عتمة خفيفة تسيطر على المكان، لكن العتمة نفسها لم تكن لتهادنها تنفست الصعداء ارتمت على أحد الكراسي أحست أن الكآبة تسيطر على ملامحها هل تحب هذا المكان المعتم هناك أمكنة كثيرة يطمئنون إليها كلهم و لكنها، هل تستطيع أن تطمئن إلى هذا المكان؟
هل هو مكانها؟
هل تستطيع أن تجد مكانها هي؟
حركة خفيفة في المكان، استرعت انتباهها أيقظتها من هذا التيه الذي يغرقها و هذا الاستسلام المزري المرعد في أعماقها.
كل هذه اللذاذات التي تحيط بها لا تستطيع أن تخدرها عن يقظتها الفاجعة، لا تتمكن من دفعها إلى الظل.
كيف تعلن عن نفسها وسط أنقاض جسمها؟ كيف تجمع هذا التشتت الهائل و تلف السنوات على جسدها؟ استقرت في عينيها نظرة مذبوحة، مرت بها على المكان و أعادتها لتسقطها في غور عينيها، لا مسافات، لا أبعاد ضيق! ضيق!
ارتعشت:
(يجب أن تتفاءلي ـ لماذا أن متشائمة إلى هذا الحد الجنوني؟ لن تغيري العالم.. بكل تأكيد)
كانت هذه النصيحة تتحطم على جدران غضبها الذي يزأر (كيف تتفاءل... كيف تتفاءل !؟
كيف و التشاؤم ينبع بلك ما تلمسه يداها، و بكل ما تراه عيناها و بكل ما تسمعه أذناها، و من خطاها، من خطواتهم التي تحطم قلب الشوارع كل يوم ـ و لا تجد مخبأ إلى في التسكع، هي تتسكع في كل شيء، في نفسها، في الكلمات، في النظرات، في أعمالها التي تقوم بها كأنها في غيبوبة، ذلك التسكع هو ملاذها الوحيد،
(أين أنا ) ـ تساءلت ـ الجمود حولها يصبغ كل شيء ، يغطي كل شيء ـ يجب أن تتحرك، أن تذهب من هذا المكان، فهو ليس مكانها.
(لكن إلى أين)؟
تساءلت مرة أخرى، (كل الأمكنة سواء) أجابت بكل الاندحار و كل التخاذل و الخنوع.
أحست بالجوع،
ستأكل لتعيش، هل يجب أن أعيش، و لم تعيش؟
ستأكل لتستطيع أن تجر هيكلها إلى خارج هذا المكان، فهي ا
أصبحت تكاد لا تطيقه.
صاح نفير سيارة في الخارج،
(حتى الجماد، يستطيع أن يصيح وسط الجمود ، لكن هي هل تستطيع؟)
و على التو،
قامت، فكرت، جيئة و ذهاباـ (هل استطاعت أن تحقق انتصارا واحدا وسط كل هذا الحشد من الانهزام؟
من الأحسن أن تخرج ـ أن تسير دون أن تنظر إلى أي شيء، إلى أي شخص.)
هاجمت عينيها أشعة الشمس الساطعة في الخارج أغلقتها بسرعة، فتحتهما ببطىء ، فتحت أيضا فمها و تجرعـت دفعة من الهواء المر، الممزوج بدخان السيارات،
( من الأفضل أن تتوقف، يجب أن تسير حتى تتعب قدماها، اللحظات تتحطم تحت وقع خطواتها، النظرات تتيه بعيدا عن كل الوجوه)
(ماذا سأفعل بكل هذه الساعات؟ لهذه الأيام؟ و بالسنوات القادمة ؟)
حتى التعب لا ينال منها، لتتمكن من النوم دون تفكير و تنسى كل شيء و الوقت أيضا، ارتعشت وهي تسمع صوته خلفها:
ـ لطيفة؟! إلى أين؟
امتد الفراغ بشكل مغناطيسي بينهما و امتدت يدها وسط كل ذلك الفراغ الكبير إلى يده الممدودة نحوها، رهيب ملمس يده.
كان ينتظر جوابا. و لكن ما جدوى جوابها، و هي لا تدري بماذا تجيب، فاعترفت بكل بساطة.
ـ الحقيقة أنني لا أعرف.
ابتسم كالمنتصر،
تمنت يوما لو تستطيع أن تكون لديها مثل تلك الابتسامات، على جزء منها فقط، فهي ابتسامة نصر.
دخل اللعبة و هو يقول بكل هدوء:
ـ إذن، تذهبين معي إلى أي مقهى، نجلس و نشرب شيئا ما.
و بعد صمت، استمر في كلام كثير، لم تسمعه كله،
ـ أتعرفين أنني فكرت فيك كثيرا هذه الأيام و اللحظة و أنا أسير كنت أفكر فيك، صدقيني ماذا قلت، نجلس في مكان ما.؟
حاولت أن ترى وجهه من خلال الفراغ المتواصل بينهما. نظرت، فتسكعت نظراتها بعيدا، (أين وجهه ـ تريد أن تنظر في عينيه لعلها تصل إلى نقطة البدء في عدم الفهم الذي يستولي على كيانها حاليا، لماذا يسير إلى جانبها بينما هي تسير مع لا شيء ،لا أحد.
أحس بصمتها، ظل يواكب خطوها، لم تحس به من جهتها، لكن كان يظن أن صمتها يدل على الرضى.
في محاولاتها النظر إليه، وجدت قدماها تتوقفان عن المشي.
شيء مريع يحدث على بعد عدة أمتار منها، طفح هلع كبير على وجهها، اقشعر بدنها، كل الأخيلة، كل المارة، كل جدران هذه المدينة الكالحة و كل النظرات المريرة تقعرت في نظرها كان وجهها ممتقعا، و في عينيها ثورة حمراء، في حين خرج صوتها خافتا، متحطما على نتوءات ما رأته.
غير بعيد كان أحدهم يضرب إحدى النساء ضربات متوالية قاسية، كان لا يرحم أي جزء من جسمها و كان الناس يمرون، و رجله تضرب و تضرب و المرأة تصرخ وتمسح الدم القاني الذي غمر عينيها و عمى الرؤية فيهما،
و مراجل فيها كانت تفور ،و الكيان يمحى ينتهي مع انتهاء صوت الضربات على جسد الفتاة التي لم تعد تحملها قدمها، فسقطت أرضا،
كان قد تابع نظراتها المفزوعة فاستطاع أن يرى ما رأته.
الألم لا ينتفي إلا في غيبوبة أو في تجميد.
اندلع الغضب داخلها مرة أخرى،
أحست بيده تقبض على ذراعها و تجعلها تدير ظهرها إلى المنظر المؤلم الذي يتمتع به كل الجمهور الذي كان يجول الشارع.
أحست بوهن مفاجئ ،وبحركتها متباطئة ،كان يسندها ولا شك.
غضبها يكاد يدمرها، توقفت مرة أخرى، حاولت أن تنظر إلى الخلف اعترض على ذلك بصورة حازمة وهو يقول لها:
ـ يجب أن نبتعد عن هذا المكان ـ لا حاجة بنا إلى المشاكل ـ أنا شخصيا لا أريد أبدا أن أقترب من أي مشكل من هذا النوع. ثم ـ لا داعي لهذا الغليان، فهي تستحق ذلك.
تسمرت رجلاها على الأرض هزتها رعدة عنيفة،
أضاف قائلا ليستحثها على مغادرة المكان:
ـ كوني عاقلة، يجب أن تهتمي بمصلحتك أولا كيف تدعين أمورك و تهتمي بالآخرين؟
انخفضت درجة غليانها شيئا ما ـ لكن ما هذه المشاعر بكل هذا التلف تتطاول في أعماقها، تندلع من عينيها إلى المدى، كان يعرف أن ما وقع ترك تأثيره العميق فيها، و أنها لن تستطيع إبعاد ذلك المنظر المؤلم عنها و أن تعاستها لن تنته.
و كانت حافلة تقف إزاءهما ، فوجدت نفسها تندفع وسطها،على الأقل هي لا تعرف إلى أي مكان ستذهب.
كانت لا ترى وجوه الركاب، كانت صورة ضبابية تنعكس لديها كلما ركزت عينيها على شيء.
أحست به إلى جانبها.
(ماذا يريد.؟ هو أيضا من هذا الكل الذي ترفض ،هو أيضا حيز، وجود، مكان مملوء بجسده قربها. لماذا؟
ـ أتريدين أن ننزل في محطة آخر شارع هناك بالقرب منها مقهى جميل.
ضاق صمودها،
ـ لن أنزل، فهذه الحافلة أحد أمكنتي، فأنا لا أعرف اتجاهها، و هي تحملني إلى مكان جديد.
ـ ماذا تقولين؟ أتمزحين.
ـ نعم لن أنزل سأبقى على متن هذه الحافلة أحببت أم كرهت.
كان الغضب مازال يتملكها، و كان يتكاثف كلما تحدث إليها ( من قال له أنها تريد أن تشرب شيئا، أو تجلس في المقهى).
حتى تنتهي منه قررت أن تواجهه:
ـ لن أجلس في مقهى!
قبل أن تتم كلامها بادرها بسرعة فاجأتها.
ـ نذهب إلى مكتبي، فأنا محمد و محمد لم يتغير!
ـ لا أريد أن أذهب إلى مكتبك، أريد أن أبقى في هذه الحافلة، ما رأيك؟.
وفجأة ،غضبها الذي حاولت أن تسيطر عليه، ينفلت منها.
ابتلعت ريقها قبل أن تقول بصوت كاد يكون مرتفعا:
"لا يهمني أمرك، أنا لا أراك، فتغير إذا أردت ذلك لا يهمني. !
كانت الحافلة في تلك الأثناء تستعد للانطلاق بعد توقفها في إحدى المحطات.
وجدت نفسها تندفع خارجها كما فعلت حينما ولجتها.
كانت نظرته إليها تافهة، غبية، عقدتها الدهشة.
ضربت الإسفلت بخطوات قصيرة حثيثة، و قد صبت نظراتها كلها على مواطن أقدامها المستقبلة.
هل أنا إنسان؟ كيف يجب أن يكون الإنسان إنسانا؟ و لماذا لم يكن ذلك الذي ضرب الفتاة إنسانا؟و من يجعل الناس أناسا؟ و كيف يمكن؟
ـ أهلا، كدت تصدمينني ـ إلى أين تمشين هكذا و أنت غارقة في التفكير،
ما أقسى المكان ـ يضربها في غفلة ـ
ـ أظن أنه لا مانع إذا شربت شيئا معي هناك مقهى في الطرف الآخر، أحبه فما رأيك.
ارتعدت ابتسامة على شفتيها:
(تريد أن تعرف لماذا لا يتركها العالم في حالها لماذا يلاحقها جموده بينما داخلها يرتج أمام صمتها؟
جاء صوته:
ـ إنني لم أرك منذ زمن طويل.شهر أو أكثر. أتتذكرين؟
إنه ودود، لبق، واثق من نفسه.
ـ أين كنت؟
(ما دخله، لكنني سأعرف كيف أجيبه)
ـ كنت مريضة؟
ـ ياه، لهذا لم أعد أراك.
ـ مازلت مريضة، سأدخل توا إلى البيت، لن أستطيع الذهاب معك إلى المقهى عذرا
ـ إلى اللقاء إذن
ـ إلى اللقاء.
( لا لقاء في لا مكان ـ و في زمن ينتفي فيه الزمان و الكل فريسة الصمت، الخواء ـ الجمود ـ الخمول).