تجولت في الأرض، أين الناس؟هل غادروا الكون؟
أين دقات أحذيتهم على الأرصفة ،وفي الشوارع؟.
كان قلبها ينبض بهدوء وصمت،وكانت تتأرجح بين السكون والوحشة،وأفكار كثيرة عنها،وعن تعلق مصيرها بالناس تروج في ذهنها،تعذبها.
كانت تريد أن تكون حرة،حرة ..
وظلت تبحث،تاهت في الوجع،كانت لا تملك إلا تجاربها الصغيرة المنبعثة من خيالها،تخوض التجربة وحدها،تتخبط في دروب الحياة،تصنع أسوارا من ورق لتحميها من نظرات الجياع،كانت تسير في الدروب الملتوية ليفقدوا أثرها.
كان طموحها دون حدود .
كانت كالمسافرالغامض،تقف في كل محطة،تستعرض أفكارها،أحلامها العريضة،الكبيرة..
كانت كعصفور يبحث عن الربيع،عن شيء يختبئ وراء الغيوم،عن عيون متوهجة لا تعرف سوى دفء الشمس .
وطوت السنين،وهي تبحث،وأحزانها،فشلها،الظلام الذي كانت تصادفه في جميع العيون،والضياع يطويها.
كان قلبها الصغير،الحزين،ينطوي على الظمأ ويسأل الحياة عن كلمة،كلمة حب يسمعها فقط.
ولكن الحياة بخيلة..
منذ الأزل،بحثت عن تلك الكلمة،في طفولتها،من سنين عشقتها،كانت حروفها ترتعش في كيانها الصغير.
وكانت تتنصت،تسترق السمع إلى النساء يروين حكاية الأمير الجميل يحب بنت الجارالفقير،والفارس الكبير يحطم العقبات،يتخطى الأهوال للوصول إلى قلب حبيبته الصغير.
إذن هناك حب ؟
هناك من يحب ؟
وكانت تحب كل شيء،حتى التعب،تحب كل الناس،تحب الغمام،تحب زرقة السماء،تهب أحاسيسها لضوء الشمس،تنظر بوله إلى السحاب .
وكانت دائما تسأل ،وهي في طريقها الطويل تبحث وتردد :
هناك من يحب ؟ هناك حب ؟
ووجدت من يحبها ..ومن تحبه ..
واندفعت تعطي من دون حساب،فالحب عطاء ..
وبعد أن لم يبق لها شيء تمنحه له ، بدأ الخوف عليه يتسرب إلى نفسها ..
وبعد أن كان حبها صافيا،أصبح ممزوجا بمشاعر عكرة،ملوثة.
قالت له :
ــ أريد أن يكون حبنا طائرا حرا،يسبح في الفضاء،لا أن يظل طيرا مقصوص الجناح داخل صدرينا،جريحا يئن من فرط العذاب والتعاسة والبؤس .
أريد أن يسير حبنا مزهوا،مختالا بين الناس، لا أن يظل مقعدا يزحف داخل روحينا،وعقلنا وفي أعماق قلبينا ..
أريد أن يتنسم حبنا نسيم الهواء..
أريد أن أشعر أنني أقوى إنسان في العالم بهذا الحب .
أريد أن أرى في عينيك حبا صريحا،علنيا،يقويني، يشجعني.
أريد أن تنظر إلي بحب،فأنتعش وتنتعش روحي اليتيمة،المسكينة.
أريد أن أحس أنني أقف على عرش الدنيا،أنني أملك كل شيء على وجه الأرض وأنا أتحدث عنك بصوت غير خائف،قوي وواضح .
نظر إليها،فإذا بها ترتعش،رأت في عينيه نظرات فاجرة،تحمل كل ما في الدنيا من سخرية واستهزاء ..
كانت ملامحه ممتلئة بذلك الجوع،الذي كانت تفر منه .
أحست أن الحب الذي بداخلها ،ذلك القصر الكبير الذي قامت ببنائه بأحلامها،أصبح كومة من الرمال متناثرة تحت رياح همجية .
وتناهى إلى سمعها صوته الأرعن يقول لها :
ــ هل صدقت حقا أنني أحبك ؟.. أنني أريدك أنت ؟..
هل صدقت كل ما قلته لك من كلام جميل ؟ أنا يا عزيزتي لا أؤمن بخرافات من هذا النوع .
وكأنه كان يقول لها (أنت بالنسبة إلي كأي شيء، أستعمله وحينما أنتهي منه ، أدعه ، أتخلى عنه ) ( إنك كأكلة شهية،مجانية عرضت علي،فلماذا لا أقدم على أكلها ؟) .
ووجدت نفسها تسأله وهي مشتتة الأنفاس ، تكاد تختنق :
لماذا ادعيت المحبة ، وأنت تكره ؟لماذا ادعيت الإعجاب وأنت تحتقر؟ لماذا ادعيت السعادة وأنت لم تعرفها ولم تشعر بها ؟ لماذا لم تفصح عن مشاعرك ؟
الكذاب يا عزيزي ليس منافقا فحسب ، لكنه جبان ) .
وأحست بالتعب من نظراته المساومة ، من كلماته النابية ، من مشاعره الفاشلة وأحاسيسه الكاذبة .
كانت تريد أن ترتاح وسط عينيه ،أن يلفها شعاعهما،فتختفي عن الأنظار.
كانت تريد أن تنسلخ عن حياة السفر في متاهات مسدودة فإذا بها وسط متاهة أكثر عمقا وظلاما .
وكانت تنظر إليه ، فتحس بكل تلك المشاعر النبيلة التي تحملها له تتحول تلقائيا وبسرعة جنونية إلى كراهية شديدة لكل شيء ، إلى مقت بغيض يحدث داخلها أزيزا يحرق صدرها، وإلى غضب كبير يستولي على كل الكون ، ذلك الحنق والغيظ الذي يعمها يكفي كل الدنيا،ويجعلها تسبح في بحر من المشاعر المظلمة،الحالكة السواد.
وألقت اللوم على نفسها قليلا، فهي لا تريد أن تخدع بهذا الشكل أبدا،فما الذي جرى ؟لماذا آمنت بكل الأحاسيس النبيلة بينما كانت تغرق في بحر من الرمال الضحلة ؟.
إنها لم تندم على ما كانت تشعر به نحوه من مشاعر صادقة ونبيلة ..ولم تشعر أنها ضعيفة تحت سياط نظراته الجائعة،بل عاهدت نفسها على الصمود،فهي على يقين أنها ليست شيئا يتلهى به،بل هي إنسان يشعر،يعطي،يأخذ،مثله على السواء ..
ووجدت نفسها تفتح عينيه على حقيقة أكيدة وهي تقول له:
ــ إياك أن تظن أنك حطمتني،أنت فقط ساهمت شيئا ما في توضيح الأشياء أمامي،جعلتني أقرأ داخلي بعين ثاقبة،فعرفت أنني لم أحبك فيما مضى،ومهما كان فإن كل ما أحمله اليوم من مشاعر الكراهية فهي تكفي لتغطية كل ما كنت اعتقده سابقا ..
تركته وهي تسمعه يقول بصوت يشبه الفحيح :
ــ انتظري .. أنت لم تفهمي.. أنا لم أقصد،أنا أحبك.
كانت كل كلمة تخرج من فمه تعبر عن مدى الجوع الذي يعانيه ،عن مدى الغرور والشره اللذان يتملكانه .
كانت نظراته تفضح جوعه الكبير وعيناه الجاحظتان تدلان دلالة واضحة عن جشعه الجسدي .
وكانت ملامحه وهو يتكلم تفصح عن كل ما يعتمل في صدره وعقله من شر وأنانية.. وكانت هي تتمزق،كل شيء فيها يتمزق،أحست أن كلماته تذبحها،وهي لا حول لها ولا قوة.
كانت في محاولتها تفسيرمدى همجيته،تحس أن كيانها يتحطم .
وطافت بذهنها أفكار جنونية ( كيف أن العالم بأكمله يقوم على الخطأ؟والحياة والمجتمع وحياتها أيضا ..
وكيف تستمر في الخطأ؟
وكيف انقاد آدم لحواء فطردا من الجنة ونزلا إلى الأرض،ليصبح آدم آكلا وحواء أكلة شهية مجانية ، وليصبح الجنس مائدتهما اليومية يحومان حولها كل صباح،ومع الضحى وفي المساء،يدفعان من عمرهما ومن جسديهما ومن وقتهما وعقلهما ،ليتوفر لهما كل يوم شيء منه وحتى لا يفتقرا أبدا إلى هذا الصنف من مقومات الحياة والذي من دونه لن يهدأ لهما بال .
ونضجت الثمار وأينعت وحان قطافها ومن ثم، إلى التنظيم والتخطيط وستر الفضائح وتغليف الأخطاء بقيم متنوعة بعد قتل قابيل لأخيه هابيل،
فلا يمكن بعد ذلك الاستمرار في الخطأ دون قيود، ودون حدود، وليس من الضروري أن تكون هناك أرواح بشرية للفداء والتكفير عن الخطأ أو إصلاحه، أ و دفاعا عمن وقع عليه الخطأ .
الحل بسيط وسهل، وحواء هي التي يجب أن تدفع الثمن، أن توضع في قيود ومن ثم إلى الزواج ، الوجه الآخر للجنس والخطأ مستمر، يتشعب،
ويكبر ويعم النفوس، و شعور بالذنب أو المسؤولية، ومن العادة، إلى الغريزة و(الجنس غريزة، لا يمكن أن ننسلخ عنها .)شعار أبدي يرفعه كل مخطئ.
وحواء في كل ذلك ضعيفة، لا حيلة بيدها إلا الرضوخ والانصياع لرغبات آدم والانقياد لها .