رحلة خرافية بين قصص مجموعة ( بائع القصص وحديث إلى امرأة ما ) تلك التي أخذتني في لف مبهج ودوران ملائكي مع الأحداث التي رصها رصا بكل كلمة كلمة بعمق وتغلغل كما مسبار استكشافي لمعان كائنة وموجودة على أرض الواقع وفي نفس الوقت يقدمها لك الكاتب في حلة خيالية ، أسطورية وكأنها من عالم آخر خاص ينفرد به الكاتب زكريا صبح وحده دون غيره ، والذي لا أظن بائع القصص سواه وإلا من يستطيع أن يبيعنا قصصا أو بالأحرى أن يكتب لنا قصصا مثل تلك التي جاءت على لسانه في مجموعته القصصية المذكورة وكأنها قصائد شعرية تنساب إلى روحك كلماتها التي ليست كالكلمات،والتي رغم ما يبدو من تعابيرها السهلة الممتنعة،فهي تضرب في عمق المعاني وتحفر في خلايا الدماغ ألف سؤال وسؤال حارق ، منير ، يشع،ويأخذك في دوائر وحلقات من الحركة وذلك يبدو واضحا من خلال حواره مع أحدهم :
( أنا لا أفعل شيئا سوى عملي ، وبعض قصص أكتبها عندما أعجز عن مساعدة أصحابها ..) .
إن الكاتب يثير تفكيرك ويقتلعك من سكينتك وهدوئك ودعتك ليسير بك في حقل من الألغام مشحون بالمشاعر والأحاسيس يقذف بك إلى عالم من الأسئلة الملحة مع كل جملة ومع كل تعبير من التعبيرات التي يستخدمها من أجل ذلك ففي جواب له في القصة يقول :
ــ أي عمل ؟ إن كتابة القصص بضاعة كاسدة وليس لها عشاق ومريدون كعشق منتجاتنا الخشبية ..
ويبقى هذا ما يطرح السؤال الكبير الذي يتضمن كل تلك الأسئلة الأخرى التي سبق أن وضعها الكاتب بصورة مباشرة أو غير مباشرة وعلى التوالي في المجموعة القصصية برمتها،ذلك السؤال الذي يترصد ك عند كل نهاية من تلك القصص لتتساءل بفجائية يقصد الكاتب وضعك فيها وتقول مندهشا ( من هو بائع القصص هذا ؟ ) وهو نفس السؤال الذي يسأله بائع القصص لنفسه وبكل جبروت وقوة يرمي بك إلى جب أحداث أخرى مربكة لك،وأنت القارئ المتبصر لتقف كلما مرة وتعود إلى نفس السؤال أعلاه ومن جديد ( كيف يتدبر بائع القصص كل أمواج هذا البحر اللجوج من الأفكار المشفرة ليحلق بك في سفر خيالي إلى عالم آخر ومن خلالها يقذف بك بين طيات الحياة وكنهها وطقوسها ومادياتها ومآلها وفي تجاذب الأنا مع الآخرين،مبتعدا بك عن كل تكاسل لتسير راكضا وراء المعاني الكونية والمفاهيم الوجودية التي لا تخطر على بال،وفي آخر الأمر وعندما يريد بائع القصص،عند كل قصة تحدث له مع بائعي قصصهم له أو من يشتريها منهم ليكتبها لهم في المقابل فهو يسير بك إلى آفاق لا تنتهي من الدهشة لتقف عنده عن نهاية كل قصة وكأنه في علاقة ثلاثية بين بائع القصص من جهة وبين زبنائه من جهة وأخرى وبين نفسه التي تعطيك إشارات إلى من هو بائع القصص الحقيقي .
إن (مجموعة بائع القصص وحديث إلى امرأة ما ) هي عبارة عن رحلة تعرية صادقة لزيف الحياة ودروبها الملتوية وبشاعتها،وفي طريقك يكشف لك بكل جرأة ما خفي من جوانبها المظلمة الغائبة عن إدراك الشخص الغافل والتي تهمزك وتلمز وتلقي بك ايها القاري إلى لجة من قلق الوجود وبعض الأحيان اللامعقول في حوارات داخلية وأخرى ثنائية أو مركبة كما جاء في قصة الفتاة الصغيرة وما رأته من موت الرجل البناء الأخرس الذي قتله أخوه،يبثها إليك بائع القصص في تناغم وانسجام إلى أن يصل بك وأنت في حالة من الانبهار ، إلى مبتغاه هو وليس مبتغاك أنت ،لأنه سرعان ما يرميك إلى لجة أخرى في نهاية القصة كما حدث عندما اتهمه الرجل القوي المدعو (ماهر) بالنصب والاحتيال كأنك تولد من جديد توا عبر حيرته الفكرية ووقوفه على تخوم فلسفة الكون ومجابهة مفاهيم كيانية وكونية مليئة بالمعاني المضمخة بعبير أنفاس بائع القصص الذي ظل يتجول بامرأة طول النهار ، وهي فاقدة للذاكرة أولا تدرك من أمرها شيئا ـــ كما جاء على لسان الكاتب ـــ بشوارع وأحياء متعددة في محاولة العثور على عنوان بيت ما ،دون أن يتوصل إلى ذلك ،الشيء الذي جعله وفي آخر المطاف يكاد يغيب عنه اتجاهه وعنوانه هو الآخر يقول:
( لم أعد إلى دكاني وقررت العودة إلى بيتي وقد داهمني شعور قوي بأنني لن أجده).
وذلك في إشارة واضحة إلى أن الكتابة الأدبية وخاصة للقصة ـــ مادام يتعرض لهذا النوع من الكتابة الأدبية ـــ لن يؤدي بالكاتب إلا إلى نوع من التيه والغيبوبة الثقافية وربما حتى الفكرية.