قصدت المدينة المغلفة بضباب الدخان، وهدير السيارات.
اجتازت عدة طرقات بخطوات قصيرة وهي تسير علي الأرصفة بطريقة طاووسية.
وصلت إلى الساحة الكبرى، فأحست بالعراء، جردها ضجيج المدينة من أفكارها.
تمنت لو دخلت بهدوء تحت ظل ما.
كانت فزعة،، مروعة بالسماء الزرقاء الفسيحة، والساحة وأشعة الشمس الذهبية التي تغسلها. مرت بيدهز على شعرها كمن لذغته المفاجأة.
انفتخت عيناها الواسعتان على اشعة الشمس، أحست أن الأشعةأصبحت ضبابية، تلفها، تغطيها،ربما سهوا، استوطنتها فرحة. ( شكرا أيتها الشمس، ربما أقلعت على أن تكوني شمسا منذاليوم، إكراما لهاطري المجروح فهذه الساحة لا تستحق أن ترسلي إليها أشعتك).
فككت أزرار معطفها، تمشت قليلا دارت على عقبها، قبضت على جانبي المعطف بقوة، ألقت بصدرها إلى السماء الشاسعة.
همهم عشب أخضر في أذنها، ألقت عليه بنفسها، و هي ما تزال تقبض على جانبي معطفها، سرحت عينيها على صفحة السماء العريضة، آه، أيتها الساحة، إنك غير حقيقية، و إنك غير موجودة.
(شكرا أيها الرب، أعمدة النور المصبوغة باللون الأخضر قد طأطأت رأسها، لم تعد تتطاول إلى السماء).
وضعت يديها على العشب الأخضر و كأنها تسكت بحركاتها تلك همهماته المتواصلة في ذهنها.
إنها لم تعد تسمع ضجيج المدينة، رغم أنها تجلس على عشبها، في أحد جوانب الساحة الكبيرة التي لم تعد تراها.
فكرت كثيرا،
(لماذا تفكرين و كأنك موجودة، لماذا يفرح العشب لما تلمسينه، لماذا تندثر المدينة و الساحة و لن يبق سوى هذه السماء.
إنك منذ زمن بعيد، أصبحت غير واقعية، أما أنت، أيتها الساحة، فإنك لم توجدي يوما، و لم تطؤك رجلي أبدا.
انتابتها رعشة، غم و إثم و كمد، فهي تعرف أن الساحة كبيرة، عريضة، نائية لا يمكن أن تعانقها إنها قصية، كروحها التائهة، النافرة.
نظرت إلى السماء بعينين وجلتين، أخذتها الشمس بشعاعها إلى عالم جميل، و كأنها شجرة مكابرة، متنامية في الفضاء.
أيتها الشمس، قد يأخذني الحزن، و أنظر إليك بخوف، فأبدو لك أنزف بالألم و الشقاء.
إنني لا أريد أن تتمزق قوانيني الخارجية، فأرتمي في أحضان أشعتك فأرتاح و أطمئن.
كان دهرا، ربما، لكنهاه ظلت مستلقية على العشب و يداها تقبض بقوة على جانبي المعطف، و عيناها مفتوحتان في الشمس.
أحست بنظراتها تتلاشى تحت أشعتها، و كل أحاسيسها تنسحب خارج جسدها، تتساقط في هوة، تركت يداها المعطف لتمتدا محاولة الإمساك بشيء ما، بيد أخرى، بغيمة انهارت.
سمعت صوت خطوات رزينة تقترب منها، و جسم ما ينحني، يلمس جبينها لمسات سريعة خفيفة، ثم ظل كبير يغطي نور الشمس أشاع في نفسها الهدوء، فتحت عينيها.
- (من أنت؟)
كادت تصيح ،
رجل عريض المنكبين يحجب عنها نور الشمس الرائعة، هادئ النظرات، و يقف عند قدميها و هي ممدودة على العشب و دخان لفافة التبغ في فمه ينبعث عاليا،
أحست بالخوف و بوضعها الغريب
كانت ستصرخ،
لكنه همس بصوت خافت :
-لا تخافي، لا تصرخي، إننا في ساحة عامة، اهدئي!.
بسرعة قبضت مرة أخرى على جانبي معطفها، ضمتهما على صدرها الجزع.
و بسرعة أيضا، قامت –
و بدأت تستعيد أنفاسها، و غادر الهلع صدرها و هي تقف لتواجه هذا الرجل.
تأملها الرجل طويلا، ربما للمرة الأولى تشعر أنه يتأملها.
تراجعت إلى الوراء الله مذعورة،
التفتت حولها ، نظرت إلى السماء،
أين الشمس؟ - أين الشمس؟.
تردد صدى صرختها في أرجاء الساحة الكبيرة، وضع الرجل يده على كتفها الصغير.
و قال لها بهدوء:
لقد جاء الظلام
كمن صفع، أحست بالمفاجأة و تساءلت:
متى جاء الظلام؟ متى؟ كم بقيت ممدودة على هذا العشب، هل نمت؟
و استغرقها تفكير عميق،
هي كادت أن تنسى كل ماضيها، انغمرت بأشعة الشمس، سبحت فيها، ذابت كل أحاسيسها تحت الدفء.
و قفز سؤال على فمها:
_من أنت؟
وضع يده الثانية على كتفها الآخر.
احتواها ظله مرة أخرى، و أحست أنها أسيرته لصغر حجمها، قال لها:
فيم كنت تفكرين؟
أحست بالفزع و بالاختناق، لم تحر جوابا .
ابتعد، لم يصر، تركها، تذهب.
ابتعد هو الآخر و ظله يتبعه إلى مكان بعيد عنها و ظل واقفا ينظر إليها.
فكرت كثيرا ماذا تفعل؟
لماذا جاء يعلن الظلام، بينما كانت تنعم بالدفء بين أحضان الشمس؟! .
طافت بالساحة الكبيرة عدة مرات، كانت تجري للحظات، ثم تتوقف لتسير الهوينى، لحظات أخرى عادت إلى مكانها الأول، ضمت معطفها على جسدها ،رمت بنفسها إلى العشب، و كان الرجل ما يزال واقفا ينظر إليها.
لماذا لا يذهب بعيدا عنها.
أحست بكره نحوه،
لكنها لم تهتم به، بل أطلقت صوتا مختنقا بالخوف بغناء ما.
و بعد مدة،
رفعت رأسها عن الأرض، لكنها لم تره،
قامت، نظرت حولها.
رأت جسما ممددا على مربع العشب المجاور بالساعة العامة، إنه ذلك الرجل، لا محالة ـ استلقت مرة أخرى تحاول النوم، كذلك الرجل في الطرف الآخر من الساحة.
ربما انتصف الليل، النجوم ظهرت واحدة واحدة، على صفحة السماء السوداء.
هل تسأله ماذا يفعل؟
لا – ربما كان الرجل نائما ـ
لا إنه ليس نائما، إنه مثلها يحدق إلى النجوم الصغيرة، بماذا يفكر؟
أتسأله فيما يفكر؟
و تذكرت أنها رفضت أن تجيبه قبل حين، ( لعله يفكر بشيء هام) لعله أسير هذه الساحة مثلها ؟
لماذا تفكر في كل هذه الأشياء، يجب أن تنساه.
يجب أن تفكر أنها غير موجودة، و لو بالقوة، يجب ألا تتصرف و كأنها موجودة، ألا تسأل، ألا تهتم بأي شيء، بأي شخص – إنها غير موجودة.
..