اه، إنها تمطر، السماء رمادية، غامقة،
سأجهز نفسي للخروج والمشي تحت المطر.
سارتدي معطفي الأسود الغامق، ذي الياقة الكبيرة التي تشكل دائرة حول عنقي وتغطي نصفوجهي، وسانتعل حذائيالذي يشبهحذاء الجنود، وسأسير لحد التعب. ولما أعود سأضع فيلما لسيد الخواتم، أو فيلم الرسالة، أو أضع أغنية ما لأم كلثوم.
على الأرض كانت أوراق الأشجار بنية وبرتقالية، وكنت أحاول أن أتخطاها لكي لا أهشمها فبالأمس القريب ،كانت خضراء يانعة ،
سأتوقف بمقهاي المعتاد .
في كوبي ستكون قهوتي سوداء ،سوداء ، سوداء!
و إحساس كبير جدا بالقبح، قبح شيطان مبتل !
ما يميز عالمي أنه مليء حقا بكل ما هو محزن، أحتاج إلى فضاء آخر!!
الأمطار عندما ترغب في ذلك، تتحول إلى عواصف هوجاء!.
على مقعدي كنت أنظر من نافذة المقهى الذي غالبا ما أركن رأسي البركان إليه وأترك نظراتي تسرح حول الناس وكأنها حمم ، وبين الفينة والأخرى كنت أرتشف من فنجاني رشفة سوداء ، أنا أعرف أنها سوداء ، لأنها تتوقف بحلقي وكأنها غصة أو أصابع يد تحشر في فمي تريد أن تخنقني .
لم أنتبه إليه في البداية،
عندما رفعت رأسي من على زجاج النافذة واستدرت، لإحساسي أخيرا أن هناك من يركز علي نظراته .
وجدته يرشقني بنظرات مليئة بالكراهية ورغم ذلك وضع على فمه المتهدل نوعا ما ، ابتسامة مشوهة وكأنها نوع من الترحيب ، بادرته :
ـ هل تريد شيئا ؟
لم يجب ، لكنه استمر بالنظر إلي بتلك الطريقة المفزعة .
قررت ترك كوب قهوتي والمغادرة قصد الاستمرار في التسكع على الطرقات الخالية من بني البشر ،
وجدته يمسك بإحدى يديه برجلي بقوة ، وباليد الأخرى كان يمسك بسكين تلمع أطرافه .
توقف الدم في شراييني ، أحسست أن الأمر سيسوء مع هذا المخبول ،
أو ربما ليس مخبولا ، بل أنا هو المجنون حقا ، لكن لم يكن بوسعي الصراخ ولا حتى طلب النجدة .
أحسست أن جسمي شل عن الحركة ، لكنني مع ذلك ابتسمت في غباء ،
وعدت لأجلس مكاني وكأنني آلة تحركها نظرات عيني هذا المجنون .
كان المقهى شبه خال من الناس ، ولا أحد انتبه إلينا من العمال ولا نادل ملعون اقترب من طاولتنا .
نعم طاولتنا ، لأن نظرات عينيه أصبحتا أقل كراهية حسبما تراءى لي
هل أنا على حق ؟ لا أدري
نظرت إلى عينيه بعمق من جديد ، وأنا أركز داخلهما ، لا أعرف حقا من أين واتتني تلك الشجاعة والقوة ، كانت فيهما رغبة شديدة بالتحدث أوربما ذلك ما خيل إلي.
قلت بصوت خافت وكأنه همس وكان ذلك من الخوف أن يغرز سكينه اللامع في صدري ، وليس لأنني هادئ كما جعلته يظن :
ـ هل تشرب من قهوتي ؟
وفي نفس الوقت أخرجت بسرعة بعض النقود من جيب معطفي ذلك ووضعتها أمامه وأنا أبتسم ، وكأنني لا أرى لمعان سكينه ذاك ،
كان قلبي يرتعد من الفزع ، وكان خوفي أشد من أن ينتبه إلينا وإلى ما يجري أحد ما، فنظرت حولي بثقة ، وكأن لا أمر يحدث .
(ياه من أين حصلت يا هذا على هذه الثقة ؟ )
أعاد سكينه بهدوء إلى جيبه ، ووقف وأخذ المال ، وولاني ظهره وذهب.
تنفست الصعداء ، ونظرت حولي بثقة مرة أخرى وقمت بتثاقل وكأنني خارج من معركة حامية كنت فيها المهزوم الوحيد .
لم أنظر حولي ، بل توجهت مباشرة إلى الخارج ، لا ألوي على شيء .
كانت الأمطار مازالت تتساقط بقوة ورياح شديدة تكاد تقتلعني من على الأرض .
تركتها تأخذني ، بعدما نزعت معطفي ليبلل المطر كل جسدي وكأنني أغتسل من كل أدران نفسي ومن أدران هذا المجتمع المجنون الذي أعيش فيه .