إنها تمطر بشدة ، السماء مغطاة بسحاب كثيف،
ملأتني الدهشة ( على الأقل ليس من عيني تسقط كل تلك الأمطار) .
تبادرت إلى ذهني فكرة وأنا أخطو بتؤدة على الطريق الترابية التي أصبحت تحت قدماي ناعمة جدا وكأنها صنعت من قطن: ( الشباب جوهرة نحتت بنور يفنى شيئا فشيئا ).
(لسنا أبدا في مستوى علو الحياة ولسنا أبدا أقرب إلى أضوائها ).
كنت وأنا مستمرة في سيري الهلامي ، منبهرة بكل تلك الأشجار التي ينبعث من خلال أغصانها المليئة بحبيبات المطر اللامعة كاللآلئ ضوء ما ، يكاد يغمرني كليا ، كنت أكتب تاريخ الأشجار في سماوات من نور، فهناك أرضي التي تجد راحتها حيث يمكن أن أخط أحداث مسيرتها في هذه الحياة الفانية ،جرأتها ومواجهتها للعواصف العاتية واستقبالها للأنوار التي أعطتها الجرأة والشجاعة وتوازنها الذي يدحرج الفصول ، تلك الأنوار التي مع الأسف تنزلق تحت الأنظار التي لا ترى اللحظات تلمع .
سيكون لدينا الكثير من الزهور الذابلة والورود السوداء لنقتل الكراهية،سيكون لدينا طرقات متشعبة غارقة في عروقنا،وسيكون لدينا حب قوي وجميل والكثير من السنوات الضوئية والاحتياطي من الأيام الفضية المتلألئة اللامعة تماما.
كانت الأشجار تملي علي تاريخها،أسماءها،ألوانها الخضراء المتفاوتة الدرجات، كانت تحدثني .
ماذا تكون الكلمات ؟كلماتها؟ هل يمكن أن تكون حكيمة أم أنها ليست إلا كلمات؟
كلام الضوء في الأحراش ، أصوات متكسرة في الصمت،السير على الأعشاب وأوراق الأشجار الصفراء، المتساقطة على الأرض تهمس بصوتها الذي يفقد العالم سرعته بل يخرجك منه تماما إلى عالم آخر موازي .
كنت أسير ومغيب الشمس ـــ التي كانت تطل على استحياء من وراء برقع رمادي مظهرة بعض حمرة من الخجل ــ أمامي أكاد ألمسه بيدي ،فاليد التي تلمس صفحة النور تحت كفها ، كما اليد التي تلمس صفحة بيضاء مثلا ،فإن كلمات اللون الأبيض تنجلي عند لمسها والتي يبدو أنها تتبع حركة متباعدة في الزمن، إنها اليد التي تحس وتشعر .
كنت أنظر إلى مغيب الشمس التي تطل علي من وراء حجاب من سحاب رمادي فاتح مشوب ببعض اللون الوردي ، في بلدتي حيث مسقط رأسي وحيث أحس بارتياح كبير يغزو صدري وأفكار كثيرة تسير معي نفس خطواتي، هفهافة ، كما تلك الخطوات بالضبط التي ترن في دماغي بهدوء ( لنتبع الأحلام،وليس القواعد، لنثق بالعلا،لنعش قبل أن نصبح أحدا، هنا الجنة وبعدها الأبدية ، أظن أن الأبدية مازال الطريق إليها بعيدا،خاصة نهايته،كما هو حالي مع هذا المغيب.
قلت في نفسي ( إنني لست من هنا ؟).
فحياة بأكملها لا تكفي لتقبض على بلدتي،والتي تدفعني إلى الحلم،ذلك الحلم الجميل الذي يجعلني أصرخ بصمت كما لو أنني أقول سرا بصوت مرتفع:( بلدتي : إنها أنا).
كانت كل تلك الأفكار تتدافعني على الطريق،تجول في دماغي كالأغاني ، كالقصائد،هناك النغم،الناس،الأساطير،وأنا أسير على ضغط صمتي المتعدد الكلمات والذي له مذاق مر في فمي.
إنه القانون منذ فجر التاريخ، يوما ما ستغلق ذراعيك، وسيكون داخلهما أحد ما ،لذلك وجدت نفسي أزيغ عن الطريق لأحتضن شجرة واقفة في إجلال وكأنها تنتظرني ولتهمس لي بصوت مملوء بالخشوع :
ـ إنني أسمع روحك .
اهدئي، لا تتركي العالم يجعلك قاسية،لا تتركي الوجع والألم يجعلانك حاقدة فتكرهي العالم ،لا تتركي اليأس يسرق وقتك .
كنت أغفو،بين ذراعي تلك الشجرة الشامخة وهي مازالت تهمس لي وكأنها تهدهدني ( أعرف أن الناس ينسون كل ما أقوله لهم كل يوم ، وينسون كل ما أفعله من أجلهم،ولكنهم لا يمكنهم أن ينسوا أبدا ما جعلتهم يحسون به).