أعلنت الساعة الحائطية عن حلول الساعة الثانية زوالا، يجب أن يذهب إلى عمله.
لم تكن لديه رغبة في العمل،
حاول أن يجمع أطراف جسمه المتناثرة حوله ليقوم من على هذا الكرسي الذي عاش معه أكثر من نصف عمره ، لكنه لم يستطع الحركة ، ظل مسمرا في مكانه ، وعيناه مفتوحتان على الأرض العارية أمامه .
إنه يحس أن كل عضو فيه يتلاشى ، يصيبه نوع من الارتخاء ،وأنه لم يعد يتحكم في حركاته .
إنه متعب وعاتب، لكن العتاب على من ؟ هل هو عاتب على هذا العالم حوله الذي أصبح يسير بطريقة لا يتوصل إلى فهمها ؟ أم على الناس الذين ينحني إلى تقبيلهم ، فتفاجئه آثار أسنانهم محفورة على خده ؟ أم على نفسه التي تعلمت الغربة فتاهت عنه، فأضاع عمره في البحث عنها .
أسئلة مقلقة وكثيرة راودته لسنين خلت ، ومازالت تفد عليه منها الأعداد المتعددة ،تنغرز في دماغه وفي كل جسمه بأنيابها الحادة ،فإذا ألم قاتل يسري في بدنه كله ويجعله هو وحيا ته أمران متناقضان .
يجب أن يجد حلا، فمن الصعب بمكان أن يكتشف الإنسان الخطأ في كل ما يوجد حوله والأصعب من ذلك أن يتضح له أن الخطأ يتغلغل في أعماقه.
سمع طرقا على الباب، فأنصت جيدا, انه لا يقدر على مغادرة مكانه ليفتح الباب، ثم إنه غير متأكد أن الطرق على بابه، أم أنه طرق داخل جمجمته التي خلت من كل شيء فأصبحت فارغة تعول فيها الرياح.
لم يعد يدري، لكن ما يعرفه حاليا وبكل وضوح انه لن يتمكن من الوقوف أبدا ،أبدا .
ثم لماذا يطرقون بابه ؟ حام حوله بعض الفضول فطرد بقية نعاس لقيط لا يدري من أين أتاه ، وألقى بنظره تجاه الباب .
لو أنه يجد حلا ؟ لو كان الحل مع الطارق الآن ؟
لو كان قد اختزن بعض الحلول التي اقترحها عليه صحو دماغه منذ زمن بعيد، لاستطاع الآن مقاومة هذا الألم العنيف الذي ينقر رأسه بحدة، نشر أمامه الحلول جميعها ، وأخذ ينظر إليها وعلى ملامحه ارتسمت علامات تفكير عميق
ــــ أولا ـ إما أن يبيع نفسه ويتخلى عنها مقابل الفهم والمعرفة ، فيتعذب ويفنى في سبيل ذلك .
ـــ ثانيا ــ أو يعيش كأنه مخدر ، غائب وليس بغائب .
ـــ ثالثا ـ وإما أن ينهزم ويستسلم ، ويعيش كما لو كان شخصا آخر ، يمكن ان يستبدله بعدة شخوص كلما رغب في ذلك.وأحس وكان الباب يطرق مرة أخرى
نظر إلى الباب، المسافة بين كرسيه والباب متعرجة متباعدة، كما لن يتمكن من تجاوزها مهما حاول .
داعبت فمه ابتسامة استهزاء، صحيح ، كيف تداعب فمه هذه الابتسامة ، كيف استطاعت شفتاه المزمومتين، المتألمتين تحمل ذلك ؟
كيف تواجهه ابتسامة استهزاء لتستولي على فمه وهو لا يستطيع أن يحرك ساكنا.
لو تمكن فقط أن يطرد هذه الابتسامة .
ــ سمع هذه المرة صوتا نسائيا اختلط بصوت الطرق على الباب يقول:
ـــ افتح، أرجوك ألن تذهب إلى العمل ؟ هل أنت بالداخل ؟ افتح .! أنسيت أنك ستوصلني؟.
غامت الصورة في عينيه.
حاول أن يتكلم، أن يدعوها إلى الانتظار قليلا ريثما يفتح الباب.
لم يخرج أي صوت من حنجرته .
مد قدميه يحاول النهوض، اتكأ على مسند الكرسي، وإذا برجله تنثني ليدور الكرسي إلى الخلف تحت قبضة يديه المنهوكتين فينقلب الكرسي ،ويصيب صدره إصابة آلمته .
.كان يعرف أنها تنتظره بالخارج ، إنها تعلم انه يتكاسل في لقائها ، يتهاون يتواطأ يفشل ، يتلاشى .
انزعج من هذه الصفات التي أصبحت لصيقة به، تزامنه،لا تكاد تفارقه ، خنقته الخيبة ، وأحس أنه كالمعتوه ، لكن لماذا تصر على انتظاره ، لماذا لا تقر أنه لا يصلح لشيء.
كل هذا لا يهم ، ما يقلقه حقا هو هذا الألم الفظيع الذي سيطر على رأسه، المهم الآن أن يصل إلى مقبض الباب.
زحف على ركبتيه ويديه مقتربا من الباب.
(ماذا يفعل ؟ كيف يستطيع أن يزحف هكذا ؟ أية قوة تدفعه ؟ تحسس الباب ،هل يحبها كل هذا الحب ؟)
أعاد إليه شعور ملامسته لشيء صلب بعض القوى ، تولد لديه شعور آخر ببعض الطمأنينة .
تمطى قليلا، تكاد يده تصل إلى المقبض: (انه يحبها بقوة ، لن يتركها تذهب ، سيفتح لها)
تسلح بكل شجاعته، بكل ما يملك من قوة ،وصلت أصابعه إلى المقبض ، أداره بصعوبة ، انفرج الباب قليلا ،غمرته نسمات منعشة جعلت نظراته تجتاز الفجوة التي أحدثها انفراج الباب ، لتبحث عنها ، عن صاحبة الصوت الذي يغفو وسط أدران قفصه الصدري .
لم تجدها نظراته الضبابية، أغلق عينيه ثم أعاد فتحهما، إنها غير موجودة بالفعل،
لقد غادرت المكان ، لكن هل غادرت من دماغه ؟
إنه لا يعرف!