من البحر ، إلى الجبل ، من خلال الرياح على الأرض ، من فم لفم آخر، تركض برقصاتها، دوراتها لا نهائية ، صارخة بين الجدران ، على الطرقات المعتمة ، متوسلة ، في صراخ مرعب :
ــ لقد فقدت نفسي .. لا أعرف أين ؟ لا أعرف متى ؟
كانت الأصوات تصدح في المدينة ذلك اليوم .
ولما توقفت استمرت الأصوات في دماغها ..
وفي المساء أيضا استمرت ترن دون هوادة :
(أين نفسي ؟ ... ماذا يحدث لي ؟..)
في ذلك المساء الذي انمحت فيه النجوم ، وغيرت الجدران أشكالها والكلمات عطرها ، شعرت أن كل شيء ينقصها .. وخاصة نفسها .
إنها ليلة من تلك الليالي التي أرادت فيها تفجير العالم لتملأه بأحلامها الطاغية .
ــ ماذا يحدث عندما لا نعود نرغب في أنفسنا ؟ تساءلت وهي تعرف الجواب مسبقا .
في اليوم الأول لما التقيا ،أحست أنها تعرفه منذ الأزل ، ومنذ ذلك اليوم ظلت غريبة عنه ، فقد كان هناك أشياء وحشية في نظراته وفي تصرفاته .
هي بصفتها ملاك ، وجدت نفسها تائهة على هذه الأرض ، في هذه المدينة الشيطانية .
في البداية لم تكن تعرف أنه الشيطان بنفسه من تلقفها ، وهي ضائعة في متاهات الحياة والطرقات البئيسة في هذه المدينة الميتة .
ــ 2 ــ
تساءلت كثيرا :
ــ لماذا ألقت بي السماء إلى هذه الأرض العفنة وليتلقفني هذا الشيطان الرجيم ، وفكرت :
( لا يوجد لقاء يحدث بالصدفة أبدا ، قدر شخص يؤثر دائما على قدر شخص آخر ).
كانت تخفي جناحيها المتكسرين منذ أن سقطت من السماء على أرض هذه المدينة البغيضة ، لا تريد أن تبرزهما فهو لا يجب أن يعرف من هي ، ثم إن ذلك سيظهر ضعفها وقلة حيلتها .
تخشى أن تتحرر من قيودها .
إنها تستطيع ، لكنها تصمت ، عيناها تقولان كل شيء ، تصرخان أنها في حاجة إلى قوة الحب لترمم لها أجنحتها المتكسرة .
وكانت السماوات تبكي غيابها ونجوم العالم قد انطفأت جميعها حزنا عليها .
إنها ضحية ظلم وغيرة ملاك أخرى منها .
عانت من ذلك كثيرا لكنها كملاك لا يجوز لها أن تشتكي ، هي ترضى فقط .
لكن الملاك القوية دفعت بها من على حافة السماء لتسقطها إلى الهوة العميقة الحالكة السواد ، فاضطرت أن تحضن نفسها بنفسها لعدة سنوات وقرون وزمن لا متناهي ،
لو كان الأمر بيدها لحاولت أن تكون خالدة على إحدى المجرات التي مرت بها ، لكن لم تكن تعرف لماذا ليس لها الجرأة لتجد نفسها التي
ـ 3 ـ
غادرتها أثناء تدحرجها نحو هذه الأرض ، لكي تسقط تماما أمام قدمي هذا الشيطان اللعين .
كانت تعرف أنه يتربص بها الدوائر، وأنه يراقبها ،كانت تتخفى في كل وقت حذرة أن تقع بين براثنه .
كانت تحس بعض الأحيان بذلك النداء إلى المجهول وتعتقد أنها لو ذهبت مباشرة أمامها ، بعيدا ، بعيدا ، نحو الأفق الذي يتراءى لها من هذا البعد حيث تلتقي الأرض والسماء فإنها ستنقذ نفسها الغائبة عنها ، وأنها ستستقبل فجأة حياة جديدة ألف مرة مليئة ومتـأججة وليس مثل ما تعيشه في ركنها المنزوي عن كل شيء هنا ،تعاني من الملل والقنوط .
فكرت العديد من المرات أن تفصح له عن هويتها الحقيقية ،أمام ما تعانيه منه من سوء وشر وكراهية ، لكنها كانت تخاف من بطشه بها وتعذيبها .
كانت تعود كل مرة لتنغلق على نفسها وتنسى لحظات الحياة التي تمتصها، عندما تعود إلى التأمل داخلها .
ستشعره أنها منساقة إليه وليست لا متمردة عليه ولا سيئة . لتخفي سرها والذي يظل قابعا في صدرها دون أن يمنحها أي نوع من السرور.
حتى البكاء لا تستطيعه في هذا العالم الذي وجدت نفسها ترتمي إليه فدموعها عندما تسيل تحيطها من رأسها إلى أخمص قدميها من خلال شعاع يغمرها كقوس قزح يتلألأ بكل الألوان المبهرة ، لذلك فهي ممنوعة من البكاء .
ـ 4 ــ
إنها أسيرة لقصتها ، لا تستطيع أن تحكيها بعيدا عن أحاسيسها المتراكمة المتضاربة التي تعقد لسانها فتهرب منها الكلمات .
إنه لأمر مروع كيف أن كل كلمة تريد أن تخرجها من فمها ، تعود لتندثر على لسانها ، وترميها إلى أعماق أحداث القصة نفسها بعنف وكأنها تعيشها من جديد ،
لن تنس كم الأوجاع والآلام التي شعرت بها وهي مندفعة بين النجوم والمجرات ترتطم بها ليستقر بها المقام على أرض هذه المدينة الكالحة بين يدي هذا الشيطان الأرعن .
القلب لا ينسى أبدا أجمل اللحظات لما كانت تعيش مع الملائكة ، أما وقد نفيت إلى هذه المدينة فإنها لم تعد تفكر إلا في جروحها النازفة التي لا تندمل ، وذلك العذاب الذي ينخرها من الداخل ويطعنها في العمق .
لقد جعلها هذا الشيطان اللعين خادمة له ، ينهال عليها بكل أنواع السب والشتم ، لكنه اليوم هددها بعدما لم يتمكن من معرفة قصتها ، فقد كان دائم الشك بأمرها .
ـ تعبت منك ، كيف لا ترضخين لي ، وفي نفس الوقت أشعر أنني غير قادر على أن أجعلك تفعلين ؟ ما هو سرك ؟
هل أنت ملاك ؟ هل أنت ملاك ؟
إذا استمررت في إخفاء سرك ، فسأضعك في سجني العميق ، حيث لا نسمة هواء ولا شعاع شمس ، حيث ستموتين ببرودة صقيعية .
لماذا مازلت صامتة ؟ ) .
ــ 5 ــ
دارت في ذهنها أفكار سريعة ( ما عساها أن تفعل ؟ ) لو عرف أنها فعلا ملاك من السماء لقام بوضعها في سجنه حالا ، وسامها كل أنواع التعذيب والذل والهوان ..
( ربما يقتلها بيديه تلك ... ) .
ـ اذهبي من وجهي ، وإلا سوف أقتلك ... قال في حزم .
بسرعة اختفت من أمامه خوفا منه ،ومن أن يطبق قوله ، فقد رأت شرارات حمراء تخرج من عينيه الجاحظتين وقد تغير شكله وأصبح في شكل جني بقرون حمراء ونار تندلع في صدره .
كاد رأسها ينفجر من الأفكار المتطاحنة داخله .
كل الأجواء معتمة ، فكرت في الفرار منه ، لكنها تذكرت أنه يراقبها كل لحظة وكل حين .
ووقع في يدها ، فهي بين نارين إن اكتشف أمرها سيقتلها أو يضعها في السجن ، وكلا الأمرين مصيبة كبيرة بالنسبة لها .
لكن لا يمكنها أن تتركه ليفعل أحد الأمرين ،الشيء الذي أصبح على وشك الوقوع .
كان الرعب من أفكارها يدمر ما تبقى لها من شجاعة وجرأة ( لا نتحرر من شيء بالابتعاد عنه ، بل باختراقه .
وكنور ساطع لمع فجأة في دماغها ، قالت لنفسها مندهشة بصوت خافت لا يكاد يسمع :
( هو من يجب أن يموت ..) .
وكملاك ، خجلت من فكرتها .
ـ 6 ـــ
كيف تفكر بقتل أحد ما ؟ حاولت أن تطرد تلك الفكرة الشريرة من دماغها .
اهتمت بالعديد من الأمور ، في محاولة يائسة ، للابتعاد عن تلك الفكرة الجهنمية التي تسلطت بها .
(لا ... لا .. الملائكة لا يقتلون أحدا . ) .
لكن ما هو الحل ؟ فإما أن تقتله ، أو هو من سيقتلها كما سبق وأن هددها .
إنها تدور في فراغ ، كريشة في مهب الريح ..
إنها تشعر بالسوء وبقشعريرة تتخللها من رأسها إلى أخمص قدميها لمجرد التفكير بذلك .
ما لا يجب أن يعرفه أبدا هو سرها ، لكنها لا تعرف ما يجب عليها القيام به .
كانت تتلافاه ، ولا تذهب إليه إلا إذا طلب منها ذلك ، وكلما حصل ذلك إلا وشعرت بالرغبة في قتله تكبر داخلها .
كانت مشاعرها متجمدة ، وقلبها ممتلئ بمرارة قاتلة .
وتكابر ، تطرد تلك الأفكار من دماغها باستماتة .
المهول في الأمر ، أنها لو قتلته، فإن صفتها كملاك ستنزع عنها ، وأجنحتها المتكسرة ستندثر بصفة نهائية وستصبح بشرية لا أقل ولا أكثر .
هذه حقيقة مؤلمة تعرفها منذ البداية ، لذلك ترددت كثيرا قبل أن تفكر في إمكانية قتله .
ــ 7 ـــ
ـ ويأتيها صوته خشنا ، مفزعا :
ـــ فيم تفكرين ؟
انخلع فؤادها من مكانه ، هل يمكن أن يكون خمن ما يدور في دماغها من أفكار ؟
ــ لا شيء ..
ــ أنت تكذبين ... أعرف ذلك .
ارتعشت من الداخل ، لكنها تجرأت لتسأله :
ـــ ماذا تعرف ؟
ـــ أنت تفكرين في وسيلة للفرار ، أليس كذلك .
ــ لا ليس ذلك ، ولماذا أهرب منك ؟
ــ أنت لا تقولين الحقيقة ، لذلك يجب أن تعترفي بكل شيء اليوم ، مللت من تخفيك وغموضك .
و نادى على بعض من الجن الذين يسخرهم لأغراضه الشريرة ، و أمرهم بتقييدها و بضربها بسياط من نار، إلى أن تعترف .
قبل أن يهاجموها ، أشارت نحوهم بأصبعها وكذلك نحوه ، فامتلأ المكان بنور أزرق لامع أرداهم في رمشة عين جميعهم .
اندثروا كلهم في الجو ، ولم يعد هناك من تهديد أو ضغط عليها من أحد.
ظل النور الأزرق الشفاف الذي استعملته يملأ الكون ، لكنها فقدت أجنحتها ، وأصبحت بشرية بصورة كاملة .
ـــ 8 ـــ
بعد لحظات وبينما هي تستجمع أنفاسها ، دخل عليها أكبر خدم الشيطان مهللا ، فرحا وارتمى عند قدميها مباركا إياها ممجدا وهو يقول :
ــ شكرا لجلالتك ، فقد أنقدت شعب هذه المدينة بل المدينة بأسرها من سيطرة ذلك الشيطان اللعين الطاغية هو وحاشيته ، أما أنا فكنت أسيره، وقد شغلني ككبير خدمه .
أنا رهن إشارتك وكل شعب هذه المدينة التي كانت ترزح تحت ويلات ذلك الشيطان وقد عمها الظلام والشقاء .
كانت مندهشة مما قيض الله تعالى لها وكيف ستصبح الآن ملكة على هذه المدينة التي كانت ملعونة بسبب استيلاء الشيطان الملعون عليها .
ذهبت بتؤدة نحو النافذة ، لترى أن الأشجار قد أينعت وربيع وأزهار الحديقة قد تفتحت وان الشعب قد تجمع أمام القصر الذي توجد فيه والذي كان من قبل عبارة عن بناية متهالكة غمرت حديقتها نباتات طفيلية خبيثة و مخيفة .
تنهدت بسعادة غامرة ، وعادت لتفكر كيف يمكنها تسيير أمور هذه المدينة الجميلة .