لمت الشمس أذيالها عن تلك الضيعات الناضرة ، والحقول المزهرة والروابي الجميلة،.
وبعد قليل، استوطن القمر السماء ، ساكبا من وراء ظلام دامس ، نورا لطيفا استضاءت به الأرض والفضاء .
وعباس كان يخطو،فلا يسمع وقع خطواته ، كان عباس كلمة كبيرة تملأ صفحات كتاب الحياة ، فاستحال إلى كلمة صغيرة قابعة في جانب من جوانبه .
لقد خطرت بباله فكرة أنه ربما كان قد أتى إلى هنا منذ زمن بعيد ولسنوات طويلة خلت،
وربما خطط له القدر خريطة البحث عن سعادته المنشودة في هده البقعة .
وكحلم البحارة بالمرافئ البعيدة أصبح عباس يحن إلى حياة افتقدها،
لما كان بعيدا عن وطنه ، وسط جدران أربعة ، كان يصنع مجدافا من خياله ويبحر ،بعض الأحيان وسط هذه الإحساسات التي لا يحس بها.
نظر عباس أمامه، حاول الفرار من قبضة التفكير فيما مضى، فشعر بالضجر يراوده،
امتد بصره بعيدا عن الضيعات الزاهرة ، فإذا هي خلاء مليء بالأشواك .
نظر إلى السماء، فإذا سحابة سوداء تغطي القمر، رمق السحابة بغضب، كيف يا ترى يستطيع إثبات قوة عزيمته، والطائر أفلت من يده فجأة، ولم يسمع صوته المغرد مطلقا.
راوده شعور بضرورة العودة إلى النزل حيث المرأة العجوز تنتظره بابتسامتها الطيبة وكلماتها الحنونة، قرع صوتها الحاد الطيب سمعه في عنف، قرر العودة من فيافي شاسعة من الحزن والألم وصحارى التفكير والعذاب.
مع كل خطوة تذكر اسم كل إنسان كان عدوه ، اشمأز ، توقف لحظة ، أحس ببعض الارتجاف ،تأمل الطريق، عاود المسير .....
ألقى نظرة متثاقلة على أشياء الغرفة التي يجللها صمت كئيب، السرير الواقف على أربعة أرجل خشبية ، أحدها أعرج شيئا ما ، الكتب المصفوفة ،المرتبة بنظام ، نجيب محفوظ ،عباس محمود العقاد ، ألبير
كامو، جان بول سارتر .
استقر بصره على تمثال حجري فوق الخزانة ، إنه يعكس كل الأعمار ،تأمل وجهه بدقة، رأى عليه تجاعيد وجه العجوز،غض بصره ،حاول المرور ، استوقفته :
ـــ إلى أين سيد عباس ؟ الليل بارد والظلام حالك ، ثم إنك مريض، البرد سيطرحك ....
كيف يثبت لها أنه يتحدى البرد والظلام ، أنه قوي، لكن كيف يعصى لهذا الصوت الحاد الطيب
أمرا .ارتمى على كرسي مجاور ، نظر إليها ، غاب وسط التجاعيد ،ولم يستطع أن يقول شيئا .
لم يدر كيف ذهبت العجوز، كما أنه لم يدر كيف أتت ، لم يحس بخطواتها على السلم ، لكنه شعر بالبرد .
نظر عباس إلى النافذة محاولا اختراق الستائر ليواجه البرد بنظراته المشتعلة ، ظل يحدق بالستائر ، رأى النار تندلع فيها ، لم يقترب ، ظل قابعا في مكانه ، منكمشا على نفسه ولم يبح لنفسه بارتعاش جسمه وقال في ثقة من أمره :
ــ عندي قوة تكفيني ، كل العمر.
قفز في مكانه وأحس بقشعريرة تتملكه من رأسه إلى أخمص قدميه .
حينما فتح باب الغرفة تصاعدت أصوات النزلاء الآخرين وتصاعد معها صوت العجوز الحاد :
ــ سيد عباس، العشاء جاهز ...
يا للمصيبة انك ترتعد ، عد إلى فراشك مباشرة بعد تناول الطعام ، واحذر البرد إحذر البرد!
أجاب مفزوعا بصوت مرتجف :
ـــ أنا لا أخشى البرد يا سيدتي ...!
تفصد العرق من جبهته من الغضب وأخذ يتساقط ببطء، مسحه بيده اليمنى ، لكنه عرق بارد .
حدق في المرأة المنتصبة أمامه ببلاهة ، انفرجت شفتاه قليلا كمن يريد أن يقول شيئا ، لكنه اتكأ برأسه على يديه كمن يحس أنه انتهى تماما .
نظر إلى طعام العشاء أحس بالغثيان ، انتابته غصة حادة وبدأت العاصفة بداخله ، اشتد به الحنق، حاول أن يصيح بالعجوز لتأخذه من أمامه ، لم يستطع، قرر ألا ينظر إلى طعام العشاء.
لا شك أن باحة النزل مكتظة بالنزلاء.
"من منهم ينزوي في غرفته في مثل هذا الوقت " .
اهتز عباس من الأعماق، شعر بنار الثورة تجتاحه :
"كيف أطأطئ راسي؟ ، كيف ارضخ ، وأنا ما أحنيت هامتي أبدا إلا للحق " .
لقد أصبح البرد عدوه اللدود منذ ذلك الزمن اللامنسي حين كان يردد بصوت عال يصم الآذان :
ـــ إلى متى تبقى كلماتنا في الظل ؟!
حينذاك قذفوا به في حجرة صغيرة جدا مليئة بمياه باردة كالثلج وذات رائحة كريهة .
و أصبحت الرعشة تصاحبه حينما كشر الصمت عن أنيابه وأغلق وراءه الباب بعد ضجة عنيفة اهتز لها المكان.
لم ير العجوز حين فتحت باب الحجرة واقتربت منه وعلى شفتيها ابتسامة طيبة وألقت عليه بغطاء وهو ما يزال نائما جالسا على الكرسي، لم يحس بها حينما أطفأت النور وتسللت من الحجرة بعدما أغلقت الباب بهدوء ، ونزلت السلم، وهي في كل درجة من درجاته تتذكر أسماء أصدقائها وتقول بينها وبين نفسها:
" ترى في أي البحار أغرقت أجسادكم ؟ ترى من منكم سقط مدرجا بدمائه ؟"
يا شمس صباح الغد , أخبريني عن كل من أحمد ، عبد الله , فاطمة ، أخبريني عن حسان , عن عدنان ، يا شعاع شمس الصباح الباكر، سأركبك لأصل إلى حيث ينعمون بحياة هادئة ، بالسعادة المنشودة التي تمنيتها قبل أن يتمناها عباس.
يا نسيما عليلا، أحملني، لأغمر بطيبتي كل أصدقائي ، لأخفي كل واحد منهم في حفرة من حفر الأيام على وجهي.