حتى تصبحَ تريند، وتقف على المنصة وتصلَ لأكبر شريحةٍ من الجمهور على جميع مواقع التواصل الاجتماعي، عليكَ أوّلًا أن تتخلّى عن كرامتِك، عن شهامتِك، عن نخوتك، ولا تلتفت إلى قيمِك، أو مبادئِك أو أخلاقِك.
ربما يتبادرُ إلى أذهانِكم سؤالٌ قد تبادرَ لي، وهو: ألا يوجدُ تريندٌ صالح؟ للأسف يا صديقي، يؤسفني أن أُخبرَك أنّه حتى وإن وُجد فلن يصل، ولن يتركَ أثرًا طويلًا عكس تلك التريندات التي تطفو على السطح كفضائحَ وعُرْيٍ وهتكٍ للمستور.
للأسف يا صديقي، في زمنٍ صار فيه التريندُ أسلوبَ حياة، والضجيجُ وسيلةً للوجود، غابت المعاني وبات الظهورُ غايةً بحدِّ ذاتِه. لم يَعُد الهدوءُ فضيلة، ولا التواضعُ قيمة، بل صار مَن يختارُ الصمتَ يُتَّهَمُ بالجمود، ومَن يحافظُ على كرامتِه يُوصَفُ بالضعف.
امتلأت المنصّاتُ بوجوهٍ تبتسمُ أمام الكاميرات وتبكي خلفها، وأرواحٍ تلهثُ وراء الإعجاب، تتنفّسه كما تتنفّس الهواء. صرنا نرى مَن يبيعُ أسرارَ بيتِه، ويُصوِّرُ زوجتَه وابنتَه بل وأمَّه في كثيرٍ من الأحيان، ويُقايضُ مشاعرَه، في كلّ لحظةٍ يرتدي قناعًا يُخفي حقيقتَه ويصطنعُ مواقفَه ليحصدَ مزيدًا من المتابعين. في هذا السباقِ المجنونِ نحو الضوء، احترقت القيمُ كما تحترقُ الفراشاتُ حول النار.
كم من إنسانٍ بسيطٍ صادقٍ، اختار أن يعيشَ في الظلّ بعيدًا عن الأضواء، محتفظًا بكرامتِه ونقائِه، رافضًا أن يكونَ مجرّدَ رقمٍ في قطيعٍ يسيرُ بلا وجهة. هؤلاء الرافضون لما يحدثُ ليسوا ضعفاء، بل حكماء، أدركوا أنّ البقاءَ في الظلّ أحيانًا بطولة، وأنّ الرفضَ نوعٌ من الوعي، وأنّ الشرفَ لا يُقاسُ بالشهرة، بل بالثباتِ على المبدأ.
في زمنٍ يُقاسُ فيه النجاحُ بعدد المشاهداتِ واللايكات، والأخلاقُ تُدفنُ تحت ركامِ التقليد، صار الظلُّ ملاذًا للأنقياءِ، ومساحةً آمنةً لأصحابِ القلوبِ التي لم تتلوّث. هؤلاء لا يسيرونَ مع القطيع لأنّ لهم بوصلةً داخليةً لا تُضلّهم، وضميرًا حيًّا لا يُساومهم.
فيا مَن أرهقكم الصخب، لا تخجلوا من هدوئِكم، ولا تسمحوا لأحدٍ أن يُقنعَكم أنّ الظهورَ دليلٌ على القيمة. فالقمرُ يكتسبُ قيمتَه الحقيقيةَ من بهائِه ونورِه رغم صمتِه المهيب. والماءُ لا يُصدرُ ضجيجًا، لكنّه يمنحُ الحياة. ليس كلُّ مَن في الضوء ذهبًا لامعًا، فبعضُ الأضواءِ خادعةٌ تجعلكَ ترى الصدأ ذا قيمة.
ابقَ في ظلّك إن كان النورُ من حولِك زائفًا، وتمسّك بصدقِك وإن تهافتوا على الزيفِ من حولِك.
ولا يغرنَّك كثرةُ السائرين في طريقِ التيه، فالبقاءُ بالظلِّ خيارٌ نبيلٌ لأولئك الذين لا يُجيدون المسيرَ مع القطيع، بل يُجيدون المسيرَ نحو ذواتِهم بسلام.
تذكّر دائمًا: قد لا تجدُ الشهرةَ يومًا، لكنّك لن تفقدَ نفسَك.