إنها مازالت تسمع صوت خطواته وهو يبتعد ، كان يفر من بين أصابعها كالماء ، لم تقبض على يده حتى ، تركته يذهب ومعه قلبها.
كانت تنظر إليه وهي واقفة على عتبة باب بيتهما ، وخيبات كثيرة وكبيرة تستولي على كيانها وكأنها تسيرفي طريق لانهاية له .
كانت تنظر إليه كما تنظر إلى الشمس .
وكانت تحس أن شمسا أخرى تشرق داخلها ، شعاع منير ، إحساس عارم بالفخر من أجل الوطن ،وفي نفسها ورأسها تدور ألف إشارة استفهام .
كيف تمكنت ألا تجري خلفه وهو يبتعد دون أن يلتفت وراءه ؟؟
تنهدت وهي تعود إلى الداخل وكأنها تحمل على كتفيها هموم آلاف السنين ، لكنها لم تكن تحس بأي ألم ،فهي لا تعرف إن كانت ستراه مرة أخرى ، أو سيمر طيفه في ذاكرتها بعد ،
كل شيء توقف ، حتى أنفاسها كانت تتوالى متثاقلة ،
قالت بينها وبين نفسها ( جسدينا نحن الاثنين يمكن أن يموتا ،إنني قمت بجنازتهما مسبقا ، والآن فليخفت صوتك في صدري ولتختف كما تختفي دمعة في العين).
هناك على الجبهة ، خرج الجندي من جوف خندقه الذي حفره بيديه
صعقته رياح الصحراء الباردة ، أعمت عينيه حبات الرمال ، صاح بدجاجاته أن تدخل حفرة جانبية صنعها لها بجواره في الخندق حتى لا تأخذها عاصفة الصحراء الهوجاء والرمال الكثيفة المتناثرة .
هبت رياح كادت تجمد أطرافه ، وهبت معها رياح الخيانة ، سمع أزيز رصاصة الغدر ، بحث عنها بنظراته ، لكنها كانت تعرف طريقها ، استقرت بين عينيه وهو يردد متحديا : (من أجلك يا وطني ) .
كفنته الرمال ، ولم يعرف مصيره ، سموه الجندي المجهول .