مدينة الرباط تعني لي مستشفى (ابن سينا )الجامعي الذي تعالج به أختي،وكذا اجتيازها لامتحاناتها المتعلقة بمهنة التوثيق وفندق (السلام)،ومقهى ( لاكوميدي) وسوق باب الأحد أو باب شالة أوكما يسميه البعض بالمدينة القديمة .
فعلا،على الساعة الخامسة فجرا،رن الهاتف، استيقظنا أنا وأختي في غرفتنا المعتادة بفندق السلام،والظلام مازال يخيم على المدينة التي أهلت في صمت رهيب.
بعد الاستعداد خرجنا، والتحقنا بالمقهى الذي رافقني منذ تواجدي بكلية الحقوق ب(أكدال) من أجل الدراسات العليا،وهو مقهى (لاكوميدي)وذلك لنتناول فطورنا حتى تتمكن من الالتحاق بمقر الامتحان في الوقت المناسب.
كان الجو ضبابيا، يلف المدينة، وكنا نستمتع بذلك الشعور ببرودة لذيذة الذي كان يسري إلى كياننا فينعشنا رغم أن الوقت كان مبكرا جدا، ولم يرتد المقهى إلا عدد لا يتجاوز بعد ثلاثة أو أربعة أنفار.
لما استقلت أختي سيارة الأجرة الزرقاء اللون في رحلة ذهابها إلى الطرف الآخر من المدينة لإجراء امتحانها بكلية علوم التربية، عدت إلى مقعدي بالمقهى لأغوص ساعة أو أكثر في أحلامي الغبشية اللون،وأفكاري الزرقاء المعتمة،لا يوقظني منها سوى نادلة نشيطة،تغير فنجان قهوتي ألذي برد أمامي .
كنت أظل ما تبقى من الأيام الثلاثة التي أمضيتها هناك بغرفتنا بفندق السلام ، أقرأ،أو أكتب إلى أن تعود من امتحانها .
في آخر يوم ، كانت مدة الامتحان في الفترة الصباحية فقط.
وهكذا بعد عودتها وتناولنا غذاءنا بمطعم (تاغزوت) بالمدينة القديمة،قررنا أن نتسكع وننظر إلى المعروضات بشارع محمد الخامس ،قبل الرجوع إلى غرفتنا بالفندق.
في ذلك اليوم على غير العادة،كان هناك تجمهر كبير أمام مقر البرلمان،وكانت الحدائق التي توجد أمامه تعج بالناس،ذلك أنهم كانوا يقومون بمظاهرة لا أعرف أسبابها ولا أهدافها،فقد كانت الاحتجاجات والمظاهرات متوالية في تلك الأيام من طرف أغلب المهن والطلبة الدكاترة وغير ذلك ضدا على الحيف وعدم تكافؤ الفرص بالنسبة للشغل وعلى ضآلة الأجور وغير ذلك من المواضيع المجتمعية.
لم نسأل عن سبب مظاهرات ذلك اليوم،ولم تكن لنا إرادة للسؤال،
فأنا وأختي مجرد عابرتان وسنسافر تجاه مدينتنا في الغد، ثم إننا كنا نعرف أن تلك المظاهرات مآلها الفشل كما هو الحال بالنسبة لما سبقها وأنه لا جدوى من السؤال.
كان الشارع هادئا والناس تتحدث في تجمعات بينها،وفجأة أخذ المتظاهرون يتناثرون يمينا وشمالا ويركضون بكل ما أوتوا من قوة ويتدافعون حتى أن بعضهم كاد يجعلنا نقع أرضا.
كانت أول مرة التي يحصل لنا ذلك،فاستولى علينا الخوف والفزع وقد أخذنا بالركض أيضا على غرار ما يفعله الناس.
كان أحد العساكر أو ما يسمى ب(المخازنية) يتجه نحونا وهو يلوح بعصاه السحرية االبلاستيكية السوداء التي تصبح أطول مما هي عليه عندما يضرب بها بل تتلوى كأفعى على جسد الإنسان،تلك العصا التي عرفتها منذ كنت طالبة بكلية الحقوق بمدينة فاس،والتي كنا نرتعد خوفا منها.
كان المخزني آت صوبنا وهو يركض بكل قواه، فكاد قلبي يتوقف من الرعب والخوف، خاصة من أجل أختي التي لم تكن تتمكن من الركض والجري لأنها كانت تعاني من مرض مزمن ،لا تستطيع معه التحرك بسرعة وهي كانت مازالت تعالج منه في ذلك الوقت بمستشفى ابن سينا الجامعي.
أخذت أصرخ ولا يخرج من فمي سوى كلمة واحدة وهي:
ـ لا ، لا ، لا..
أمام اقترابه منا، احتضنت أختي وتوقفنا وسط الطريق، وأنا أنتظر في هلع وفزع شديد يكاد قلبي يتوقف له وأختي ترتعش بين ذراعي، والمتظاهرون يتجاوزوننا وعساكر (المخازنية )يتعقبونهم في كل الاتجاهات.
وفي محاولة للنجاة، فكرت بالتشبث بأي شيء، جدار مثلا نحتمي به ، وإلا فإننا سنكون تحت أقدام الهاربين من قبضة العصا السحرية السوداء والذين كانوا سيطرحوننا أرضا ويدوسون علينا، أو أننا سنكون هدفا سهلا للعصا السوداء التي تلتوي عليك كالحية الرقطاء وتسبب لك من الألم ما لم تختبره يوما.
دار كل ذلك في رأسي بسرعة البرق،لكنني ظننت أن التفكير في ذلك أخذ مني مدة طويلة من الزمن.
وفي التفاتة سريعة ظهر لي عمود النور الحديدي، تنفست الصعداء وأخبرت أختي بأننا يجب أن نسير إليه و أن نتشبث به.
كان بعيدا عنا قليلا، لكننا تحركنا بسرعة نحوه،وجعلت أختي تحتضن عمود النور ذلك بينما احتضنتهما معا، مخافة أن تطالها تلك العصا المشؤومة.
لا أعلم كم من الوقت ونحن محتضنتان ذلك العمود، ومتشبثتان به ،والذي أطلقت عليه فيما بعد عمود النجاة ، فهو كان منقذنا في ذلك اليوم البئيس.
وكما بدأت الفوضى والاضطراب والركض والصراخ وتناثر الغبار فجأة، توقف كل شيء فجأة أيضا فقد تفرق هؤلاء المتظاهرون وخلت الساحات والطرقات منهم ولم يبق إلا البعض القليل ، والكثير من حاملي العصا السحرية السوداء.
تركنا عمودنا الميمون،الذي أنظر إليه بامتنان،كلما زرت مدينة الرباط ،وكان الخوف مازال مسيطرا على حواسنا، ونحن مستغربتان كيف نجونا.
توجهنا إلى مقهى ( لاكوميدي) في دهشة وخوف مما حصل لنا وقد بدأنا بالحديث عن كيف احتضننا عمودنا ذلك ونحن نصدر قهقهات عالية مشوبة بالاستغراب.
عندما هدأنا قليلا وشربنا الماء والقهوة،تذكرت كيف كان الناس في العهود القديمة من الإسلام يحتمون ويلتجئون إلى المساجد ليكونوا آمنين.
قفزت إلى شفتي ابتسامة استهزاء وغيظ وأنا وأختي مستنجدتين بمقهى لا كوميدي.
لله درك أيتها المقهى،إذا دخلناك فنحن آمنتان ..