لماذا ترحل ؟! ...
حتى أحطم قضبان الحديد ، أتحرر من قيد وضعوه حول معصمي هدية في سوق العبيد ، أنفض عن نفسي كآبتها ، غربتها فيك ، أسى الخوف الحزين .
هذا الشعور الجارح الأليم ،
ربطت بيننا أيام قليلة ، أقل من قليل ،عشنا خلالها في حلم رائع روعة حزني وتعاستي ، فأنا أشعر أنني سرقت لحظاتها ، لحظة ، لحظة من هذا الزمن الثقيل المفزع ، المريض .
استأجرنا الأ رض كلها ، والسماء كلها في أيام معدودات ، اتجهنا نحو نجومها، نحو شمسها ، وقلنا لها ، لكل شيء ، لكل الناس : ــ من يستطيع منكم أن يقول إننا لسنا رائعين ؟
بحثنا أنا وأنت عن الحقيقة ، عن الهدوء والطمأنينة ، حكيت لي أحلى الحكايات، أخذتني بعيدا إلى أعلى ، إلى أسفل ، تأرجحت كثيرا إلى الأمام ، إلى الوراء ، لأجدك في النهاية .
وحتى وأنت هناك وأنا لا أراك إلا في ذهني ، في عيني ، صورة لا يراها غيري،
أجدك قوتي ، شموخي ، صلابتي ، انغراسي في صفحة أرض هذه الحياة .
لكن لماذا يأتي زلزال القرون ليعصف بنا ؟
لماذا يزرع السم في عروقنا بعد أن كنا في أحسن حال ؟
لماذا يبتر الخلود ؟
لماذا ترحل ؟
كل ما حولي ، يجعلني شيئا في هذا الوجود ، ضائعا ، تائها ، حيث هي وغيرها حدودا صممها أكبر مخططي الحسد ، الحقد ، الغضب الفائر لكن شعورا بالإخلاص بالصدق ، بالوفاء .
كل ما حولي ، يجعلني هنا بعيدة عن أجوائك المليئة بالمشاعر التي تملأ كل الدنيا المحيطة بي فلا أحس بها أبدا ،أبدا .
كل ما حولي يبعدني عن الأرض ، أرض أضع عليها كل مرة ، وباستمرار ، عالم ليست فيه حواجز ولا سدود ، طريق طويل ، نسير عليه جنبا إلى جنب وفي نفس الطريق .
قلبي مثقل ، مظلم ، يشتاق إلى ضحكاتنا التي تملأ الكون البعيد .
لماذا ترحل عندما أصبحت شمسي الحارقة ، تلهب جسدك النحيف ، تطهرك ، تبعدك عن عالم لعين ، حاجز من نار ، محرق ، لا ذع أكثر من شمسي ، يجذبك إليه بكل القوى .
وتذهب ، وترحل ..
ولم يحدث شيء ،
بل ذهبت وقادتك خطاك إلى هناك بعيدا عني ، كنت أشك في قدرتك على ذلك .
كنت أظن أنك ستتوقف كثيرا ولن تستطيع أن تخطو خطوة واحدة خارج عالمي.
ولكنك رحلت ، فتلاشت السحب في سمائي الرائعة وعمها الظلام ، تحت جنح الليل المقفر إلا من عيني المشتعلتين ووجهك .
عد إلي ، ليكف الناس عن العواء ، حتى يختفي الذئاب وتنمحي الكراهية من هذا الوجود .
حديثي إليك حقيقة ، لا تعرف الغموض ،لا تعرف المكر والخداع ، لا تعرف التلوين والتزويق ، نهر ماء صافي ، لا يعرف التوقف .
أو لا تعد ، فإنه إذا تمكن مني حزنك ، أساك ، فلن تنفعني عودتك إلي .
فأنت تعرف أن كلنا يخطو إلى موته هادئا وكأنه ذاهب إلى الحياة كالمريض الذي يعاني من جراء حرمانه من عقاقيره ، يعلم أنها ضرورية ولكنه يعاني ويرى بعين بصيرة أمامه نهايته .
هكذا أمضي دونك ، وهكذا كنت أمضي دونك كل ساعة ، كل هنيهة ، يوميا ، و شيء يدعمني ، إلا الرعب أراه مرتسما في كل العيون .
أنت تعرف أنه ذات مرة صلصل مفتاح خارج عالمي ، ثم طرقت بابي ، وكالإفراج فتح في وجهك .
قلت ، فلأجازف من هذا السجن ، وسمعت ندائي ، فصممت أذنك ،
أمسك كل الأسى بتلابيبي ، تسلط بي حزن وشقاء مدمرين ، فصحت بك :
ـ سأغامر إليك .
لكنك بقيت مباليا بعذابي ، متوقفا عند نقطة خطوك نحوي ، تغضن قلبي ، أحسست بالرعب ، أحاط بي الصمت ،
لا تتطلع ، أدر وجهك ، صمتا ، فلا يجب هنا غير الصمت ، صمتا ..
وأنت تعرف أن نظراتك كانت تعزفني لحنا رائعا فوق الألحان ، أنا وأنت لحنين وديعين ، سعيدين ، حزينين ، وحيدين ، كثيرين ، صغيرين ، كبيرين ،نروح كليلين ، نأتي كصبحين ، في هذا التيه ، في هذا المدى صنوين ، شبيهين ، نقف كشجرتين ، نجلس ، ننطلق ، نتمدد عشبين رائعين ،
وأنت تعرف أنك كنت عيد قلبي ، لم تكن حلما ، بل كنت يقينا يمشي عليه إيقاع قلبي ، لم تكن عابرا بل كنت مستوطنا خلايا وأعماق قلبي ، لم تكن لغوا بل كلاما جميلا ، يقوله قلبي .
لم تكن سخافة من السخافات ، بل حقيقة حقيقية في قلبي .
لم تكن رشفة من كأس بل كنت الكأس لا تفرغ إلا لتملأ من جديد ،
كنت سرب عصافير يمر في صدري .
كنت عشبا نديا ينبت في فار حياتي وبراريها .
وكنت أعرف أني لست امرأة بالنسبة إليك بل كل النساء .
إنني الخلوة المليئة ، إنني حكمة الدنيا ، إنني لغات العالمين