لملم هذا العام أطرافه، ومضى من حياتها.
جالت ببصرها حولها،
لقد مضى، بكل ما فيه مضي.
تذكرت ساعاته ،دقائقه الثقيلة، المريرة، الفارغة، الطويلة، الطويلة..
مرت بعينيها سحابة حزن،
قرر أن تدفن كل الأحزان، لكن هل التخلص من الحزن يكفي؟!.
ماذا يجب أن تفعل؟
قذفت عيناها مرة أخرى نظرات فضولية، مستكشفة أرجاء المكان،
كل شيء ما هو،
لا، بل أصبح معتادا لديها ، تعودته،وعن طيب خاطر أو على الرغم منها، لكنها تعودت عليه، هذا التعود الطاغي، المرير، الجميل في نفس الوقت.
كل شيء حولها يكتب بحروف فارغة هذا الحزن الكبير، المتسلط، كأنه هاوية سحيقة لا قرار لها، و هي لا تزداد إلا تعمقا فيها.
كل شيء مضى، و لم يبق إلى هذا الحزن الراكض في شرايينها و أحشائها، الساكن عينيها.
منذ متى و هو يركض هكذا، يعيث فوضى و يشيع اضطرابا؟!
منذ متى عانقته هذا العناق الأحمق الأخرق؟
و كيف استمرت تعانقه عناقا مكينا، منذ متى و هو يحفر داخلها بعناد و بحرية كما تحفر الفأس الحادة بركة جافة يابسة؟! .
حزنها الغامر، تطويه بين ثناياها، و بين كلماتها الخافتة الحزينة و هي تقوم بأشغال البيت و هي ترتب الأثاث، تمسح أو تكنس، تغسل..
في عملها أيضا لا يغادرها هذا الحزن الأليف، يتبعها كظلها يمتد إلى داخل ظلام نفسها، يعرش فيها يملأ عليها غربة قلقها
و تعاستها.
لكن الشعور بالحزن يطن في أذنيها، تحرك رأسها محاولة إبعاد هذا الطنين الذي يتسرب إلى أعماقها.
تبتسم و كأنها تهدئ روع هذا الحزن الأبدي الملازم لها، شيطنة هذا الحزن لا تنتهي.
و تعود إلى البيت، يعود معها حزنها، صامتا يمشي إلى جوارها، لا يفارقها.
هكذا كانت تعيش، تزيح كل يوم من أيام حياتها هذه من بين يدي حزنها العريضتين.
و هكذا لا ينفك حزنها يرعاها، تمضغه بعنف أحيانا، يمضغها بهدوء كل يوم.
كان من الواجب أن تنفض عنها غبار هذا الحزن الذي كثيرا ما أحست أنه يحيل لون وجهها رماديا، و كثيرا ما تحسسته و كأنه شيء ملموس مادي، و كثيرا أيضا ما مارسته، مع الأشياء، التي كانت تنظر إليها في حزن ،من بعيد، دون أن تقربها أو تمسها، و كانت تشيح بوجهها أخيرا، مكتفية بدبدبات حزنها التي تسري في جسمها كله.
و مارسته مع الناس، فكانت لا تهتم لما يفعلونه أو يقولونه، سواء في العمل أو خارجه.
كانت تسير في الطرقات دون أن ترى أمامها شيئا، و قد مال رأسها شيئا ما إلى جانب معين و كأنها تتكئ على شيء ما و لم يكن ذلك إلا حزنها، مرافقها الدائم،
مارسته أيضا مع نفسها، التي كانت تروضها و تعودها كل يوم، في كل ساعة من حياتها على هذا الحزن الكبير الذي اجتاحها.
و كانت نفسها سعيدة بحزنها و خاصة في حالات انعزالها التام عن كل شيء، عن الحياة، عن مظاهرها ، و حتى عن النور و الحركة.
قرأت عليها إحدى زميلاتها يوما في العمل أبياتا من قصيدة شعرية تقول:
(كم أشتهي وردة الروح و الكبرياء
و أكره فيكم تراب التراكم و الانتهاء
و مالي لكم
كم تراوغني تربة البر هذا الضياء
فأحلم أني بعيد عن الأرض.)
فعشقت هذا المقطع من هذه القصيدة، و في كل مرة كانت تخلو إلى حزنها تردده على مسامعه بحزن لذيذ، لذيذ.
و من بين خيوط حزنها العنكبوتية كانت تطالعها وجوههم المتعددة.
ـ لماذا أنت وحيدة إلى الآن؟
ـ كان من الواجب أن تتزوجي، لا ينقصك الآن شيء ،إلا زوج ، رجل يحميك فتستقر حياتك المتأرجحة هذه.
كانت تبتسم ابتسامة حزينة، فرحة و هي ترد مضمرة أن حزنها هذا رفيقها الدائم.
ثم مرة طالعها وجه ككل الوجوه ، لم يعبر عن رأيه في حياتها كما كان يفعل الآخرون و إنما فاتحها في موضوع الزواج.
" أريدك زوجة". قال لها.
لم تستطع أن تخفي ابتسامة كبيرة حزينة اعتلت شفتيها بإلحاح.
لاحظها فقال بملل:
ـ لماذا تضحكين.
ـ لم أضحك ، كنت أبتسم فقط لهذه الفكرة!
ـ إنني جاد فيما أقول!
أنبأها بجديته بصوت يتملكه الغضب و الحنق،
غادرتها ابتسامتها الحزينة، ليعمها حزنها و يغلف وجهها بقناعه الواقي،
ما الذي يحدث لها، هل هو الموضوع الذي طرقه هو الذي يفجر في ذاكرتها عالم البوح و الأسرار؟ ما الذي يجعل هذه الأحاسيس تسمع صداها ، فترتد نحوها كالحالمة:
ـ بالمناسبة ـ ما هو الزواج؟
سؤال، جعل ملامحه تنطق بكل الأسئلة.
(يا حزن طهرني من أدران هذه الفكرة فأنا نذرت نفسي لك، و نفسي جزء يخصني و من واجبي الدفاع عنه.)
بدأت ذاكرتها تحكي مشاهد قديمة مضطربة، كأنها استجابة لاضطراب نفسها و فوضى العالم.
كان إحساس بالدونية و التفاهة يغرقها،
(يا قوة حزني، انجديني ، كي أتخلص من هذا الذي يعود بي إلى حدائق طفولية من الشك والقلق، يا قوة حزني أعطني القدرة الكافية لألعب لعبة القناع).
الحزن ـ
أية قوة تدعي ؟
و هل ذلك يجعلها تتمتع بشيء من الحقيقة؟
هل ذلك يثبت أنها حية ترزق؟
إنها تعمل ـ تتلقى أجرا على عملها، إنها تبتعد عن كل ما يدخلها تلك الدوامة الغبية فيصبح دورها لا يختلف عن دور حمار الطاحونة.
ـ ماذا قلت ؟ هل أنت موافقة.
كانت نظراتها تستطرد خلف السحب الخفيفة و لكنها لا تستطيع العودة، كانت السحب تغري نظراتها أن تخترقها و أن تدخل تلافيفها و أن تنغمر وراءها في المساحات العريضة، الشاسعة.
كان يظن أنها تفكر في عرضه،
يجب ألا تترك لخيالها العنان ككل مرة، يجب ألا تجازف.
ـ أوافق على ماذا؟
تأوه و هو ينظر إليها باستغراب و دهشة.
ـ على الزواج مني، أعدك أنني سأنظر في أمر مستقبلي بكل جدية و تعقل، ما رأيك؟
أحست أنها تقف على عتبة عالم آخر مرتجف كمن أحس بخطر ما،
وقفت ،
نظرت إلى الخارج من خلال نافذة مكتب عملها، لم تشعر يوما بهذا الخوف الذي أخذ يسري إلى أعضائها لماذا تمتلئ نفسها بالمتناقضات و يسكنها الخوف و القنوط؟
هل هو القرار المطلوب منها التعبير عنه الآن؟
الفعل هو السيد،
و الآن هو الذي يفعل، هو الذي يدفعها إلى القرار. (الأحمق، ألا يعرف أن القرار هو الطريق، لا فرق أن تكون ضحية أو شهيدا) . و هكذا يباغتها فجأة دون حياء:
ــــ هل تتزوجينني؟ لم تكن تظن يوما أنها ستلزم بالرد على عرض بهذا الحجم، بهذه السهولة والعفوية والتلقائية ، إن العفوية والتلقائية هذه تموت بمجرد الاقتراب منها، من حزنها الأبدي.
أصبح الآن لزاما عليها أن تتهيأ للرد بكل جدية أيضا، و عليها أن تبدأ خطوتها ،تمردها، لتحتضن حزنها لتدخل غابته التي فيها تتساوى العصافير، و تتعانق الأشجار، حيث التلقائية و حدها تحدد الرغبات.
لكن القرار صعب في حقيقة الأمر، و حزنها المهووس هو الذي يجب أن يصنعه، يجب أن تختلي به ، دون مخادعة، لتقرر، و تخبره.
جالت ببصرها حولها، رأت أن حزنها يغلف كل شيء ، استثنته هو، فقد كان دخيلا على كل تلك الأشياء الموجودة في المكان، على الفور تبادرت إلى نفسها أبيات القصيدة:
(كم أشتهي وردة الروح و الكبرياء!
و أكره فيكم تراب التراكم و الانتهاء )
قالت له بكل هدوء حزين:
ـ لا أريد الزواج منك.