حين بدأت قصتي
حيث يحرق النور قلبي،حيث يظل سري مخفيا،حيث تلحق الظلال الناس،هناك،
حينها تبدأ قصتي .
في تلك الأرض ،لم يعرف الناس السعادة،كانت الدموع تملأ عيونهم،والحزن يملأ قلوبهم،وعلى وجوههم خوف مشوب بالشك والتردد.
حين كانوا يريدون الكلام فهم يتمتمون ويهمهمون،وكأنهم على وشك فقدان النطق.
هناك الظلام دامس،يكاد بعضهم لا يرى البعض الآخر.
يحملقون كثيرا قبل أن يتعرفوا على بعضهم.
الموت حل محل السماء،هناك،وكأنه سينزل عليهم للتو كما الصاعقة.
هناك،الزمن نهر مسرع،لا يسمع له خرير،وهم قد صمت آذانهم عن كل الأصوات.
في السابق، لم يكن هناك زمن لديهم، ولا أرض أو تراب، وكأنهم فقدوا أقدامهم ويسبحون في الفضاء.
النهر وسط البلدة،تجمد من اللاشيء، والكل رفع رأسه تجاه السماء المتلبدة بالغيوم الحالكة السواد،كانوا يعرفون أن الصاعقة ستأتي عليهم،لكن الانتظار قتل فيهم التفكير وكل المشاعر ولم يبق إلا الفزع مرسوما على ملامحهم.
يعرفون أن هناك أشياء لا يجب الكلام حولها، لا عن وجوب وجود ضمير لديهم أو انعدام وجوده،لا يعرفون أي جانب يجب عليهم اختياره.
من كان فاسدا أصبح صالحا،ومن كان مزيفا أصبح موثوقا به،أعراسهم مآتم،العروس تنتظر عريسها،ويدق جرس الزفاف معلنا أن السلام الأبدي سيأتي إليها، ومصيرها الغياب وسط الظلام الحالك المخيم على السماء.
الكل كان يهتف عندما يظهر أحد الحكام على شرفة القصر وقد تلطخت يده بدماء حمراء تتقطر من أصابعه وهو يرفعها لتحية الجمهور الذي ازدحمت به الساحة وهو يتدافع ليسمع صوته للجميع ، ذلك الصوت الذي يأتي مبحوحا مهترئا ، كريها :
ـ النصر للكائن الذي لا يشعر ولا يحس ... النصر .... النصر
من بين تلك الجموع المحتشدة كان يقترب منها شيئا فشيئا ملتويا بين الصفوف مراوغا من يعترض سبيله ، لم يحدث صوتا، لم تشعر به وهو إزاءها كان شبحيا، تراءى لها ظله ثم اختفى فجأة كما شعرت بذلك أول وهلة .
حاولت التحرك من مكانها لتختفي هي الأخرى لكن صوته الذي يشبه الفحيح اخترق سمعها وسمرها مكانها :
ـــ أريد نظراتك لي ..
كان ذلك أمرا .
جفلت ، لكن ظله الأسود غمرها . مرت بذهنها فكرة أن ( الحب هنا شكل مقبول اجتماعيا كالجنون ...)
أكمل بنفس الصوت الذي ارتعدت له فرائصها :
ـــ سوف آخذ روحك الآن ، سأنسج مستقبلك معي عندما آخذ روحك ..
ارتعشت روحها وهي تغادرها إليه ..
كانت متأكدة أن الصاعقة على مقربة منهما وستنزل بهما حالا .
التف حولها كالثعبان وهو يتابع بصوته الملعون الممتزج بالسواد والهباب المتناثر حوله :
ـــ لماذا أنت حزينة ؟
أجابت بكل الكراهية التي استوطنتها منذ علمت أنها مجبرة أن تعيش في مملكة الاندحار والدمار هذه :
ـــ لأنك تكلمني بكلمات ، بينما انظر إليك بأحاسيس حالكة السواد.
قهقه طويلا :
ـــ منذ البداية أخذت نظراتك وبعدها تشربت كل أحاسيسك ، أنت الآن جسد منخور ، فارغ إلا من رياح عاتية وعواصف هوجاء .
تعجبت من كلامه المسموم ، هي متأكدة أن بداخلها هناك بقايا من نور ،
صرخت ، شعرت أن حنجرتها تكاد تتمزق من الصراخ ، لكنها لم تسمع صوت صراخها الذي أحست أنه يعود إلى صدرها كالهدير,
كان من حولها لا يميزون بين صوتها الذي يتردد داخلها كالرعد وبين انكسارات لا تكاد تسمع لأخشاب يابسة تتفتت .
اليوم أصبحت تعرف أن قصتها ستبدأ ، قصة الاستسلام لصاحب هذه الروح الدخانية ، السوداء ، وستعيش تحت رحمته كخفاش في عتمة عارمة ، لكن دموعا لزجة حارة سالت على وجنتيها أنهارا فكيف لها أن تعيش نهارها معلقة من رجليها ولا يمكنها الحركة إلا حينما يأتي الليل بظلامه الحالك .
كان بودها أن تسأل أحدا ما من حولها ، لكن الجميع كان منشغلا بالهتاف والتصفيق لانقلاب المفاهيم والموازين ، فهذا الذي تعيش فيه هو زمن الشر والخوف والسواد ،
سمعته يسر إليها في أذنها :
ـ استسلمي .. يكفيك تحديا لا فائدة منه ... إنني أسيطر عليك الآن جسدا وروحا يا خفاشتي الجميلة ..
كان جوابها عبارة عن حشرجة فهي لم تعد تستطيع الكلام .