لم يكن التحليل النفسي أن يوجد دون وضع منهج تجريبي دقيق، لولاه لكان لدينا نظرية إضافية في الأمراض العقلية و النفسية.
و لم يكن للنقد الروائي بالخصوص، صلة عميقة بنظرية نفسانية متكاملة إلى مع (فرويد) فقد كان في بداية الأمر لا يهتم إلا بالميدان العلمي، مستبعدا ميدان النقد الأدبي، لكنه بعد ذلك و حينما أهتم بمجال الأحلام في علم النفس، فطن إلى أن الإبداع له علاقة كبيرة باختصاصه.
فقد كان هاجسه أن يؤكد أطروحته المتعلقة بموضوع الأحلام والتي بلورها من خلال كتابه ( تفسير الأحلام) عاقدا عدة مقارنات بين الأحلام و أنواع الإبداع منها الشعر، القصة، و الفن التشكيلي و غيرها.
و كان نفس الهاجس، يوسوس له أن كل تلك الأنواع هي عبارة عن أحلام، لكن أحلام من نوع آخر.
و في كتابه ( حياتي و التحليل النفسي) تأكدت له و بشكل نهائي تلك العلاقة الرابطة بين طبيعة الحلم و طبيعة الإبداع يقول: ( إن إبداعات الفنان ليست إلا تلبيات خيالية لرغبات لا شعورية مثلها مثل الأحلام التي تجمعها و إياها سمة مشتركة واحدة، و هي أنها بمثابة تسوية و خل توفيقي، لأنها ملزمة بخلاف منتجات الحلم النرجسية اللاجتماعية، تستطيع أن تعتمد على تعاطف الناس الآخرين بحكم قدرتها على أن تبعث و تشبع لديهم الصبوات الرغبية اللاشعورية عينها.
لقد أورد (فرويد) صفتين أساسيتين يتميز بهما الحلم و هما التكثيف و النقل، و الظاهر أن الإبداع سواء كان قصصيا أو تشكيليا يعتمد على نفس الخاصيتين، و قد أعطى ( فرويد) عن ذلك أمثلة كثيرة تتعلق باستخدام التكثيف، و النقل في الأعمال الإبداعية.
و من الملاحظ أن كل ما كتبه (فرويد) حول الفن القصصي و الروائي تم ربطه بالحلم، و كذلك الشأن فيما يخص عقدة أوديب أو مسألة تحقيق الرغبات المكبوتة في اللاشعور، نستنتج من ذلك، أن الإبداع عند
( فرويد) هو أخد أشكال التعبير عن الرغبات الدفينة التي تنشأ من المراحل الأولى للطفولة، و تلك الأشكال مرجها إلى الأحلام و أنواع العصاب، مع العلم أنه كان يستعين على تفسير الأحلام بالتحليل البيوغرافي، فالتعبير الفني و العصاب لا يختلفان إلا من حيث كون الأول مقبول من طرف المجتمع أما وظيفتها فهي نفسها و تتلخص في كونا ترمي إلى هدف واحد و هو تخليص الفرد من مكبوتاته. و لهذا فقد حلل ( فرويد) رواية ( لا غارديفا) لــ(لولهلم جنسون) في إطار اهتمامه الأدبي و يعتبر تحليله لها بمثابة الأساس للمنهج النقدي للرواية، معتمدا نظرية التحليل النفسي يقول حميد لحميداني: (و الواقع أن هذا الانتقاد الموجه إلى فرويد ـ يقصد الانتقادات التي وجهت إليه معتبرة إياه مجرد طبيب معالج لا علاقة له بالنقد الأدبي ـ لا تنطبق أبدا على رواية (لا غرادين) فهذه الدراسة تعتبر تحليلا أدبيا دقيقا يبتدئ بالنص و ينتهي إليه، و ليس فيها إطلاقا انتقال إلى دراسة شخصية الكاتب، و إذا كانت تحتوي على تحليل نفسي علاجي فهي تقوم بذلك في نطاق الحالة المرضية التي تعانيها الشخصية الروائية و ليس شخص الكاتب)
و يحق لنا بعد ذلك أن نتساءل مع محمد خرماش، لماذا وظف الأدب في التحليل النفسي؟
يوضح أن الأدب في البداية كان يعتمد على التحليل النفسي فهذا الأخير هو الذي كان في خدمة الأدب، فلما كان فرويد يمارس علاجه النفسي بطريقة التهدئة أو التنويم، فكذالك ذهب إلى أنه من الممكن إعطاء القلم للكتاب ليكتب...
و لكن بعدما تأكد لديه أن هناك نوعا من الانكفاء على الذات و أن هناك تواصلا ضمنيا مع العالم النفسي، و لا يمكن إخضاعه للقوالب العقلية أو الصيغ المتعامل بها في عالم المعرفة العادي هذا العالم الذي ينتهي عند الضوابط العقلية و عليه يعتمد الإنسان في كشف أسرار الطبيعة و غيرها.
و الجدير بالذكر أن الدراسات المتعلقة بالعملية الإبداعية في الأدب تنطلق أساسا من توجهات موضوعية أمبريقية في مناخ يسوده التحليل النفسي بدرجة كبيرة، فقد تم التأكيد على الدراسة الموضوعية للأدب
و الأديب و في إطار شامل متكامل يضع في اعتباره الأبعاد المختلفة المتفاعلة المتعلقة بظاهرة الإبداع الفني و هي من أشد ظواهر السلوك الإنساني تعقيدا، و قد ذهب البعض إلى استخدام طرق إحصائية، دقيقة و مضبوطة لتحليل و ضبط و تعميم النتائج، و ذلك في دراسة ظاهرة هرب ( فرويد) من دراستها بشكل مباشر و اعتبرها ( يونج) أشد ظواهر السلوك الإنساني مراوغة و هروبا من محاولة الإنسان فهمها أو الإمساك بها.
و هذا ينقلني إلى المبحث الأول في هذا الفصل الثاني لأتناول بالدراسة مفهوم العبقرية و سيكولوجية المبدع.
المبحث الأول: مفهوم العبقرية و سيكولوجية المبدع
يمكن أولا أن نتطرق لموضوع العبقرية بالتساؤل عن مفهومها هل هي قوة خاصة أم هي شيء فطري يتميز به البعض دون الآخر، هل هي أمر فيزيولوجي أم سيكولوجي أم يمكن إرجاعها إلى أشياء أخرى غير ذلك؟
إن الجاحظ يرجع المسألة إلى تكوين الإنسان، لكي يكون الإنسان خبيرا عليه أن يتلقى تكوينا معددا من العلوم و الآداب حسب رأيه.
كما يمكن أيضا الجيث عن تايار آخر في الدراسات النفسية يجعل التفوق في الإبداع يقابل نوعا من العبقرية التي قد توصف بأنها نوع من الجنون، فكثير من الدراسات تقرن بين العبقرية و الجنون و تبين أن الإبداع أصلا إنما هو مظهر من مظاهر أقصى التوتر و عدم قدرة المبدع على الانسجام بالجماعة و التكيف معها، الشيء الذي يظهر بارزا في الخلق الفني و الأدبي، و قد ساهمت هذه الدراسات في نشأة فرع من فروع الدراسات النفسية و الأدبية بما يسمى بعلم نفس الإبداع.
و فسرت أيضا تفسيرات ميتافيزيقية، خرافية ـ أسطورية عدية منها أنها جنون أو قريبة من الجنون، فهناك من قال أن الموهوب له شياطين، فهذا ابن شهيد يقول: (إن لكل شاعر شيطان يهديه).
و منذ خمسين عاما التي تلت إصدار (فرويد) لآثاره الكبيرة و النظرية في التحليل النفسي أتى بعده محللون، حاولو تقدير القيم اللاشعورية التي يشتغل خلالها الخطاب الأدبي و أعاروا اهتمامهم للمبدع و انقسموا إلى فئتين، فئة تتناول كل الإنتاج المعروف للمبدع بالإضافة إلى وثائق خارجية عن حياته، لدراسته دراسة نقدية تهتم بتفكيك المعنى الرمزي للنصوص و تراقب أداء اللاشعور فيها.
و فئة أخرى تقتصر على دراسة الكتابات الأدبية عند المبدع لتحيط بالظروف المتعلقة بتلك الكتابات من ناحية و بالمبدع الكاتب من ناحية أخرى.
و لذلك كان ( فرويد) يعتبر الأديب أو الفنان المبدع بمثابة المريض العصبي، ينسحب من الواقع الذي لا يبعث على الرضى إلى ذلك العالم الخيالي و لكنه يبقى وطيد العزم، ـ بخلاف المريض العصبي. سلوك طريق العودة ليرسخ موطئ قدميه في الواقع.
و لعل المثال و الدليل على ذلك دراسة ( فرويد) للكاتب الروسي ( دوستوفسكي) منطلقا من شخصيته كمبدع، و ليس انطلاقا من إنتاجه الأدبي حيث وجد أن شخصيته تلك تتميز بصفات أربعة و هي: ( الفنان ـ الخالق ـ الأخلاقي، العصابي الإثم). و قد استنتج أن ( دوستويفسكي) كان عصابيا.
يقول جان بلمان نويل ( عندما طرد الإنسان من الباب لتلافي السيرة قام بعد ذلك بمحاصرة النوافذ كي يدخل إلى المنزل على هيئة أسطورة شخصية في حين أن الصراع بين ( الأنا الاجتماعية) و ( الأنا المبدعة) كان يصعد دخانا أمام أنف التحليل النفسي ذا رائحة مريبة تدل على الهرطقة) و يؤكد ( أندريه غرين) في كتابه ( عين إضافية) أن الحذر إزاء الروابط بين المؤلف و الأثر يترافق في أغلب الأحيان مع مطلب عاطفي لا يمكننا إلا أن نلاحظه.
ليس المقصود التنكر للمؤلف المبدع و الأهمية وجوده أو أننا نقرأ دونه، فهو موجود حيث تفاعل القراءة، شئنا ذلك أم أبينا، فلا يمكن للقارئ المحترف أن يتجاهله، أو يقوم بالنقد دون الرجوع إليه، لكن من الضروري أن نتناساه، ففي الوقت الذي يشكل فيه الفرد المبدع أو المؤلف اللغة، نرى هذه اللغة نفسها تعمل على تشكيله، لأنها تفصح من حلال السلسلة الرمزية التي لا معنى لها إلى بالنظر إلى النظام الذي يحكمها في حقيقة أهدافه اللاواعية، و لابد هنا من الروع إلى تجربة ( لاكان) كمحلل نفساني و ربطه بين الأدب أو الإبداع و المرض النفسي لدى المبدع و معالجته للآليات اللاشعورية التي تجعل الكابت يستهلك من خلال الكتابة ذلك المخزون من العواطف و الانفعالات التي لم تلق تصريفا في الحياة اليومية الواقعية. و قد سار العديد من النقاد و المحللين النفسانيين على هذا بل لقد غالوا أمعنوا في ذلك، فاعتبروا المرض أو العصاب كان يعاني منه بعض مشاهير الأدباء والشعراء منبع ما تفتقت عنه قرائحهم و عبقريتهم من روائع، فقد ذهب بعض هؤلاء إلى أن العصاب المزمن الذي عانى منه ( خوان رامون خمينس) هو مصدر إلهامه و مبعث أروع الصور الشعرية عنده.
و ربطوا الأسلوب المتميز لـ ( بروست) بما كان يعانيه من مرض الربو.
و كذا الشأن بالنسبة ( لتوماس مان) الذي كان مصابا بالسل و بالزهري.
و كذلك الأمر فيما يخص ( بودلير) الذي كان مصابا بمرض الزهري بل إن بعض النقاد المحللين ذهبوا أبعد من ذلك فقرنوا الأزمات العاطفية و حدها بمآل إبداعات بعض الأدباء كما حدث مع ( غارسيا لوركا) في نهاية العشرينيات من هذا القرن.
لهذا فنحن الذين مازلنا نعتبر الكتابة فعلا مترعا بالقدسية، و مازلنا نتهيب الكاتب و ننظر إليه بإجلال و لا نتمثله إلا نابغة، خارقا، ملهما، يصعب علينا أن يتدخل التحليل النفسي على هذه الشاكلة من التعميم لفتح الباب أمام المدعين ليلصقوا بالكتاب صفات كريهة و ذلك تسيء إلى الأدب عامة.
أ ـ الأنا المبدع:
إن الفن قبل كل شيء، من وجهة النظر الرومانسية ليس بناء شكليا تأتي أهميته من قدرته على توليد التجربة و إنتاج معنى له تأثيره في الحياة، و يفسر ذلك ( ستاروبنسكي) في كتابه العلاقة النقدية ( la relation critique) يقول: ( هل يستحق الأمر عناء المغامرة إن لم يثر بالمعاني عالم المفسر و حياته عند الخروج من التجربة و تجربة القراءة و التأويل).
و يبدو واضحا أنه لا يمكن في هذه التجربة المزدوجة المنطلقة من الكاتب و القارئ معا، دراسة الواقع الشكلي للعمل الفني بذاته ( فالعمل الفني هو تفتح متزامن البنية ما و لفكر ما (...) و مزيج من شكل و تجربة يتضامن تكونها و ولادتهما.
و كما هو الشأن عند ( ستاروبنسكي) فق كان روسو، يعتبر التطابق بين الأنا و اللغة من المبادئ الأساسية التي يجب أن يؤسس عليها الأديب حياته الأدبية، فمصيره كإنسان كان مرتبطا أساسا بإبداعه الأدبي. فالوجود بالنسبة إليه و التفكير يكاد يشكل وحدة مع النشاط الأدبي، فالكاتب لا يقول ذاته فحسب بل هو يبتدعها في استخدام الكلمات.
و حينما يأتي ( بروست) فإنه يوسع هذا المفهوم من خلال كتابه ( ضد سانت بوف) و يتجلى ذلك في كتابه ( البحث عن الزمن الضائع)، فقد دعا إلى ضرورة تجاوز طريقة السيرة الشخصية، و لم يقبل التصور الحرفي للبحث للنشاط المبدع مؤكدا أن الأسلوب ليس مسألة تقنية بحتة، بل هو عبارة عن رؤية، و العمل الأدبي نفسه، و مهما يكن يتطلب إدراكا مميزا للعالم يندمج بالمادة التي يتشكل منها هذا الإدراك، معرفا الأسلوب بأنه إبداع لغوي من جهة و عالم محسوس من جهة أخرى.
يقول ( بروست): ( لربما يكمن الدليل الأكثر أصالة على العبقرية كما قلت لـ( ألبرتين) في هذه القيمة المجهولة لعالم وجداني أكثر منها في محتوى العالم الأدبي ذاته (...) كنت أشرح ( لألبرتين) كيف أن كبار الأدباء لم يعطوا سوى عمل واحد أو بالأحرى كيف أنهم عكسوا بطرق مختلفة الجمال ذاته و منحوه للعالم (...) أنكم لترون عند ستاندال إحساسا معينا بعلو يرتبط بالحياة الروحية: إننا نجده في المكان المرتفع حيث يسجه ( دوليان سوريل) و في البرج الشاهق يحتجز ( فابريس) و في برج الأجراس حيث يدرس القس
( بلانيس) علم النجوم و يتلقى منه ( فابريس) نظرة طويلة على العالم.
من الملاحظ أن ( بروست) في كتابه (ضد سانت بوف) يرفض التصور التقليدي للكاتب الذي يسيطر على مشروعه سيطرة مطلقة إذ يقول: ( الكاتب هو نتاج آخر غير الذي نكشف عنه في عاداتنا ، في المجتمع، و في رذائلنا، فإذا ما أردنا أن نسعى إلى فهم هذا الأنا، فلن نستطيع الوصول إليه إلا في أعماق أنفسنا، حين نحاول إعادة خلقه في ذواتنا)
قد يبدو هذا الكلام مناقضا، فالأنا المذكور هو في نفس الوقت معطى نفسي عميق في الفنان و موضوع إعادة خلق، و من الواجب عليها أن نفهم أن الأنا المبدع يبتدع نفسه في الحركة التي يقول فيها ذاته، فهو يعبر عن نفسه بتجاوزها، و الفعل المبدع لا ينفصل عن الحركة التي تكونه، و يشترك ( ريشار) في هذا المنظور يقول: ( يصنع الشاعر نفسه أمام الورقة) كما يعتقد (ستاروبسكي) أن الكاتب في عمله الأدبي ينكر ذاته يتجاوزها و يتحول. أما ( روسيه) فيوضح وجهة النظر هذه بقوله: (إن العمل الأدبي قبل أن يكون إنتاجا أو تعبيرا هو بالنسبة إلى الذات المبدعة وسيلة للكشف عن الذات)
و كان ( ستاروبنسكي) من جهته، لا يميل إلى التقصي النفسي و الطبي المتعلق بالأدباء و الذي يمارسه نقاد ( يدفعون بهذه الجثث إلى طاولة التشريح و كأنهم يستعدون للكشف عن الدافع السري للأعمال الأدبية في أحد الأنسجة المعطوبة) ذلك ( لأن الفنان و إن ترك دوما بقايا جثته (...) فإننا لا ننفذ أبدا من خلالها إلى فنه.)
ب ـ عالم الخيال و أحلام اليقظة:
إن الإدراك الحسي و الإبداع وجهان لعملة واحدة، فإذا كان التحليل النفسي يرى أن العمل الأدبي عبارة عن مجموعة أدلة معقدة ترجعنا إلى وضعية نفسية سابقة، و تعمل على تصعيدها، فإن الفن بالمقابل و عن طريق الإيهام يجعل الرغبات المكبوتة تعب عن ذاتها، و هذا يحيلنا على (باشلار) الذي يرى أن الصورة لا يجب أن ترد إلى تكونها و ليس من المفروض أن نربطها بما يسبقها بل من الضروري التقاطها حين ولادتها و تتبعها في صيرورتها.
فمنهج السيرة و منهج التحليل النفسي حسب هذه الرؤية ينتقصان العمل الأدبي و يبترانه، و لعل التجاء الناقد الموضوعاتيين إلى مفهوم الخيال هو ما يؤكد أن الخيال أن الخيال دينامية منضمة عندهم.
و يرتبط عندهم حدس الخيال المبدع و الاهتمام بأحلام اليقظة بتصور توفيقي للنفس الإنسانية، و في هذا الصدد يبقى أن حلم اليقظة هنا هو شبه نقيض الحلم كما يراه التحليل النفسي، فبينما يذيب الحلم الليلي الوعي لصالح لغة اللاوعي يبقى حلم اليقظة الوعي على درجة معينة من النشاط، إذ يأخذ مكانه عند فاصل متذبذب يعمل في الخيال المبدع بك إمكانياته.
من هنا يتحدث ( ريمون) ليوضح لنا أحد معاني فعل ( الحلم) في القرن 18: ( إن الخيط الرابط هو ترك الذات تسرح دون كبح و الاسترخاء الذي يعقب الشرود، فالإفلات من أطر المنطق نتغرب و نتبدل و نستلب، لكن قد يصادفنا الحظ نلتقي بذاتنا أو ندخل في ذات أخرى لنا).
و يحاول كل من الخيال و حلم اليقظة أن يكمل الآخر، بهذا الخصوص كان روسو يعمل على أن تكون وظيفة حلم اليقظة متعلقة بالواقع المعاش تمتص التجارب المتعددة و ذلك بابتداع خطاب موحد يتوازن و يتساوى فيه كل شيء.
يرى ( باشلار) أن أعلى درجات الحلم توجد في الأدب و في الشعر بصورة. فكل وعي هو زيادة ف الوعي و النور و تعزيز للترابط النفسي المنطقي، و هكذا يكون الوعي في حد ذاته فعلا، أن الفعل الإنساني الوطيد العلاقة بالكلمات و الخيال، يقول في كتاب ( الهواء و الأحلام): ( إن الصورة عند ولادتها ونموها هي في أنفسنا فاعل للفعل، تخيل و ليست مفعولا به، فالعالم هو الذي يتخيل نفسه في حلم اليقظة الإنساني)
و حاول( باشلار) أن يتوصل من خلال ذلك إلى تطبيق نظريته على كل عناصر الوجود الإنساني كل على حدة، سيكولوجية الخيال المادي الخاص بالنار و الماء و الفضاء موضحا ما يشير إليه من قوى إنسانية و ما يشع به من دلالات شعرية تخصب طاقة الإبداع و أدخل مفهوم ( المركب الثقافي) الذي يعني به ( مجموعة من المواقف التي تسيطر على التفكير ذاته)، و هذا المركب نتج عن دراسات (باشلار) للتحليل النفسي معتمدا على الصورة الأدبية و تحليلها السيكولوجي عن طريق رصد الخيال الحركي فيها و ربطها بالمركبات الأصلية ليتمكن من إبراز الشعرية لشعريتها يقول:
( و إذا كانت تحليلاتنا صحيحة، فلا بد لها على ما نظن أن تساعد على الانتقال من سيكولوجية الحلم العادي إلى سيكولوجية الحلم الأدبي، و هو حلم غريب يكتب و يتماسك إذ يكتب، و يتخطى الحلم الأصلي و أن كان يظل مخلصا له)
و قد كان يستشهد بصور لشاعر ( إيلوار) الذي يقول فيها:
( كم تتغير يدنا حين نضعها بيد أخرى)، ( نعتقد أننا ننظر إلى السماء الزرقاء و إذ بها فجأة هي التي تنظر إلينا)
انطلاقا من ذلك يحدد (باشلار) أن الخيال منفتح و مراوغ بصورة جوهرية و أن كل شاعر يدعونا إلى القيام برحلة و ما تلك الرحلة إلى رحلة الصور التي يلتجئ إليها الشاعر و حركيتها المبدعة.
أما ( جورج بوليه) و هو أقرب النقاد دون شك ـ من( باشلار )وقد صب اهتمامه حول الوعي المبدع من خلال أشكال "الوجوء في العالم" و هو يصنف و فرز و يختار ليحث في الأعمال الأدبية عن عمق مركزي، إذ كان هذا الأخير يسلك هذا المسلك، فإن ( جان بيير ريشار) يتقبل التنوه، و يلتقط كل ما في النصوص من فرض لشحذ الذكاء و المتعة، و في هذا تنطبق و جهة نظر ريشار و مع وجهة النظر البشلارية قول امرئ ألقيس (حالم) بالكلمات، غير أن حلم ( ريشار) يوجهه دوما مشروعه النقدي.
و نقترب ( ستاروبنسكي) من ( باشلار) في تأويله لحلم اليقظة حين يقول حول رواية ( هوليوز الجديدة) لجان جاك روسو: ( تبدو لنا هوليوز الجديدة و مجموعتها مثل حلم من أحلام اليقظة حيث يعطي روسو استجابة للنداء التخييلي الذي يطلب الصفاء بعد أن لم يعد يجده في العالم الواقعي، في مجتمع البشر يعطى أسماء و عالما أوسع صفاء و قلوبا أكثر انفتاحا و أكثر شفافية)
ج ـ شارل مورون و الأسطورة الشخصية:
يبني شارل مورون نظريته حول الأسطورة الشخصية على مبادئ اجرائية يسميها بعملية تنضيد النصوص ( la superposition des textes) و هي كما يصنفها الدكتور محمد خرماش:
أولا: مبدأ الثبات: (principe de constance)
ذلك أنه قد يوجد هناك عنصر يكون جزءا مكونا في الأسطورة الشخصية يفترض فيه أن يكون متكررا باستمرار دون أن يكون ذلك التكرار ناتج عن عامل الصدفة فقط و مثال ذلك ( الخصلة الثقيلة من الشعر عند بودلير).
ثانيا: مبدأ الخرف أو العجائبية ( principe d’anomalie).
لكي ينتمي عنصر ما إلى الأسطورة الشخصية فيما يخص الإنتاج الأدبي، و لكي يظهر لنا ذلك كنتيجة النوع من الإسقاط اللاشعوري، فمن الواجب أن يكتسي صبغة العجائبية أو الخرف فيكون غير متوقع وروده في ذلك السياق ( فمن الغريب أن يلح كاتب أو شاعر عن نقل خصلة الشعر و التي من البديهي أنها ترمز إلى الخفة).
ثالثا: مبدأ التجانس ( principe de cohérence).
تتكون الأسطورة الشخصية من بنية رمزية تدور عناصرها حول موضوعة ( Thème) يمكن تشخيصها من خلال صورة أن خالة كما هو الأمر عند ( بودلير) من خلال حالة ( المومس).
رابعا: مبدأ التوافق أو المطابقة ( principe de correspondance).
لتكون الأسطورة الشخصية كفرضية أهمية من خلال المعطيات التي تجمعها في نسق متجانس.
و لا بد من أن يكون هناك توافق ملحوظ بين بعض مكونات الأسطورة الشخصية و بعض الجوانب البيوغرافية الغامضة، كما يطرح ذلك مورون في إطار مسلمة وجود هوام مشترك بين الحياة و الكتابة، الشيء الذي يدفعه إلى أن يجعل من الأسطورة الشخصية الهوام الذي يدعم الكتابة، و تقوم هذه الأخيرة ببنائه بشكل خاص، و هكذا نجد أن ( الأنا الاجتماعي) و ( الأنا المبدع) يتواصلان دون أن يتطابقا.
و قد توصل مورون إلى ذلك من جراء انبهاره الشديد بالبنيوية التكوينية، منتهيا إلى أن الأسطورة الشخصية تقوم على الاستعارات الملحة و التي تملك صاحبها و الاستعارات المتكررة لأنها ملحة و لا شقورية، و غير منقطعة أي أنها تتوارد باستمرار. و يتلخص دور الناقد في رأيه في ضبطها و تنضيدها و هذا ما سماه محمد خرماش بعملية تنضيد النصوص.
ثم أن شارل مورون لا يعتبر تلك الاستعارات مستقلة عن بعضها بل هي شبكة متفاعلة فيما بينها، و قد استد ذلك كله من التفكير البنيوي و وظفه في التحليل النفسي و سمى ذلك بالنقد النفسي.
و بالمقارنة مع النقد الموضوعاتي، فإنه يرتكز على نفس الأساس حينهما تتكرر الموضوعة ( Thème) بصورة ملحة، و قد أرجع المحللون ذلك إلى البنية التكوينية، و لكنها أتت عند مورون مستندة إلى البنية النفسية و هكذا فإنه من الملاحظ أن مورون يبدأ بعملية تنضيد النصوص ليتوصل إلى التحليل البيوغرافي، و مثال ذلك ( ما جاء به بودلير عن الطل الذي سقط في بركة لماء و كانت هذه الحادثة حصلت له و هو طفل صغير.)
و فيما يتعلق بهذه المسألة يمكن أن نورد قول أندريه غرين ف كتابه الأدب يقول: ( يقول القارئ للأديب
( أظهر نفسك) في اللحظة التي يناديه الأديب ليقول له ( انظر إلي) نستطيع أن نعكس ذلك عندما نجبر القارئ على القول ( أظهرني) و في اللحظة و عند التقاء الأديب ( انظر إلى نفسك)، فكل واحد منا بنفسه و إن كان يقيم علاقة مع الآخر و بوجه عام، نعتقد أننا نكون وحدنا عندما نقرأ، و لكننا نقرأ بلا وعي مع الأديب في تناسق ترجيع الصدى و الرنين معه.
فيكون الناقد قد تحظى مرحة عصاب العبقرية الفردية و تأريخ الوثائق المنسوبة إلى السيرة و أصبح شريكا للأديب شاركه في تفكيك الأثر و الصورة البيانية و الحقل المعجمي و التركيب النحوي من خلال الاستدلال على مقومات التكثيف و التحويل، إن الحلم مبني مثل اللغة، التي تكشف دائما عن خطاب الآخر فينا و أن اللاوعي الخاضع للتحليل يعيد للإنسان الكلام الأصيل و الكامل.
و لعل هذا القول يمكنني من الانتقال إلى المبحث الثاني و الأخير من هذا الفصل لأتعرض فيه لمسألة سيكولوجية النص الأدبي عند بلمان نويل بصورة مقتضبة و ملخصة.
المبحث الثاني: سيكولوجية النص الأدبي عند ( جان بلمان نويل)
يمكن أن نعتبر أن لكتاب ( نح لا وعي النص) ( vers l’inconscience du texte) لـ (بولمان نويل) وجهين: وجه منهجي و الآخر نظري، طل لأن التحليل النفسي للنص مسألة قريبة عن القراءة النفسية
( الكاتب يكتب من أجل ( جمهوره الداخلي) و القارئ يبني لنفسه مؤلفا في قراءته.
لذلك فإن ( بلمان نويل) لا يرى مانعا من اتخاذ موقف يلغي عند قراءة العمل الأدبي وجود الكاتب، و لعمل هذا الموقف هو ما رآه مناسبا لكي يبلور تصوره عن " لا شعور النص"، و ذلك بالإلحاح على ضرورة إهمال الدور الرئيسي الذي كان يقوم به ( المؤلف) في كل دراسته نفسانية و بيوغرافية، وذلك بإلغاء وجود الكاتب عند قراءة العمل الأدبي يقول: ( فا أقرؤه هو شيء يخصني مادمت أشتغل على الكلمات و الجمل
و الصفحات و الأجزاء.)
وقد وجه بلمان نويل انتقاده للتحليل الأدبي الفرويدي على اعتبار أنه بيوغرافيا، و كذلك الأمر بالنسبة للنقد النفساني لشارل مورون، رغم محاولة هذا الأخير التركيز على النصوص لأنه يصل قارئة النص بلاشعور الفرد المبدع و قد استبدله بما سماه ( التحليل النصي).
و نحن في تتبعنا للتحليل النفسي لبولمان نويل و الذي تمتزج فيه الميتافيزيقا بالاستبطان الذاتي، فإننا نبتعد كثرا عن ( غاستون باشلار) الذي اهتم كثيرا بمناقشة الأصول الأولى للإبداع الفكري في المراحل الأولى لطفولة الإنسان أو طفولة البشرية، التي تجسدت في العصور البدائية، فإذا كان الإنسان يحكمه علاقته بالحياة الاجتماعية و تجربته اللغوية بكل متناقضاتها، فإن بلما نويل يرى من الواجب التعامل مع النص في استقلالية كاملة عن صاحبه.
و يستند في ذلك على فكرة أساسية تتعلق بمفهوم لا شعور النص و تكمن في توضيحه أن النص الأدبي يحتوي على فراغات بين العناصر التواصلية فيه، و هي فراغات كما يقول يمكنها أن تصرح بصمت و في ذلك تشبيه لها تشبيها خفيا بصراخ الغرائز من أعماق اللاشعور في حياة الإنسان.
و لا شعور النص عنده يشمل كل القيم الدلالية التي يخفيها النص و التي لا تظهر إلى عند كل قراءة جديدة.
و في مقابل استبعاده دور الكاتب في النص فإنه يهتم على العكس من ذلك اهتماما كبيرا بالقارئ و القراءة مبينا أن رؤية العالم تكون واحدة في النص، بينما لا شعور النص هو طاقة كامنة مولدة للمعنى، إنها مصدر خصب للدلالات و المحرك الأساسي لهذه الدلالات هو القارئ.
و لتحديد لا شعور النص أكثر يرى بلمان نويل أن حتى لو قلنا إنه يمكن إرجاع النص إلى ( ذات) لا واعية للنص نفسه و كأن الذات المبدعة تختفي لصالح ذات تحليلية، فإن تداخل الذوات، فإن تداخل الذوات في النص يمنع من ضبط تلك الذات اللاوعية.
فالنص الأدبي ينتح في ذاته، دواتا عديدة لا يمكن حصر تداخلها و تناسخها، و هو يركز في طلك على ذ
و هو يركز في ذلك على ذات القارئ أيضا.
و قد ( لا كان) من جهته مثالا لتشابك الذوات و تعددها في النص، وذلك من خلال دراسته لحكاية ( الرسالة المسروقة) لـ(إدغار ألان بو) موضحا أن الذات لا يمكن أن ينظر إلها كمركِّب بل كمركًّب، فآلية التكرار هي التي تقدم لنا في النهاية الصورة الحقيقية للذات.
و في هذا الاتجاه يتساءل بلمان نويل عن إمكانية قراءة نص أدبي دون اعتبار لصاحب طلك النص و هذا ما جاء عنده سابقا تحت اسم التحليل النصي ( أي التحليل النفسي للنص الأدبي).
فإذا كنا لا نستطيع أن نحلل شخصية الكاتب تحليلا نفسيا جديا، و لا أن نحلل شخصياته الروائية، فإنه لا يبقى أمامنا أخيرا إلا النص نفسه، و لذلك فإننا سنفترض أن له لا شعورا غير لا شعور الكاتب، و هذا ما نعثر عليه بسهولة فيما يخص الحكايات الشعبية التي تكون مجهولة الكاتب، معنى ذلك أن الرسالة التي تستوجب توفر باث و متلقي يمكن إدراكها و لو كان أحدهما غائبا أو مجهولا.
يتضح من طلك أن القارئ " التحليلي" يحاول التوصل إلى الدلالة المقصودة بعد إعادة تركيب الحكاية أو النص موظفا في ذلك طريقة توضيح الصور الإبداعية و طريقة تأويل الجزئيات التفصيلية بطريقة موجهة.
و هذا يدل كما فسر ذلك ( محمد خرماش) على أن الناقد يضع نفسه رهن إشارة "القوة الإستيهامية" في الإنتاج المدروس لكي يمر من القراءة إلى إعادة الإنتاج و مثال ذلك ما قامت به ( مارت روبير) في بحثنا عن
( رواية الأول و أصول الرواية و تقصد بذلك الرواية العائلية.
و ما دام التحليل النصي يسعى إلى ( إبراز رغبة لا شعورية متفردة في نص متفرد) و أن القوة التعبيرية التي تخترق الحقول هي الميكانيزم الذي يقوم عليه كل شيء، من أجل ذلك، فإنه من المفروض الاهتمام بلا شعور النص و ليس بالروائي نفسه، و لطلك أيضا فإن قراءة النص في رأي ( مارت روبير) هي استخلاص خمطية ( Typologie) فرودية تجعل من غير الضروري معرفة شيء عن حياة الكاتب.
و يؤكد أندريه غرين في كتابه (عين إضافية) أن الحذر إزاء الروابط بين المؤلف و الأثر يترافق في أغلب الأحيان مع مطلب عاطفي لا يمكننا إلا أن نلاحظه، فليس المقصود التنكر للمؤلف لأهمية وجوده أون أننا نقرأ دونه، فهو موجود حيث يتم تفاعل القراءة شيئا ذلك أم أبينا، فلا يمكن للقارئ المحترف أن يتجاهله أو يقوم بالنقد دون الرجوع إليه، لكن من الضروري أن نتناساه، ففي الوقت الذي يشكل فيه الفرد ـ المبدع أو المؤلف اللغة، نرى هذه اللغة نفسها تعمل على تشكيله، لأنها تفصح من حلال السلسلة الرمزية التي لا معنى لها إلى بالنظر إلى النظام الذي يحكمها في حقيقة أهدافه اللاواعية.
و تساءل جورج طرابيشي في هذا المقام عما إذا كانت الشخصيات الروائية مصنوعة، بينما المعروف أن اللاشعور يكون عفويا الشيء الذي يستحيل معه أن تصدر تلك الشخصيات عن لاشعور حقيقي.
يمكن الجواب عن هذا التساؤل كما بين ذلك جورج طرابيشي نفسه يقول: ( اللاشعور الذي يمثله العمل الفني هو لا شعور أعيد شغله و ضبطه و بنينته إنه لا شعور مسيطر عليه و متحكم فيه و معاد تقنينه تحت آمر الجمالية)
و يؤكد أن العمل الفني هو بديل الفنان عن الجنون أو الانتحار و كأن مرجل اللاشعور يغلي علينا في أعماق الفنان، و هو مهدد في كل لحظة بالانفجار إذا لم يجر النفيس عنه و إحكام السيطرة عليه و إعادة ضبطه و تنظيمه و موازنته من خلال عملية الإخراج الجمال له في العمل الفني، فوحدها الشخصيات التي تتبدى حقيقة كما لو أنها من " لحم و دم" هي التي يمكن أن تنتزع اقتناع القارئ و أن تستحوذ على وجدانه إلى حد ينسيه أنها مجبولة من كلمات لي إلا.
و هناك من يرى أن الشخصية الإنسانية لا تقتصر حدودهما على التجربة الفردية، و إنما تمتد لتستوعب التجربة الإنسانية للجماعة الموغلة في القدم كما يرى ( يونغ) و أن هذه الشخصية تحتفظ في قرارتها بالنماذج و الأنماط العليا التي تختمر في الثقافة الإنسانية عبر الأجيال المختلفة، هذه النماذج، و الأنماط العليا تدخل في تركيب طريقة التخيل الإنساني، و طريقة التصور، و طريقة الشعور في منظومة القيم و الفاعلية النفسية للإنسان.
يلاحظ ( جرار جنيت) انطلاقا من هذه العلاقات اللاشعورية أننا ( نعبر إلى أنظمة أكثر اتساعا و تعقيد للصور المسرحية التي تكون ما ينعته موران بالأسطورة الشخصية و التي هي ( صورة غامضة عن الذاتية المجزأة (...) و المتوارية باستمرار عن المسار النقدي.
و هكذا تبرز أهم نتيجة من خلال كل ما سبق تتلخص ف أن كل نص فهو محكوم بسيكولوجية مبدعة، ذلك أن الكيفية التي ينتج بها المبدع عمله الرائي، رغم أنها لا تشتغل بالفعاليات النفسية وحدها و رغم أنها مرتبطة دوما بالظروف الاجتماعية و المادية و الفزيولوجية للشخص المبدع ـ إلا أن الذات لها دور رئيسي في تحريك كل ذلك الإبداع.
خاتمة
إذا أردنا أن نلج اللعبة التي يؤسسها المؤلف من خلال عمل الأدبي، خاصة إذا كان ذلك العمل موسوما بطابع السيرة الذاتية، حيث يصبح الرجوع إلى التاريخ، و إلى شخصية المؤلف أمرا ضروريا فإننا سنلاحظ في المقابل أننا نشعر باللذة عندما نقرأ في سيرة الحياة رواية من خاص حيث يتحول البطل الروائي إلى كائن تخييلي، كما لو أن المؤلف يؤسس مع القارئ المشروع المنجز من قبله ليروي لنا قصة حياته، و كأن ميثاقا يربط بينهما، يتعلق بطريقة الكتابة و بطريقة القراءة على حد السواء: إذا هناك أدب و ليس وثيقة للمؤرخين و هكذا يتجلى بكل وضوج أن المؤلف لا يمتلك إلا واقعا أدبيا.
يقول فرويد: ( في كتابه ( الهذيان و الأحلام) في ( لا غراديفا) في الجملة الأخيرة: و لكن لا بد أن نتوقف عن التحليل لأننا نخصى أن يغرب عن بالنا أن هانولد و غارديفا من إبداع الروائي.
و لكن لا يمكن أن نتوقف فعلا؟
و هل يمكن أن نتوصل إلى خاتمة في يخص موضوع بعثي هذا خاصة و نحن على علم يقين باتصاله بأعماق النفس و حقيقتها الإنسانية، و بعبارة أخرى هل يمكن أن نحدد مدى ترابط التحليل اليوغرافي بالتحليل النفس، فعندما يشعر الأديب أنه ضحية لوهم ما و يعبر عنه و عندما يصرف إلى البوح بأسراره أو سره على الأصح، فهل نصل معه إلى اعتراف حقيقي، نستنتجه من خلال مقاربات النص و دورانه؟
إن الأديب لا يتكلم في النص الأدبي، بل النص هو الذي يفعل ذلك و ينغلق على نفسه و يتنكر لمن صاغه، الشيء الذي تنطبق عليه تماما حالة الحلم يقول ( فرويد) ( الحلم حارس للنوم، كذلك النص الأدبي فهو حارس للإستيهام، و لذلك فلا وجود لذلك النص إلا إذا توفر على لاشعور خاص به يقول بلمان نويل: ( و حين يشرع ( أي ناقد) بالكتابة لكي يخاطب الجمهور يكتشف في نفسه الوسائل ( تواطؤ، لعب، مزاح ...) ثم يمنح زخما لهذا العمل في لا وعي القراء، إن الجهد الذي يبذله في ـ الإعداد ـ يكون بمثابة الثمن، ليس فقط من أجل حث الأثر الأدبي على الحلم، بل إذا أردنا ذلك إفساح المجال أمام النص كي يبدأ بالحلم.)
لذلك فما دامت الأحلام تتملك حياتها و تصرفاتنا و مادام الذكاء و الإرادة البشرية لا يتمتعان بالسيادة المطلقة، لأن ذهننا يخوننا و يهوي بنا بعض الأحيان إلى منطقة الظلام و ينغمر بنا في أعماق الذات، و ما دام هناك في المقابل قانون و ثقافة و اديولوجية و رقابة اجتماعية و ضغوط داخل الشخص في محيطه تمارس عليه،
فإننا ضحايا لكل ذلك، و سنظل، و سنظل ضحايا له، و سنتشبث أكثر فأكثر بالأدب و بالنصوص الأدبية، لأنها بقدر ما توقظ و عينا و ترسل نورها على المجهول و غير المتوقع فينا، بقدر ما تحمل في طياتها اللاوعي، و الحلم، والإستيهام.
و اكتشاف اللاوعي هو الذي يمكن الإنسان من طرح مسألة المعرفة و تصور للعالم فنحن كما يقول بلمان نويل، نعلم أننا لن نتوصل أبدا إلى الانفصال حقا عما نقوله، و مع ذلك نحدد هدفنا كي ننجح ببلوغ هذه الحقائق عندما نتكلم عن الإنسان و هو في وضع الكلام.
فهل استطاعت، حقا، الدراسات النفسية للأدب و نقده في مجملها التوصل إلى حقائق ما؟!
من الواضح أن دراسة الأدب و نقده وفق منهجي التحليل النفسي و التحليل البيوغرافي أو النقد النفسي أو النقد النفسي التابع للسيرة أو غير ذلك من المدارس و الاتجاهات كلها ليست إلا منظورا علميا يرتبط بدراسة النفس الإنسانية بتحليلاتها المختلفة و مجرد شاهد على بعض الحالات التي توصف بأنها شاذة.
بالإضافة إلى أن التحليل النفسي المعتمد على السيرة غالب ما يتمكن فقط من إضاءة بعض الأجزاء اليسيرة من النص، و يتعرض بالتفسير و الشرح لبعض الاختيارات و الإشارات الأدبية، أما أن يلقي بضوئه على النص الأدبي بأكمله، فهذا ليس في متناول المحلل النفسي أو الناقد أبدا، ذلك أن تفسير بعض الأجزاء الأخرى لا ينتمي إلى مجال التحليل النفسي خاصة و أن هذا الأخير لم يتمكن مطلقا من وضع علاقة سببية بين العامل النفسي من جهة و الإبداع نفسه من جهة أخرى، معنى طلك أننا لا نستطيع أن نقول إنه كما تحقق هذا العامل النفسي أنتج لدينا ذلك العمل الإبداعي بعينه.
فآلاف الناس تصاب بالتوتر و بالإنفعال، و تتعرض لحالات الكبت و العصاب.. ألخ .. و لكنهم لا يبدعون جميعهم أعمالا أدبي، بالإضافة إلى أن الناقد لا يستطيع أن يصدر حكمه التقييمي حول العمل الأدبي بصورة نهائية، لأنه لا بد له من طرح السؤال، كيف تولد ذلك العمل الأدبي دون النظر إلى قيمته في ذاته؟ ما دام المؤلف يبني ذلك العمل الأدبي على تصوره للواقع و للحياة التي عاشها والظروف التي أحاطت به سواء كان طلك العمل سيرة ذاتية أو رواية أو غيرها من الأشكال و الأجناس الأدبية، فهل يمكن أن نسبر غور ذلك المؤلف و نصل إلى حقيقة أعماق نفسه حتى و لو اعترف بتلك الحقيقة؟ خاصة إذا علمنا أن كاتب السيرة الذاتية يقوم بدورين: دور المرسل و دور المستقبل المتلقي معا يقول إحسان عباس: ( الصدق الخالص أمر يلحق بالمستحيل، و الحقيقة الذاتية صدق نسبي مهما يخلص صاحبها في نقلها على حالها، و لذلك كان الصدق في السيرة الذاتية ( محاولة) لا أمرا متحققا.
و نجد عباس محمود العقاد يستهل سيرته التي تحمل عنوان: ( أنا) بقول الكاتب الأمريكي ( وندل هولمز)
( إن الإنسان ـ كل إنسان لا استثناء ـ إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة: ( الإنسان كما خلقه الله و الإنسان كما يراه الناس، و الإنسان كما يرى نفسه)).
يقول العقاد ( فمن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟ و من قال أنني هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟
ـ من قال إنني أعرف عباس العقاد كما خلقه الل؟
ـ من قال إنني أعرف عباس العقاد كما يراه الناس؟
ـ و من قال إنني أعرف عباس العقاد كما أراه، و أنا لا أراه على حال واحدة كل يوم.) ـ51 حميد لحميداني التحليل النفسي المعاصر م. س. ص 34 52 ــــحميد لحميداني التحليل النفسي المعاصر م. س. ص 35. 53 ـ حميد لحميداني التحليل النفسي المعاصر م. س. ص 34.
54- حميد لحميداني التحليل النفسي المعاصر م. س. ص 35.
55ــــ ن. م. س. ص 9. ـ56ـــ جان بلمان نويل التحليل النفسي و الأدب تعريب عبد الوهاب ترو م. س. ص 121.
ـ57ـــ جان بلمان نويل التحليل النفسي و الأدب تعريب عبد الوهاب ترو ص 120
58 ـ صلاح فضل مناهج النقد المعاصر م. س. ص 70 و ص 71.
ـ عبد العزيز شرف أدب السيرة الذاتية سلسلة أدبيات ـ م. س. ص 21
ـ59 ـــــعباس محمود العقاد ( أنا) ـ دار الهلال ـ القاهرة 1964 ص 20.
ا لفهرست
2ـــــتقديم:
7ــــــالفصل الأول: التحليل البيوغرافي و النص الأدبي
ا9ــــلمبحث الأول: توظيف التحليل البيوغرافي في فهم النص الأدبي
12ـــ المبحث الثاني: استفادة التخليل النفسي من التحليل البيوغرافي
17ـــــ الفصل الثاني: التحليل النفسي و الإبداع
19ـــ لمبحث الأول: مفهوم العبقرية و سيكولوجية المبدع
20ــــــ أ الأنا المبدع:
21ـــ ب ـ عالم الخيال و أحلام اليقظة: 21
ج ـ شارل مورون و الأسطورة الشخصية: 23
المبحث الثاني: سيكولوجية النص الأدبي عند ( جان بلمان نويل) 25
خاتمة 28
تبث المصادر و المراجع
1 ـ بلمان نويل ( جان): التحليل النفسي و الأدب، تعريب عبد الوهاب ترو ـ زدني علما 213 علم نفس منشورات عويدات بيروت ط 1 1996.
2 – فضل ( صلاح): مناهج النقد المعاصر دار الآفاق العربية ط 1 1997
3 ـ يقطين ( سعيد): انفتاح النص الروائي " النص ـ السياق" المركز الثقافي العربي ط 1 1989.
4 ـ المنيعي ( حسن): دراسات في النقد الحديث اعداد و ترجمة. مطبعة سندي ط1 ـ 1995.
5 ـ أيزر ( فولفانغ): فعل القراءة ( نظرية جمالية التجاوب ( في الأدب) ترجمة حميد لحميداني ـ الجيلالي الكدية. منشورات مكتبة المناهل مطبعة النجاح الجديدة.
6 ـ ماريني ( مارسيل): النقد التحليلي النفسي ( مدخل إلى مناهج النقد الأدبي) ترجمة رضوان ظاظا مراجعة المنصف الشنوفي مجلة عالم المعرفة العدد 221 ما 1997
7 ـ برجيز ( دانييل): النقد الموضوعاتي ( مدخل إلى مناهج النقد الأدبي) ترجمة رضوان ظاظا، مراجعة المنصف الشنوفي مجلة عالمة المغرفة العدد 221 ماي 1997..
8 ـ شاك ( عبد الحميد): الدراسات النفسية و الأدبية مجلة عالم الفكر العد 23، العددان 3 و 4 1995.
9 ـ بنعبد القادر ( محمد): في باتولوجيا الكتابة جريدة الاتحاد الإشتراكي بتاريح 15ـ 5ـ 1996.
10 ـ لحيداني ( حميد): النقد النفسي المعاصر، تطبيقاته في مجال السرد منشورات دراسات سال مطبعة النجاح الجديدة ط 1 ـ 1991
11 ـ شرف (عبد العزيز): أدب السيرة الذاتية ( أدبيات) مكتبة لبنان الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان ط 1 ـ 1992.
12 ـ باسكادي ( بون): البنيوية التكوينية و لوسيان غولدمان ترجمة محمد سبيلا بعنوان البنيوية التكوينية
و النقد الأدبي.
13 ـ لحميداني ( حميد): لا شعور النص ( مجلة دراسات سيميائية أدبية عدد 5ـ 1991
14 ـ عباس ( إحسان): فن السيرة دار الثقافة بيروت 1996
15 ـ إبراهيم ( زكرياء): مشكلة الإنسان مكتبة مصر، القاهرة 1992
16 ـ هيمن ( ستانلي): النقد الأدبي و مدارسه الحديثة الجزء 1 ترجمة إحسان عباس و الدكتور يوسف نجم ـ بيروت دار الثقافة
17 طرابيشي ( جورج): الروائي و بطله.
18 محمود ( عباس): ( أنا) دار الهلال القاهرة 1964.