يحدث أن يمرّ وجهٌ بك، فيعيد ترتيبك دون أن يقصد.
وجهٌ لا يشبه الوجوه، كأن فيه ملامح مألوفة من زمنٍ لم تعشه، ومع ذلك، يوقظ فيك شيئًا نائمًا منذ دهور.
تتوقف اللحظة، ويصمت الهواء من حولك، كأن الكون انحنى قليلًا ليمهّد لهذا اللقاء.
ليس في الأمر سحرٌ ولا مصادفة، بل معرفة قديمة تتذكّر طريقها دون أن تحتاج إلى اسمٍ أو سبب.
عندما تلتقي روحك بروحٍ تعرفها، لا تحتاج إلى الكلمات؛ يكفي أن يمرّ نظره بعينيك ليقرأ فصولك الصامتة.
كأن بينكما لغة لا تُقال، تُفهم بالنَفَس، وتُحسّ بالسكوت.
هو لا يسألك: "ما بك؟" بل يرى ما بك، ويفهم دون أن تشرح.
صوته لا يربكك، بل يهدّئك، كأنك وجدت في طمأنينته وطنًا داخليًا كنت تفتّش عنه منذ زمن.
ذلك هو التوافق الروحي؛ أن تشعر أن قلبك لم يعد وحيدًا في صمته،
أن تجد في الآخر بيتًا لا يملكك، لكنه يفتح لك نوافذه كمن يعرفك منذ البدء.
أن يلمسك حضوره دون أن يقترب، ويمنحك دفئًا لا يُستعار، بل يُولد من صدق اللقاء.
ثم يمتدّ هذا الشعور إلى الفكر، إلى المساحات التي تتقاطع فيها الرؤى وتتداخل الأسئلة.
هناك، حيث لا تذوب الأفكار بل تتحاور؛ حين تُضيء فكرة فيك انعكاسًا منه، وتولد في كليكما زاوية جديدة للمعرفة.
التوافق الفكري ليس أن يفكر مثلك، بل أن يوسّع فيك الأفق لتفكر أبعد،
أن يكون مرآتك التي لا تكرّر ملامحك، بل تكشف ما غاب عنك.
هذه العلاقة ليست تشابهًا، بل انسجامًا يتيح للاختلاف أن يزدهر.
هي مساحة صافية تتعرّى فيها الأرواح من الزيف، ويصير فيها البوح أصدق من اللغة،
حيث يتقاسم الطرفان هشاشتهما دون خوفٍ ولا استعلاء.
وعندما يلتقي التوافق الروحي والفكري معًا، يتحوّل الحضور إلى فضاءٍ داخليّ يتّسع بكما.
لا يذوب أحدكما في الآخر، بل يكتشف كلٌّ منكما نفسه في مرآة الآخر بعمقٍ أصفى.
حينها يصبح اللقاء لا نهاية له، كنافذة مفتوحة على نورٍ لا ينطفئ.