتها. لكن طفل ممن؟ من هذا الزوج الخائن؟ لايمكن..
بعد عناق حار مطول غادر وهو يلوح إليه كل بضع خطوات يخطوها مبتعدا و كأنه لايريد أن يغادر. بعد ان غاب عن الأنظار وسط الأفرع المتدلية والأوراق المتمايلة بفعل الهواء ملوحةً هي الأخرى ومودعة إياه.، جلس و أسند ظهره إلى الدكة الخشبية ومدد ساقيه بعيدا وسط الحشائش الجافة وهو مغمض العينين باسم الثغر. شعر بيديها تُربِّت كتفه وكأنها تستأذن للدخول في عالمه. فتح عينيه وجدها أمامه. انتظر أن تبدأه بالكلام. قالت: لماذا لم تتناول غذاءك؟ لم نمت بملابسك؟ هل أنت متعب ؟ نظر حوله. هذه صورة الزفاف وهذه المرآه. تحسس الملمس الخشبي تحته فلم يجده. إنه فراشي القطني الوثير. أنا لازلت في غرفة نومي؟ أين تأملاتي وخيالاتي. صرت أحلم و أنا بين اليقظة والنوم.
قالت وهي تغادر الغرفة. أخي يبلغك السلام. كان ينتظرك ليودعك قبل سفره. بدل ملابسك و خذ حماما دافئا وسأقوم بتسخين الطعام. كان صوتها يخبو كلما ابتعدت. لكن رغبته في وضع النقاط فوق الحروف لازالت متقدة.
تفاجأت به خلفها يساعدها في اعداد المائدة. نظرت إليه وشعرت أن هناك أمر ما وكلام يريد مناقشته معها. لكنه لم يقل شيئا تركت الطعام على المائدة وهمت بالدخول إلى غرفة النوم لتبديل ملابسها فامسك بيدها و أجلسها على الكرسي المقابل. جلست دون اعتراض ونظرت إليه تستحثه على الحديث.
حدق فيها و قد انفرط عقد الكلام فانطلقت الكلمات من بين شفتيه متدفقة بلا عوائق.
أخبرها بلهجة واثقة آمرة. قررت الإنجاب. هل لديك مانع؟ أخبرته أنها كانت عازمة على أن تحدثه في نفس الموضوع وهي بالطبع توافق بل وسعيدة جدا من قراره. ثم أردفت، لكنك لم تأت لتودع أخي.
قال ونبرته تزداد حدة: كنت مشغولا وقد قمت بالاتصال به لتوديعه فهو صديقي الذي أحبه قبل أن يكون أخاكي.
قالت له : سأبدل ملابسي ونكمل حديثنا. انطلقت والسعادة تملؤها حيوية وتملأ خطواتها نشاطا.
لكن ما سمعَته من بعيد جعلها تعود مسرعة غير مصدقة لما يجري.
كان حوارا مع رئيس قسم الكيمياء:
اعتذر بشدة سيدي سأضطر إلى تأخير موعد مناقشة الرسالة قليلا فقد غيرت موضوع الرسالة... لا لن أكمل التفاعلات الاندماجية. سأتناول تأثير الأشعة المختلفة على أنوية ذرات العناصر... تفاجأ ان موضوع الرسالة نال إعجاب رئيس القسم بشكل قوي و أيده في رأيه و شجعه على ذلك. وأخبره أنه سيضع كل أمكانات القسم تحت تصرفه و سيقوم بتذليل كل العقبات التي قد تواجهه.
عادت متفاجئة من هذا التغير الجذري.
قالت له لم تعد( the yes person)
لم يتعجب مما قالته فهو تخاطر روحي كان بينها وبينه دون أن تدري. قالت:أخبرني ما الأمر؟
_ أنا اتابع مع معالج روحي منذ أكثر من شهر واقوم بتأملات لألتقي بطفلي الداخلي و أصلح العلاقة بيني وبينه.
قالت مستوضحة طفلك الداخلي؟
_ نعم. تلك الشخصية الصغيرة بداخلي المجروحة من آلام و معاناة الماضي. كنت دائما أحاول إرضاء والداي لأكسب ودهما. كنت أخشى أن يتركاني إن أنا خالفت لهما أمرا. كنت أقمع مشاعري و أطمس أرائي واقتل حريتي بيدي لأبدو الإبن المطيع فأنال جائزتي منهما. الحب الذي لن يمنحاني إياه إلا اذا نفذت أوامرهما دون مناقشة.
طالما كرهت جملة " إفعل كذا كي أحبك.". "افعل كذا كي أحضر لك اللعبة التي تريدها."
كبرت و قد ضاعت هويتي في عملي و بين أصدقائي وحتى في بيتي وأنا أحاول إرضاء الجميع. لم أشعر يوما بأني استحق الحب والعطف إلا إن قدمت ما استطيعه من تنازلات لمن حولي.
لكن ما حركتي هو رغبتي في طفل أربيه تربية صحية سليمة مدروسة.
و عملي الذي أحبه لم امارسه يوما بقدر ما بداخلي من شغف. فكم أجبرت على تبني نظريات وافكار و تجارب معملية لا تستهويني ولكني أقوم بها نزولا على رغبة الأساتذة الكبار لا رغبتي.
سئمت كل شيء. لم أشعر أني انتمي لعالمي ولا أي من مفرداته وأشخاصه تنتمي إليّ. دائما انا من ينتمي إلى الآخرين. أنا التابع لا القائد على حياتي. بحثت عن هويتي ودرست وعلمت أن طفلي الداخلي هو أنا الآن. هو ما مريت به في الطفولة من أحداث و عقد لم تحل فكبُرَت معي وشكلت تلك الشخصية المنقادة.
مارست كل التدريبات و التخاطرات والتأملات التي دربني عليها معالجي الروحي وها انا بعد مرور ما يقرب من شهر أشعر تغيرا ملحوظا بداخلي بعد أن تصالحت مع طفلي الداخلي. أحببته. شعرت به إحتضنته. عطفت عليه. اندمجت معه في كيان واحد. صرنا نلهو معا ونتشارك الالعاب والاحاديث وقد رأيت بعيني هذا التغير يطفو على السطح.
أشعر بسعادة بالغة كلما التقيته. أشعر أني قادر على فعل المستحيل. تعجبني البدائل التي اختارها عن ما يختاره لى الآخرون. اقرر مصيري بالشراكة مع من يهمه امري ولا ينفرد أحد منا برأيه. لست مضطرا للتنازل او القبول الغير مشروط لكل ما يفرض عليّ و لا انتظر رأي الآخرين فيما يخصني فهو شأني وشأن من أطلب منه المشورة لا من يفرض رأيه ويجبرني عليه.
أخيرا وضعت النقاط على الحروف في كتاب واقعي. ها أنا أخط بيدي اسلوب حياتي على صفحات ناصعة البياض خالية من ملوثات الماضي.
سعدَت كثيرا بكلامه. صارحته أنها كانت تشفق عليه من رقة أسلوبه. كم تمنت لو رفض لها طلبا أو جادلها في شأن من شؤون حياتهما. طلبت منه تأجيل الإنجاب وكانت تتمنى لو يتمسك هو بطفل يكون منها يجمعهما برباطه السحري معا. ثم كان الكِبر الغير مبرر سببا في مزيد من التأجيل. فمادام لا يهتم للإنجاب مني فلن أفتح معه هذا الموضوع مرة أخرى حتى يفتحه هو معي. لكني سعيدة جدا بهذا التغيير الرائع ونحن الاثنان جديران الآن بطفل يستحق كل الرعاية والحب خاليا من العقد والممارسات الخاطئة وإن كانت غير متعمدة.
تنهد طويلا. نظر إلى السماء بكل الحب والعرفان وقال: الآن انتمي إلى عالمي و كل شؤوني تنتمي إلي.
أحمد الله أخيرا لقد عدت إلى نفسي و أخيرا عادت إلي.
تمت