كثيرا ما تناول العلماء والأدباء والفلاسفة سواء القدامى أو الجدد منهم، الموت بالتحليل والشرح ، لكن ما يثير الانتباه في كتاب ( الرفيقة ) ــ لزكريا صبح ــ هو أنه جعل بطل الرفيقة يعتبر الموت رفيقة كما يبدو جليا من عنوان الكتاب ومن خلال مشاهد أو فصول الكتاب ككل ، ليس ذلك فحسب بل اعتبر أن الروح هي الفيصل في الموت والتي تأبى مغادرة الجسد الذي تسكنه وتظل تحوم حوله مداعبة إياه تارة مستنكرة ما فعله معها تارة أخرى،فجسد بطل المشاهد مسجى على سريره في غرفته التي يدخلها الأحياء دون اهتمام له ولما يحصل بين جسده وروحه أو نفسه من جهة أخرى .
وهنا لا بد لي من المرور ببعض آراء وأفكار بعض الفلاسفة حول الموت منها ما قاله لوكريتينوس من أن ( الموت هو الأكثر أمانا ) في كتابه ( طبيعة الأشياء ) فالألم كما يقول يكون قبل الموت وليس من بعده ، إلا أنه رغم خوف الإنسان منه وتهيبه له إلى أنه يخلص الكائن البشري من الدنيا وهمومها ونوائبها وتبعاتها .
وتحضرني بعض أفكار فلاسفة من التراث العربي الإسلامي فقد عرفه ابن منظور كونه غير ملتصق بالطبيعة البشرية فقط بل إن كل شيء في الحياة يمكن أن يموت دلالة على الهدوء والسكون والثبات ، ونجد في لسان العرب أن الموت كناية على ذلك ، فنقول مات الماء اي امتصته الأرض ونقول مات العشب أو مات الضمير مثلا ..
وقد قارن محيي الدين بن عربي الموت بالنوم حينما جاء على لسانه في الفتوحات المكية : ( إن الموت والنوم سواء ) يقصد بذلك ( الموت الخفيف ) أما ( الموت الثقيل ) فهو نهاية الشيء وزواله .
أما ابو حيان التوحيدي فيقول في (البصائر و الذخائر ) : ( استهينوا بالموت حتى يهون عليكم فراق الدنيا ..)
كل هذه الاستشهادات من أجل توضيح أن الكاتب زكريا صبح وهو ـــ بطل النصوص التي رقمها في مشاهد ــ قد خبر من ويلات الحياة ومن عدم اهتمام الغير ومن الوحدة التي يعاني منها أشد المعاناة وأنس الشقاء ، وعاقر الأوجاع التي تسبب له فيها المقربون والأصحاب والأحباب على السواء فلاذ بروحه يعاقرها الأوجاع ، فكيف يخاف الموت أو يهابه ؟ وهو لديه الرفيقة التي تخفف عنه حينا وتخاصمه أحيانا ، وقد جاءت تعبيرا صادقا لما يخالجه بشأن الموت من مشاعر وأحاسيس مختلفة وغاية في الغرابة في مواضع عديدة عبر المشاهد التي صور فيها اقترانه بالرفيقة وهي روحه وحبه لها ومراودته لها لمغادرة دار الفناء إلى دار البقاء كونه تقمص اللامتناهي وهو أقصى ما يطمح الإبداع إلى تجسيده قديما وحديثا بغية ملء الفراغ والتوهما ت أو التهويمات التي تصيب وتطال إرادة الفهم والتمثل البشري ومن المؤكد أنه بذلك يقصد اإبعاد الغموض عن الاتجاهات الداخلية لدى الكائن والتي هي ردود أفعال طبيعية على تراكم الفراغات والبياضات التي يستشعرها جراء تمنع اللامتناهي عن الفهم والتأويل على حد قول رشيد المومني في كتابه ( شعرية الكتابة باللامتناهي منشورات باب الحكمة ــ تطوان ــ المغرب 2à23ــ ص 15 .
وبالرجوع إلى نصوص الرفيقة زوالتي لا يمكن اعتبارها قصص قصيرة وإنما هي عبارة عن مشاهد أو فصول مرقمة أرقاما تسلسلية تسلسل الأحداث التي ينقلها بدقة إلى القاريء مبينا ما قاساه وروحه والتي هي
رفيقته وهو أيضا رفيقه معلنا عن ذلك منذ المشهد الأول يقول لها :
( أنا رفيق دربك أقول لك : ابتلعي الألم وانظري بعين الخوف إلى جسد يرتعب من الوحدة ... الخ ..) محاولا مواجهة المادي باللامادي والمتناهي باللامتناهي وهو في كل ذلك لا ينسى أن يوصيها بحق الرفيق على الرفيق لعبور الحياة بعيدا عن شماتة الشامتين وما يقياسيانه معا من تلك الفئة وغيرها ممن صادفوهم في هذه الحياة ..
وهكذا تستمر المشاهد وتتوالى في أخذ وعطاء بين الجسد والروح أو الرفيق والجسد وروحه التي يهيم في تشعبات ما حصل من وقائع مع الرفيقة عندما تأخذه نفسه من ذلك الجسد الممدد على السرير والذي يطوف بأجواء تلك الغرفة وفضائها وهو يرى ويعرف ويفهم تصرفات الآدميين الآخرين الذين يدخلون إليها ويخرجون غير آبهين له .
ووفي الليل عندما تنفلت تلك الروح فيتبعها بنفسه إلى الشارع ويراقصها ويلاعبها ويجوب معها الطرقات وهمه الكبير هو البحث عن روحه التي راوغته كثيرا وضحكت منه أيضا .
المثير في كل هذه المشاهد أن البطل واع جدا بما يحصل له وأنه جسد مسجى لا يتحرك لكنه في حركة دائمة وراء روحه ، يذهب ويأتي ويبحث ويحس ويشعر ، بكآبة روحه وغضبها منه ونهنهات بكائها المستديم المرير واستعطافها بعض الأحيان ولومها له أحيانا أخرى .
إنها روح حزينة ، دائمة البكاء رغم أن بطل المشاهد والذي هو جثة هامدة على ذلك السرير في الغرفة يسامحها عدة مرات ويحنو عليها ، ذلك أنه على صلة وثيقة بها ولا يريدها أن تنفر أو تنفلت منه فهو دائم مراقبتها والبحث عنها يقول : ( جن جنوني وأنا أناديها : ( يا أنا .. أين أنت يا أنا ؟ ) رجع الصدى يقول : ــ إنها هربت ..
ويصور لنا الكاتب في أبعاد لامتناهية من اليأس والترقب والجنون متسائلا عما إذا كان في الإمكان أن تتخلى عنه .
في بعض المشاهد يدخل الكاتب في عالم أسطوري زاخر بالرمزية وتجربة اختبار اللامتناهي مسكونا بروح الفرادة والغرابة ويصف روحه أو نفسه كما فعل في المشهد السابع بأنها النهر الرقراق العذبة مياهه ولا يخفي دهشته من ذلك في نفس الوقت آخذا القارئ إلى الشغف بالمجهول وانفتاح على عوالم لا توجد إلا في أسلوب كتابة زكريا صبح من خلال الخلق والإبداع المنقطع النظير وهذه إواليات هي نفسها التي تنظم كينونة الإنسان ووجود الوجود ، ولذلك لا يمكننا إلا القول أنه لا وجود لخطاب فلسفي ما يقوى على الاستغناء عن إغراءات الدهشة والتأمل في الكون والطبيعة البشرية وفي الوجود وفي الحياة والموت بصورة خاصة معتمدا مفهوم اللامتناهي الذي تتعدد دلالاته ومفاهيمه من أنه يمتح وينهل من حقول معرفية كثيرة محايثة تكسبه فاعلية ودينامية إضافية .
ونجد هذا المفهوم يتأكد لدى الكاتب في المشاهد الموالية وهو ينتقل بنا في فضاءات غريبة وإشكالات حياتية تؤدي بنا إلى ضرب من المتعة سببها إقباله على صور يستمده من عالم غريب كونه بأسلوبه الخاص مع روحه المشاغبة معتمدا الذات التي تتعدد من خلال حضورها الفعي او الرمزي سواء في فضائها أو فضاءات أخرى ويتخذها أدوات تعبيرية يستمدها من أجواء يخلقها بنفسه لنفسه ويتمكن من خلالها إنشاء طرق على أرض الواقع أو على أرضية الكتابة و الخيال أيضا مغلفا كل ذلك بالدهشة والانبهار مفجرا أسئلة لا حدود لها لدى القارئ عن الغيب والقضاء والقدر والبعث والعدم والموت الخفيف والثقيل ، يهدم ويبني في ذلك التعدد اللانهائي ومحاولة التأقلم والتكيف مع حركية المشاهد والمواقع الرمزية التي تلقي بظلالها على تيهه وأحيانا وهو يجوب رحاب كينونته منتظما بحركية الذات أو الجسد بمختلف أشكالها ومستوياتها .
وبعد المرور بكل تلك المشاهد التي تسيطر عليها منازعات وخوف وترق وحب أيضا بين الروح والجسد والتهيب من انفصالهما التام وبعد استرجاع عدة أحداث و أمام قتامة الحياة وتعنثها نجد الكاتب زكريا صبح يتحدث أخيرا عن الرحيل قالت : ( كيف ترضى لك ولي هذه الحياة ؟ تعال معي إلى هناك ، أنا سأرحل ، لن أبق بينكم ، كيف أبقى بين أناس يعيشون كما يعيش الثور ، مغمض العينين ، يدور في ساقية ، قاسية القلب ، لا الثور يصل ولا الساقية تشبع ..) .
ما يمكن أن نستجليه من كتاب الرفيقة هو أن الكائن البشري محكوم بالموت ، ويصيبه الممل من أنماط العيش والحياة والتقوقع في أحداث مادية صرفة في المكان نفسه لذلك فروحه أهم شيء في وجوده في الحياة الدنيا ولا أحد يمكن أن يحل محلها لذلك فهو يبحث باستمرار عن التجديد خاصة وأنه فضولي لا يهتم للموت مادام محكوما بها وهي نهايته لكنه يهابها ويخافها لذلك يحاول ما أمكنه حماية روحه من ظلم وغطرسة الآخرين .
عبر بنا الكاتب كل تلك المشاهد وبين أنه كان في مرات عديدة قاب قوسين أو أدنى من الموت وكلما مرة كان ينجو منه بفضل روحه رفيقته المثلى التي تلاعبه تارة وتنصحه أخرى وتثور عليه أيضا وتهجره وهي تبكي في أغلب الأحيان مما تعانيه من قهر واستبداد بني البشر الآخرين .