تقلصت في فراشي ، كان جسدي يحاول أن يختبئ داخل جلدي .
أغلقت عيني ، تحرك في صدري شعور لئيم ، وصرخ مشمئزا في شهقة الحياة الأولى .للمرة الأولى ، منذ زمن بعيد يستيقظ في شعور وهو يبتسم بغيظ ويصعد ، يصعد عبر شراييني إلى شفتي ليرسم عليهما ابتسامة مشوهة .
فتحت عيني ، نظرت إلى سقف غرفتي وأنا خائفة من نفسي ، خائفة من أحاسيسي ، من يدي ، من جسدي ، كأن هذه الذات ليست ذاتي ..
ظللت أحدق في سقف غرفتي ، صافح سؤال عقلي ، كيف ؟؟
كيف يمكنني أن أمسح عن روحي تلك الفوضى التي تجتاحها حتى الأعماق ؟ تلك الفوضى التي تسللت منذ زمن إلى قيمي وأفكاري ، إلى أعماق مشاعري وعلاقاتي ..
والآن لماذا كل شعور ، أي شعور يذكرني بك ، يهاجمني بك بكلماتك المتدفقة، غير المزيفة ؟ كلمات غسلت نفسي وطهرتها اليوم من كل ما تراكم عليها من غبار النفاق والمجاملات والكذب المستمر اليومي ؟
وأتذكر أنني إلى اليوم ، كنت وحيدة حتى نخاع العظم.
وأتذكر أنني اليوم وفي الساعات القليلة التي قضيناها معا ، لم أعد أسمع صوت بكائي يتردد هادرا داخل صدري .
الانتظار حقيقة مروعة ، واجهتها طول المدة التي انصرمت من حياتي .
الانتظار ، خضم من الأيام والسنين التي مرت وكانت كل دقائقها وساعاتها المكهربة تخنقني .
الانتظار صداع مزمن عانيت منه كثيرا إلى اليوم ، وجئت أنت ، أمل برعم فجأة وسط جليد نفسي ، نبتة خضراء أورقت في قلبي الذي تراكم عليه الحزن والتعاسة ..
مازلت أحدق بسقف غرفتي وأنا مرمية على فراشي كخرقة .
كنت أريد أن أكون حرة فيما مضى ..حرة ..
وكان قلبي يدق ، وكأن أبواب الجحيم قد انفتحت حينما كنت أصطدم بالأغلال التي تقيدني بالناس وكنت أتأرجح بين السكون ، وضجيج نفسي العارم وأنغرس في عمق وحدتي ، وأفكار كثيرة عني وعن تعلق مصيري بالناس تروج في ذهني ، تعذبني ..
ولأني مع ذلك كنت أبحث ، وظللت أبحث ، وتهت في الوجع ، وأنا لا أحمل سوى تجارب صغيرة تكونت في خيالي ، أخوض التجربة وحدي ، أغور في أعماق السكون والعزلة ، أصنع أسوارا من ورق لتحميني من نظرات الجياع ، كنت أتسلل ، أمشي في الدروب الملتوية الخالية لكي يفقدوا أثري ..
وكانت طموحاتي دون حد .
لم أمل البحث عن عيون متوهجة ، لا تعرف غير نور الشمس .
وطويت السنين وأنا أبحث ، و أحزاني ، فشلي ، الظلام الذي كنت أصادفه في جميع العيون والضياع يطويني ..
وكان الحزن يغلف روحي اليتيمة ، وكان قلبي الضامئ يسأل الحياة عن شعور فياض ، عن كلمة حب أسمعها فقط . ولكن الحياة بخلت .
وكان من الواجب أن أستمر حتى أجدك ، لتعلو البسمة شفتي من جديد ومن عيني ينبعث شعاع يضيء حولي جنبات المكان ، لكن من جديد أيضا ، يعاودني إحساس آخر غامض ، غاضب و غريب .
لم أشعر بأي ألم للوهلة الأولى فقط شعور حار جدا ينتاب كل جسدي ، يتخلله ، يسيطر على كل جارحة من جوارحي ..
ما هذا الأمل ؟ ما هذا الانتعاش الفاجر في جسدي اللعين ؟ كيف حدث ذلك ؟
على الفور يبدأ دماغي بالعمل ، لا يجب أن أضعف ، لا يجب أن أنقاد بهذه السرعة الجهنمية ، لا يجب .. لا يجب .. ويجب .. ويجب ..
حينئذ أعرف أن التعاسة هي أمي الوحيدة والأولى والأخيرة .وأن هذا الشعور الجديد هو أنشودة حزني الجديدة ، هذا الإحساس الكبير بك يهدهدني وينزلق لامسا جسدي كسائل رائع .. ويبتعد .
وأنا هنا
وجسدي وحيد معي ، مكوم حول نفسي .
وأدركت أنني تعيسة تعاسة أبدية ، مؤبدة ..
هذا الشعور يقول لي إنني سأبدأ صفحة جديدة من دفتر تشردي ، فلقد تشردت قديما في دنياي وعالمي وحدي ، واليوم هذه أنا أخطو الخطوة الأولى نحوك لأتشرد في دنياك وعالمك رغم أنني على يقين أنك لن تكون ولست إلى جانبي وأنا أتشرد وأغيب في فيافي شاسعة من كلماتك التي تطرد النوم من عيني .
في كل حالة حب كانت تصيبني كنت أشعر بالضجر القاتل وباللامبالاة تكتنفني وأخيرا بحزن على نفسي .
واليوم أمام حبك يصيبني الحزن حد السعادة، نقيضي طرف في أعلى قمة من ذرات قلبي المسكين . وفي أعلى قمة حزني أقول :
ــ لماذا أنا حزينة حد الموت؟
وفي أعلى قمة سعادتي أقول :
ـــ لماذا أنا سعيدة حد الموت وفي نفس الوقت ؟
وأنظر إليك كثيرا لأجد حلا للمأزق الذي تضعني فيه مشاعري وأقول يجب أن أفصل في هذا التطاحن الرهيب ، في هذا الصراع المخيف الذي يقع داخلي وأنساق إلى الظن أنه لربما هناك مبرر لحزني العظيم .. الكبير ، غيرمحدود .
لكن ما هي أسباب سعادتي الخارقة ؟
دائما أبكي دون دموع ..
أمس ، أيضا بكيت دون دموع لكن ليس بحزن فقط ، بل بسعادة أيضا ، ولأنني لا دافع لي كي أبحث وأنقب عن أسباب وسر سعادتي المترامية داخلي فقد قررت أن أتخلى عنها وأن أكتفي بأليفي الأبدي ، حزني المرير .
تعالى أيها الحزن من كل مكان ، التجئ إلي ، تعالى إلى جسدي فهو مازال يحتوي على أماكن عديدة قد تستحوذ عليها السعادة ، تعال يا حزن من كل بقاع الأرض واسكن جسدي ، ستجد عنده الراحة والرعاية والطمأنينة والحب ..
أحبك يا حزن في كل مكان ، ويعمني الفرح عندما ألاحظ سحناتك التي تتغير من شخص لآخر .
تعال يا حزن من على سحناتهم واستوطني أنت وحدك دون غيرك من الأحاسيس .
تعال يا حزن ولا تترك مجالا للسعادة كي تغمرني ..
أنا في أشد الحاجة إلى شحنات منك يا حزن ، لكي أحيا ، حتى لا تخنقني هذه السعادة العارمة ..حتى أصمد ، حتى أتطهر ..
حصني يا حزن ضد سعادته الغامرة ..
ضع حولي أسوارك المعجونة بعواطفي التي أصبحت تالفة من فرط السعادة التي يصبها في ..
ضع حولي حراسك الذين لا تنام لهم عين ، حتى لا تتسلل سعادته إلى جسمي الصغير ، المتعب ، المترنح تحت إشعاع سعادته الذي يكهرب كل جسدي بهذا الفرح الحزين .
يا حزن اكره تلك السعادة بكل قواك حتى لا تتمكن منك تلك السعادة فتفسدك ..
أيتها العيون الحزينة لكل البشر أعطني حزنك أتدثر به ، أحتمي خلفه من سعادته المحرقة التي تحطم كل شيء في طريقها للوصول إلي ..
يا مصائب كل البشر وعذابهم لا تتخلي عني في هذه الساعات التي يغمرها بحبه لي ويرسل فيها سعادة نحوي .. سعادة نحوي .
صبي في كل الألم ، املئيني تعاسة وكآبة ، حزنا ..حزنا ..حزنا .
لا أريد سعادته تحطم مشاعري ، تسري جراثيم صغيرة في جسدي ، تتلفك يا حزني ، يا حزني تملكني من رأسي حتى أخمص القدمين فهو هناك ، مع الأخرى بعيدا عني .