منذ أمد بعيد في عمق الزمن ، عندما كان ذلك العملاق الطيب ذو الأنف الأفطس والعينان اللتان يملؤهما الحب والحنان والحزم يحكم الأرض ، حلت عليه لعنة آلهة الشر المميت .
استشارت بعضها البعض واتفقت أن تجعل كل ما يعيش في الماء يموت علما منها أن الماء عنصر مهم من عناصر الحياة على وجه الأرض .
اجتمعوا بعد ذلك ، ومارسوا طقوسا جهنمية شيطانية ، فحولوا كل أصناف المخلوقات والأماكن إلى يباب وأخذوا روحها وسجنوها في سجون مظلمة صقيعية من سجون الجحيم ، وجعلوا كل شيء يابسا ، يتكسر إلى آلاف الأجزاء .
لم تعد هناك لا وديان أو أنهار ولا أشجار ولا مخلوقات ولا حيوانات .
انتهى عهد الحياة .
لم تعد هناك إلا الصخور .
يئس العملاق الحاكم ( بالا) صبح عبارة عن صخور كالحة سوداء وكأنها جمرات الجحيم ألقي بها إلى الدنيا فانطفأت وأصبحت سوداء اللون يعلوها غبار رمادي .
فكر ( بالا ) في ذلك كثيرا وتملكه الغضب الشديد مما قامت به آلهة الشر .
انسحب بعد ذلك إلى الجبال لما سدت في وجهه كل السبل لإعادة الحياة إلى مملكته وشعبه ، فالكل أصبح عبارة عن حجارة صماء .
عاش في وحدة ، بعيدا في أحد الكهوف معتكفا يعيش على جذور النباتات التي تيبست وأصبحت ترابا ، ويفكر بما حل به وبمملكته وبشعبه ، حزينا بعدما تحطم عالمه كله .
كان يفكر في الفصول الأربعة الشتاء والخريف والربيع والصيف وكيف كان يعيش بين قومه في وئام واطمئنان ، لكن الآن قد اسودت الدنيا في وجهه وضاع كل شيء .
كان يتذكر الطبيعة الغناء والمراعي الخضراء التي كانت تكسو بحلتها القشيبة شعاب ووهاد مملكته المترامية الأطراف .
كان يتذكر الليل ، عندما يمحي الظلال ، ويغطي الأشجار الشامخة العملاقة في غابات بلاده فيكاد ينفجر من الغيظ والحنق .
كان يهيأ له بعض الأحيان أنه ينصت إلى موسيقى خرير مياه الجداول والأنهار الرقراقة وأمواجها المتدافعة فيكاد يفقد عقله بينما تنهمر من عينيه الكبيرتين الغائرتين دموعا كالسيول ما تكاد تخرج من محاجره حتى تصبح متحجرة على خديه الكبيرين من فرط تعاسته وشقائه .
كان يتذكر الأعشاب وهي تغني سمفونياتها الرائعة وترتعش لما تلمسها يد الشمس في الصباح الباكر بدعة وهناء فتظلم الدنيا في عينيه ويستشيط غضبا فهو لا يجد حلا للمصيبة التي حلت به .
لم يكن يعرف الملك العملاق أن الصخور جميعها كانت تعج بالحياة في داخلها لكنها لم تستطع أن تبرز شيئا من ذلك خارجها ، كانت تتكلم مع بعضها البعض وتعرف ما حل بها من لعنة آلهة الشر ، لكن لم يكن لديها اختيار أو حل لتغيير ذلك .
ضاقت الدنيا بالملك العملاق ، فحو لا يعرف مصيره ،
الوجود صباحا عند الاستيقاظ ، التجول في الأرض اليابسة المتشققة بين الصخور الكالحة ، البحث عن جذور أعشاب ميتة لأكلها ..
ضجر من كل ذلك وأصابه اليأس والملل فلا نفس ولا روح حوله ،
الانتظار كان سيد الموقف ، رغم أنه لا يعرف ماذا ينتظر ..
كان الغضب قد أعمى بصر وبصيرة العملاق الملك ، فلم يلاحظ أن صخرة صغيرة الحجم نوعا ما ، كانت تتدحرج على الدوام إلى جانبه وتتبعه عندما يخرج للبحث عن طعامه ، وكانت تراقبه في حله وترحاله وتنام قربه عندما يخلد إلى النوم .
لذلك فكرت الصخرة التي تلازم ( بالا ) في أن تستدعي رفيقاتها الصخور الأخرى للانضمام إليها ، لعل( بالا ) العملاق ينتبه إ ليهم ، ويفهم أن الصخور كلها والتي هي شعبه مازالت حية ، ومازالت تريده حاكما طيبا لها كما كان في السابق .
راحت الصخرة تجتمع بصديقاتها وتوضح لهن فكرتها :
ــ ( بالا ) لا يعرف بأمرنا وبأننا نعيش في الداخل وأن الأمر قد طال بنا ونحن على هذا الحال ولابد أن نجتمع كلنا قرب كهفه وإلا فلن يلاحظنا أبدا .. أبدا .
ـ أجابت الصخور الموجودة في الاجتماع :
ــ نعم ــ نعم نحن متفقون جميعا ، خاصة وأننا نعرف أنه لن يبطل لعنة آلهة الشر أحد غيره إضافة إلى أنه لا يعرف أن رواحنا تسللت إلينا من مغاور سجون آلهة الشر اللعينة .
نام ( بالا ) تلك الليلة وقد أظلمت الدنيا في عينيه وهو كسير القلب محطم الفؤاد .
عندما استيقظ في الصباح ، وجد أن صخورا كثيرة تكدست في طريقه وأمام باب كهفه ، فاحتار في الأمر كثيرا و ناله العجب .
وظل مدة غير يسيرة ينظر إلى تلك الصخور الكثيرة المصطفة أمامه ، وعلى كل جوانب كهفه تحيط به من كل ناحية .
انتظر طويلا لعل شيئا يظهر، يبين له ما خفي عليه من الأمر ، أو لعل حركة ما ، أو صوتا ما ، يفك به اللغز الذي حيره تماما .
ظل كذلك مترصد ا ، يراقب كل شيء ، لا يتحرك من مكانه ،
تساءل كثيرا عن سر ظهور الصخور قرب كهفه ، وسر اصطفافها : ( من أحضر كل هذه الصخور إلى هنا من مناطق بعيدة ؟ وكيف تم ذلك دون أن يشعر .
سأل الرياح فأنكرت القيام بذلك ، وكذلك الأرض نفت أن يكون لها علاقة بالأمر ،
توجه حينئذ بالكلام إلى الصخور نفسها :
ــ كيف أحضرت إلى هنا أيتها الصخور ؟
شعر وكأن الصخور تحركت في مكانها ، لكنها لم تجب بشيء فظن أن ذلك مجرد إحساس لا أهمية له ، فقرر أن ينتظر أكثر فهو معروف بتؤدته وهدوئه .
ظل الملك ( بالا) العملاق على حاله من الانتظار لأيام ، لكن لا شيء ظهر له وكذلك الصخور لم تحيد عن مكانها .
ضاق درعا بذلك ، وتملكه غضب أسود ، فقد كره الصخور وكل ما يتعلق بها ، فعمد إلى الصخرة التي بجانبه ، متأهبا أن يضرب بها باقي الصخور ، لكنه ما كاد يلمسها حتى أتاه صوتها :
ـــ مولاي الملك أنا وزيرك ( ماشا ) يا مولاي .
فوجئ الملك بحديث الصخرة إليه وكان على وشك إلقائها على الصخور الأخرى من فرط دهشته واستغرابه .. لكن (ماشا) الوزير استمر في الكلام قائلا :
ــ انتظر،انتظر يا مولاي
أنا (ماشا ) وزيرك المخلص وتلك الصخور كلها شعبك الذي سقط ضحية آلهة الشر ..
هم العملاق ( بالا ) أن يضع الصخرة (ماشا) أرضا ـ لكن (ماشا)صرخ به ، مانعا إياه من ذلك ومحذرا :
إذا وضعتني أرضا يا مولاي فلن تبطل لعنة آلهة الشر وسنظل صخورا إلى الأبد ...
أجاب الملك ( بالا ) باندهاش وهو ما يزال ممسكا بالصخرة (ماشا ) وقد احتار أكثر :
ــ وماذا أفعل أيها الوزير ( ماشا ) ؟
ـ لا أعرف يا مولاي .. لا أعرف ، لكنني على الأقل أستطيع أن أكلمك وأنا بين يديك ..
نظر الملك العملاق إلى الحجارة المتراصة أمامه والتي ليس لها آخر ، فيئس من الأمر وقال :
ــ وهل يجب أن أحمل كل هذه الصخور التي لا يمكن عدها لكي تستطيع الكلام ..
أجاب الوزير وهو حزين :
ــ أخشى ذلك يا مولاي ..
لما أبصر الملك ( بالا) ذلك ، وهو يجول ببصره بين كل الصخور التي أمامه ، وضع الوزير الصخرة ( ماشا) على الأرض وقد جحظت عيناه من الغضب والقهر وانبعث منها شرار مخيف وعمد إلى معوله الكبير الذي صنعه من أجل الحفر على جذور الأعشاب التي كان يقتات منها .
صعد إلى علو جرف كبير ورمى نفسه إلى الهاوية الصخرية وبيده معوله وقد وجهه نحو الأرض .
ضرب بمعوله في ارض الهوة ضربة عميقة بكل ما أوتي من قوة زلزلت لها الأرض .
أحدث ذلك تصدعا في الصخرة الكبيرة وتشققات وأخيرا تحطمت .
عادت المنطقة كلها تعج بالحياة ، لكن آلهة الشرلم ترض بذلك وكان غضبها عنيفا واشتعلت بالغل والحقد ، فصرخت صرخة شديدة ، عالية تحول معها ( بالا) الملك إلى صخرة شاهقة تكاد تبلغ عنان السماء لكنها لم تستطع مع ذلك أن تمحي الحياة التي أزهرت من جديد .
لم تتمكن آلهة الشر المميت العودة مرة أخرى و الظهور من جديد ، وإن فعلت فإن الملك ( بالا )سيصحو من جديد من سباته ليحمي قومه وبلاده ويبعد عنها الشرور .
مع ذلك ، بقيت بعض الصخور صخورا إلى يومنا هذا على ضفاف الأنهار والوديان وفي الجبال والهضاب ، تسترق السمع لصوت مياه الأمطار ومياه الأنهار نفسها ، فقلبها كان ميتا ولم يكن حيا ولم يكن فيه أي أحاسيس خير ولا شغف بالحياة .