تعتبر المقامة أو المقامات شكلا قصصيا أو نوعا من القصة القصيرة يعتمد على السجع والبديع والبلاغة ، نشأ في العصر العباسي واعتبر إفرازا جديدا لتلك الفترة فازدهر واهتم به الناس فأصبح رائعة من روائع فنون الأدب العربي والحكي او السرد القصصي على الخصوص .
تعتمد المقامات على راو واحد ويكون بطلا واحدا أيضا ونورد هنا مثلا على ذلك وهو عيسى ابن هشام في مقامات بديع الزمان الهمذاني وهدفها تعلم وتعليم الناس أساليب اللغة العربية وبيان براعة كتاب المقامات في تصوير المظاهر والأفكار الرائجة في ذلك العصر وتصوير حالة الفقر والأوبئة والثقافة الأدبية في المجتمعات حيث كانت المقامات غالبا ما تنتهي بموعظة او عبرة أو نكتة تصف تصرفاتهم الأخلاقية حينذاك .
عرف فن المقامات نجاحا كبيرا ، فأقبل عليه العديد من المؤلفين والأدباء بعد بديع الزمان الهمذاني ، فكتب فيه ابن علي الحريري خمسين مقامة عارض من خلالها مقامات بديع الزمان الهمذاني ، ونظرا لانتشار هذا الفن واهتمام الكثيرين به أصبح عالميا فوجدنا مقامة القاضي حميد الدين الذي تناول المقامة باللغة الفارسية وفي أوروبا سمي هذا الفن باسم ( بيكارون ) الذي له من الشبه من نواحي كثيرة ما جاء عند بديع الزمان الهمذاني على لسان أبي الفتح الإسكندري وأبي زيد السروجي عند الحريري .
وهكذا نمر إلى توضيح أن المقامات الأدبية تقوم على ثلاث شخصيات وإذا أخذنا مقامات الحريري نجد أن هناك :
ــ الشخصية الأولى : وتتعلق بالكاتب وهو في هذا الموضع تخص الحريري .
ـــ الشخصية الثانية : وتهم شخصية الراوي وهو الحارث بن همام وهو من يروي أويحكي لنا كشاهد مقالب وتصرفات أبي زيد السروجي
ـــ الشخصية الثالثة : وهي تخص بطل المقامة وهوعند الحريري ليس إلا أبو زيد السروجي نفسه ، الذي يتقمص عدة أدوار من خلال عدة شخصيات فهو قد يكون شخصية ساخرة من النخب أو من العامة أيضا وفقد يتهكم على مهن الناس في ذلك الوقت أو كذلك على المؤسسات والتسلسل الهرمي في المجتمع ، وفي حالة أخرى يقلد الواعظ المرشد ويكون متقمصا دور امرأة أو رجل عجوز أو قاض يلون دوره بألوان البلاغة المبهرة ويسحر الناس بفصاحته وسعة أفقه.
وأتمنى أن يتناول الباحثون والمؤلفون بالدراسة والتحليل الشخصية الثانية التي لم تنل حقها من ذلك وهي شخصية الراوي ( الحارث بن همام البصري) وهو الراوي السارد المندهش من المرونة الأخلاقية وسلوكيات بطل المقامات ابي زيد السروجي غير المتوقعة والمبنية على مفاجأة القارئ ذلك البطل المحتال المخادع الذي يضرب بالقواعد الاجتماعية عرض الحائط ولكنه مع ذلك ينفذ من مواجهة العدالة لأنه يتنصل ويسحب نفسه مما يقوم به من تضليل ونصب بحيله المبهرة فلا يتابع بجرائمه التي تبقى في الظل .
وقد كانت خمسون مقامة في هذا الصدد للحريري كلها مسرح لأبي زيد السروجي يجول فيه مغامرا تارة يطوف حول العالم ويبين إلى أي حد يتمكن من الاحتيال وخداع الناس ، ولعل المتتبع لعناوين مقاماته تلك يصل إلى نتيجة واحدة وهي ما كان يروج في العالم الإسلامي من مشاكل لا تكاد تختلف عن بعضها البعض .ونورد بعض عناوينها مثل ( المقامة الصنعانية ، والحلوانية ، الدمياطية ، الكوفية ، البغدادية ، المراغية ، المكية ، الإسكندرية ، المغربية ، الرازية ، الفراتية ، الزبيدية ، السنجارية ، البصرية ....الخ ,,,,
كما لا ننسى ذكر المقامة البقشيشية وهي إحدى المقامات الأدبية الفريدة التي كتبها الأديب اللبناني أحمد فارس الشدياق ( 1804ــ1887)والتي تتناول بالنقد الظاهرة الاجتماعية وتتلخص في منح الإكرامية أو رشوة وقد بين الجوانب السلبية والسلوكيات المنفرة السيئة لهذه الظاهرة ، وقد قام الدكتور محمد محمود الدروبي أستاذ الأدب والثرات بجامعة آل البت الأردنية بتحقيق تلك المقامة ونشرها في كتابه ( القامة البخشيشية ) كما ورد أعلاه .
وبعد هذه اللمحة الجغرافية لانتشار المقامات في العالم الإسلامي على الخصوص فلا يفوتني أن أطرح السؤال الأول الذي بعد الإجابة عنه سيؤدي بي إلى طرح سؤال ثان عن المقامة في عصرنا الحديث ومركزها في الأدب العربي المعاصر من خلال مهتمين وكتاب في شأنها مثال ذلك محمد ياسين الأقطع من خلال مقاماته القطعانية أو كما يسميها حكايات محمد بن ياسين عبر الأيام والسنين .
وعودة إلى السؤال الأول فسيكون كالتالي :
هل فن المقامات هو فن عربي أصيل أم أنه تأثر بالأدب الفارسي ذلك أننا نجد أن بديع الزمان هو من اخترع وابتكر وأبدع في فن المقامات ونعرف أنه نهل من الأساطير ومن البهلوانية ومن الثوراة عند اليهود ، ومن قصة لقمان والهستوباداسا في اللغة السنسكريتية مما أدى بالقلقشندي ان يذكر ذلك في كتابه ( صبح الأعشى) قال :
( إن أول من فتح باب عمل المقامات علامة الدهر وإمام الأدب بديع الزمان الهمذاني فعمل مقاماته المشهورة المنسوبة إليه وهي في غاية البلاغة وعلو الرتبة في الصنعة ثم تلاه أبو محمد القاسم الحريري فعمل مقاماته الخمسين ، المشهورة فجاءت في غاية الحسن وأقبل عليها الخاص والعام ) ( الهلال 1962 صفحة 180 الجندي 1986 صفحة 481 والهمذاني 1987 صفحة 22).
واعتقد البعض الآخر أن بديع الزمان الهمذاني أخذ فكرة كتابة المقامات من الأقدمين كما ذر ذلك القيرواني في كتابه ( زهر الآداب ) بأنه ألف مقاماته يعارض بها ابن دريد يقول الحصري :
لما رأى أبا دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثا وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره وانتخبها من معادن فكره وأبداها للأبصار والبصائر وأهداها إلى الأفكار والضمائر في معارض حوشية وألفاظ غنهجية فجاء أكثرها ينبئ عن الطباع لا ترفع له حجب الأسماع عارضه بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفا وتقطر حسنا لا مناسبة بين المقامتين لفظا ولا معنى وعطف مساجلتها ووقف مناقلها بين رجلين سمى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الأسكندري وجعلهما يتهاديان الدر ويثنافتان السحر والصلة واضحة بين مقامات بديع الزمان الهمذاني والأمالي في وصف الأسد ( المناح 1999 صفحة 154 الموسوعة صفحة ¬¬´564 وبوملحم صفحة 7 .
ويعتقد جرجي زيدان أن الأمر يتعلق بتقليد بديع الزمان للإمام اللغوي الحسين بن أحمد بن فارس ، بينما عبد ربه صاحب القد الفريد وابن قتيبة كان يظنان أن نشأة المقامات وزمنها يرجع إلى عهد أبعد من عهد وزمن بديع الزمان ( الفاخوري 1377 صفحة 734 ) .
أما في عصرنا الحديث فإن المستشرق مرغليوث وهو من مؤرخي الأدب أن مبتكر ومنشئ فن المقامات ليس الهمذاني كما اعتقد الناس منذ زمن بعيد بل كان متأثرا بابن دريد والأحاديث التي ألفها ( الكك 1986 صفحة 52) .
وقد كثرت المناقشات والادعاءات حول نشأة المقامات ومن له قصب السبق إلى ذلك وممن اهتموا كثيرا بهذا الموضوع المؤلف زكي مبارك الذي رأى أنها تعود إلى الفرس لحرصهم على القصص والأحاديث أثر من العرب (/، صفحة 52) .
الشيء الذي كان مثارا مباشرا للرد عليه من طرف مصطفى صادق الرافعي بمقال له عنونه في مجلة ( المقتطف ) يرمي فيه إلى إصلاح ما وقع من خطإ فيما يتعلق بنشأة المقامة .
ومن هنا نصل إلى كتاب (الغائب) للأديب عبد الفتاح كليطو الذي رأى كما يوضح في كتابه المذكور أن المقامة ( نسيج محكم يتعين علينا أن نفتق خيوطه ونفكها خيطا خيطا ، ثم يتعين أن نعيد تركيبه من جديد ) صفحة 28
وقد قام في كتابه ذاك بتقطيع المقامة معتمدا تحليل ( المقامة الكوفية ) للحريري ، إلى ثلاثة عشرة وحدة سردية صغرى مبينا أن المقامة لن المقامة ليست مجرد سرد وإنما هي نسيج لغوي متنوع ومتعدد الدلالات يقول :
( تعدد الدلالات لا ينبع من الكلمة في حد ذاتها .. وإنما ارتباط الكلمة بكلمات قريبة أو بعيدة ، كلمات تكون في النص المدروس أو في نصوص أخرى ) صفحة 57 .
وهذا التحليل يبرز أن القراءات السابقة للمقامات كانت تعتمد على اختزال سياسي مهمتها لعب سردي هدفه الوحيد إظهار براعة الكاتب اللغوية خاصة أن كل النقد الذي أحاط بها كان يرتكز على قراءات خارجية مبسطة استشراقية أو عربية لذلك لم تستطع ان تمسك بسر سحر هذا الشكل النثري السردي الهام ولربما تدخل عنصر المقارنة بين المقامة والقصة القصيرة في هذا الشأن الشيء الذي بخس المقامات القديمة حقها .
المراد من هذا التقديم المختصر أو التوطئة عن نشأة المقامة والتعريف بها وبشخصياتها وأنواعها منذ القديم إلى الآن في هذه العجالة التي لا تفي بالطبع المقامة حقها من التعريف والدراسة والتحليل الشيء الذي سيأتي بنا إلى السؤال الثاني المشار إليه سابقا والذي يجب أن أجيب عليه من خلال محاولتي للتطرق إلى المقامات القطعانية لمحمد ياسين الأقطع حاليا في مقاربتها مع ما سلف ذكره من تسليط الضوء على مختلف مناحي وقواعد فن المقامات .
السؤال الثاني :
المقامات الأدبية في العصر الحديث عند محمد ياسين الأقطع من خلال مقاماته القطعانية وتناوله لها من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون أيضا .
مما سبق ، توصلت إلى أن المقامات الأدبية رغم أفولها التاريخي وغياب نجمها فإنها شكلت ظاهرة في تاريخ الأدب العربي وكان د ورها يتلخص في رسم صورة بلاغية مميزة للبلاغة والبديع والتمسك بالصنعة في الكتابة والاقتصار في ذلك على الشكل في السرد الأدبي ، أما اللاحقون من المؤلفين والكتاب في عصرنا الحديث فإنهم حاولوا نفض غبار السنين عن المقامات الأدبية وتجويد صورتها كونها جنسا أدبيا من الواجب صقله والارتقاء به إلى المرتبة التي تحتلها باقي الأجناس والفنون الأدبية الأخرى ، فوجدت البعض منهم يلجأ الى استعمال المحسنات البديعية والبلاغة رغم انحسار د ورها تاريخيا والبعض الآخر وكما سلف من خلال حديثي عن الأديب عبد الفتاح كليطو وجدت أن الأديب محمد ياسين الأقطع بدوره جنح إلى الاهتمام بالناحية الداخلية للمقامات فرغم أن مقاماته تعتمد على استخدام البديع ومحسناته من سجع وتشابيه بلاغية وغير ذلك من محسنات تقليدا لما كانت المقامات ترتكز عليه شكلا فإنه يعمد إلى الالتزام بقواعد المقامة التقليدية بإيراده شخوص ثلاثة ووهي تتلخص في الراوي ابن حمدين و في البطل الذي يتغير من مقامة لأخرى فهو في مقامة شمسة غيره في مقامة ( ابو صفوان المجنون ) .
فإنني أجد أنه يستخدم أسلوب الهدم والبناء حسب نوع المقامة فهو ينحو منحى الإغراب بعض الأحيان قصد توضيح الفكرة أو الموضوع الذي أسس من أجله مقامته ولينتقد الزمان وسطوة المكان ، ليبلغ أخيرا قصده وهو التغلغل إلى المعنى من حكيه ذلك ، فنخلص إلى أن اعتماده الأسلوب في الحكي أو القص هو كل شيء بالنسبة له ليصل بالقارئ أو المتلقي إلى النتيجة التي أرادها وهي مفاجأته وإدهاشه بخاتمة مقامته ، فهذا ابن حمدين في حوار له في مقامة شمسة والتي كان له دور القاضي فيها يقول :
(اعلم يا عبد الله أنني لعودة زوجتك ضامن وعلى صلاح أمرها قائم ..... الخ )
ليرتقي في تصاعد وتكاثرية بأسلوبه ليحصل على عكس ما جاء في كلامه إلى أن يصل بالكاتب إلى النهاية المدهشة والمفاجئة للمتلقي .
كل ذلك على غرار ما يحصل حاليا في اعتماد كتاب القصة القصيرة على توخي إثارة دهشة وقلق القارئ واستفزازه الشيء الذي أصبح من أهم عناصر القصة القصيرة في أدبنا الحديث وهو الشيء نفسه في مقامة أبي صفوان المجنون .
وهكذا أعود لأؤكد أن المقامات القطعانية تقوم على أساليب جديدة من تواتر للأحداث والسفر بالقارئ عبر متاهات من الغرابة وبعض الأحيان الغموض للوصول إلى النتيجة المرجوة وهي إثارة دهشة المتلقي في الأخير مع التأكيد أيضا أن المؤلف ما فتئ ملتزما بكافة عناصر كتابة المقامات التقليدية من ناحية شكلها الخارجي دون الحاجة إلى إيراد أمثلة عن اعتماده للأساليب البلاغية والمحسنات البديعية التي أفضت بشرحها في بداية المقال والتي لم يكن همها إلا تصوير الحياة الخارجية لشخصيات المقامة دون التطرق إلى عناصر أخرى داخلية أو أسلوبية تهتم بالمتلقي وردة فعله من خلال قراءتها .
كل ذلك يجعل الأديب محمد ياسين الأقطع من رواد تحديث وتجديد فن المقامات في الأدب العربي المعاصر بامتياز .