كَانَ الطَّرِيقُ طَوِيلًا نَحْوَ الْخَنْدَقِ الْبَعِيدِ فِي مُعَسْكَرِنَا، مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ سَاقِي مُتْعَبَةٌ وَتُؤْلِمُنِي بِشِدَّةٍ، أُحَاوِلُ جَاهِدًا أَنْ أَلْتَقِطَ أَنْفَاسِيَ التَّائِهَةَ حَتَّى أَصِلَ بَعْدَمَا أَنْهَكَنَا الْعَدُوُّ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ الدَّائِرَةِ مِنْ فَجْرِ اللَّيْلَةِ حَتَّى آخِرِهَا، وَبَعْدَ الِاسْتِيعَابِ الْكَامِلِ بِأَنَّنِي مَا زِلْتُ حَيًّا، أَصْبَحَ عَقْلِي مِثْلَ كُرَةٍ مِنْ نَارٍ أَحْمِلُهَا بِكُلِّ مَا أُوتِيتُ مِنْ وَهْنٍ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُوحِشَةِ.
لَمْ أَخْتَرْ أَنْ أَكُونَ جُنْدِيًّا، وَلَكِنْ أُمِّي رَهَفْ هِيَ مَنْ أَجْبَرَتْنِي عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَحْمِلَ لِوَاءَ الْحُرِّيَّةِ لِوَطَنِنَا الثَّكْلِ.
كَانَتْ رَهَفْ زَوْجَةَ أَبِي، تَزَوَّجَتْهُ وَقْتَ رَغَدِ الْعَيْشِ بَعْدَمَا تُوُفِّيَتْ أُمِّي، وَتَرَكَتْنِي أُصَارِعُ الْوَحْدَةَ وَالْأَيَّامَ بِدُونِهَا، ثُمَّ أَنْجَبَتْ مِنْهُ أَشِقَّائِي.
فِي الْبِدَايَةِ كَانَتْ تُعَامِلُنِي كَأَحَدِ أَبْنَائِهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ بَدَأَتْ فِي التَّجَاهُلِ التَّامِّ لِي، وَمَا إِنْ بَدَأَتِ الْحَرْبُ وَأَرَادَ الْجَيْشُ تَجْنِيدَ الْكَثِيرِينَ، أَقْنَعَتْ أَبِي بِضَرُورَةِ ذَهَابِي مَعَ الْجُنُودِ لِلْحَرْبِ، لِأَنَّ أَخِي مَا زَالَ صَغِيرًا وَيَجِبُ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ لِمُبَاشَرَةِ التِّجَارَةِ.
ذَهَبْتُ وَالْخَوْفُ يَتَمَلَّكُنِي، فَقَدْ أَحْسَسْتُ أَنَّنِي أَمْضِي لِدَاخِلِ النِّيرَانِ بِقَدَمَيَّ حَتَّى أَحْتَرِقَ، لَمْ أَتْرُكْ خَلْفِي سِوَى حَبِيبَتِي عَلْيَاءَ، قَدْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْقَمَرَ عِنْدَمَا يَكْتَمِلُ، تُحِبُّنِي كَثِيرًا وَأَحْبَبْتُهَا أَيْضًا، فَهِيَ مِثْلِي وَحِيدَةٌ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى الزَّوَاجِ حَالَمَا أَعُودُ وَيَسْتَقِرُّ الْوَطَنُ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّنِي فِي قَرَارَةِ ذَاتِي كُنْتُ أَخْشَى أَلَّا أَعُودَ.
كُنْتُ أُحِبُّ وَطَنِي كَثِيرًا، عِنْدَمَا جَاءَ الْعَدُوُّ شَعَرْتُ بِأَنَّهُ يُغْتَصَبُ، سَمِعْتُ نَحِيبَهُ مَعَ كُلِّ قَتِيلٍ وَأَنِينَهُ مَعَ كُلِّ جَرِيحٍ، صَرِيخُهُ وَصَلَ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْعَالَمُ؟ فَهُوَ أَصَمُّ وَأَصْبَحَ أَعْمَى لَا يَرَى الْحَقِيقَةَ.
أَثْنَاءَ تَجَوُّلِي بِعَقْلِي لِأَتَفَحَّصَ الذِّكْرَيَاتِ، سَمِعْتُ صَوْتَ أَنِينٍ خَفِيفٍ، فَتَفَحَّصْتُ الْمَكَانَ جَيِّدًا مِنْ حَوْلِي لِأَجِدَ فَتَاةً تَسْتَنِدُ إِلَى شَجَرَةٍ عَارِيَةٍ تَمَامًا مِنَ الْوَرَقِ.
تَرَاجَعْتُ لِلْخَلْفِ لُهْلَةً ثُمَّ تَقَدَّمْتُ نَحْوَهَا بِبُطْءٍ.
عِنْدَمَا وَجَدْتُهَا مُتْعَبَةً جِدًّا ارْتَعَبْتُ كَثِيرًا، وَبِصَوْتٍ هَادِئٍ حَدَّثْتُهَا:
ـ هَلْ يُمْكِنُنِي مُسَاعَدَتُكِ؟
نَظَرَتْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّيْبَةِ،
ـ أُرِيدُ بَعْضَ الْمَاءِ، فَقَدْ أَرْهَقَنِي الطَّرِيقُ الطَّوِيلُ...
يَا اللهُ، كَمْ هِيَ جَمِيلَةٌ! وَلَكِنْ كَيْفَ تُشْبِهُ عَلْيَاءَ حَبِيبَتِي إِلَى هَذَا الْحَدِّ؟!
أَعْطَيْتُهَا بَعْضَ الْمَاءِ وَبَعْضًا مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي ادَّخَرْتُهُ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ جَلَسْتُ بِجَانِبِهَا تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لِنَسْتَظِلَّ بِهَا، وَلَكِنْ كَيْفَ وَهِيَ عَارِيَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْمِيهَا مِنْ هَجَمَاتِ الطَّبِيعَةِ الدَّائِمَةِ؟
قَالَتْ وَالْخَوْفُ يَمْلَأُ عَيْنَيْهَا:
ـ كُنْتُ مُهَاجِرَةً مَعَ عَائِلَتِي إِلَى حُدُودِ بَلَدٍ أُخْرَى، ثُمَّ أَضَعْنَا الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ وَتَوَجَّهْنَا نَحْوَ الْأَعْدَاءِ دُونَ أَنْ نَعْرِفَ، ثُمَّ سُرْعَانَ مَا قَتَلُوا الْجَمِيعَ، وَلَكِنْ أَرَادَ الْقَدَرُ أَنْ أَكُونَ النَّاجِيَةَ الْوَحِيدَةَ مِنْ تِلْكَ الْمَذْبَحَةِ، فَقَدْ كُنْتُ بَعِيدَةً عَنْهُمْ أَثْنَاءَ السَّيْرِ أَتَطَلَّعُ إِلَى النُّجُومِ كَيْ تَرْشُدَنِي، كَأَنَّنِي أَغْرَقُ مُحَاوِلَةً أَنْ أَتَمَسَّكَ بِالنُّجُومِ الْمُضِيئَةِ، فَهَرَعْتُ أَرْكُضُ وَسْطَ الْعَتْمَةِ دُونَ أَنْ يَرَانِي أَحَدٌ.
ثُمَّ تَطَلَّعَتْ إِلَيَّ لِتَسْأَلَ:
ـ هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا مِنْ حُسْنِ حَظِّي؟
ـ بِالتَّأْكِيدِ، فَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَوْتِ تَعْنِي أَنَّ الْحَيَاةَ تُجَدِّدُ الْعَهْدَ مَعَكِ.
ـ وَلَكِنَّنِي بِلَا عَائِلَةٍ، مُتَجَرِّدَةٌ وَعَارِيَةٌ مِثْلَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.
ثُمَّ نَظَرَتْ طَوِيلًا إِلَيَّ لِتَقُولَ بِدَهْشَةٍ:
ـ كَيْفَ تُشْبِهُهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؟
ـ مَنْ؟
ـ حَبِيبِي، فَقَدْ ذَهَبَ مَعَ الْجَيْشِ مُنْذُ فَتْرَةٍ، وَلَكِنَّ عَائِلَتِي قَرَّرَتِ الرَّحِيلَ فَذَهَبْنَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، شَعَرْتُ حِينَهَا أَنَّ قَلْبِي يَنْشَطِرُ إِلَى نِصْفَيْنِ...
شَعَرْتُ بِأَنَّهَا تُرِيدُ الْحَدِيثَ كَيْ تُخَفِّفَ عَنْهَا حِدَّةَ مَا حَدَثَ لَهَا، أَوْ لَعَلَّهَا تُرِيدُ النِّسْيَانَ...
ـ وَأَنْتِ أَيْضًا تُشْبِهِينَهَا...
ـ أَهِيَ حَبِيبَتُكَ أَيْضًا؟
ـ نَعَمْ، يــ...
ـ نَرْجِس، اسْمِي نَرْجِس، وَأَنْتَ؟
ـ عَمَّار.
ـ جَمِيلٌ، اسْمُكَ تَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةٌ...
ـ وَلَكِنْ لَا رَائِحَةَ فِي وَطَنِنَا سِوَى رَائِحَةِ الْمَوْتِ وَالْحَرْبِ.
ـ أَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّنِي لَدَيَّ أَمَلٌ.
ـ أَيُّ أَمَلٍ يَا عَمَّارُ مَعَ كُلِّ هَذِهِ الْخَرَائِبِ؟
مَضَى الْوَقْتُ وَنَحْنُ نَتَجَاذَبُ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ دُونَ مَلَلٍ، عَنِ الْحُبِّ وَالْوَطَنِ وَالْحَرْبِ.
ـ الْوَقْتُ مَضَى، مَاذَا سَتَفْعَلِينَ الآنَ؟ يَجِبُ أَنْ أُكْمِلَ السَّيْرَ نَحْوَ الْمُعَسْكَرِ، فَهُوَ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ هُنَا... أَخْشَى أَنْ تَذْهَبِي بَعِيدًا، يَجِبُ أَنْ تَأْتِيَ مَعِي لِنَتَحَدَّثَ إِلَى الْقَائِدِ.
ـ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ تَرْحَلَ أَنْتَ، أَنَا سَأَنْتَظِرُ النَّهَارَ...
عِنْدَمَا شَعَرْتُ بِتَحَسُّنِ حَالَتِهَا مَضَيْتُ نَحْوَ الْمُعَسْكَرِ وَافْتَرَقْنَا، وَلَكِنَّ قَلْبِي عَاتَبَنِي كَثِيرًا لِأَنَّنِي تَرَكْتُهَا.
تَقَدَّمْتُ خُطْوَةً ثُمَّ الْأُخْرَى، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَجِدْ نَرْجِسَ، وَلَا أَعْلَمُ إِلَى الآنَ: أَهِيَ حُلْمٌ أَمْ خَيَالٌ أَمْ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ؟
رَجَعْتُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ وَفِي قَلْبِي جَلَبَةُ مَشَاعِرَ وَخَوْفٍ، ثُمَّ بَعْدَ عِدَّةِ أَيَّامٍ ذَهَبْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَعَلِمْتُ مِنْ أُمِّي رَهَفْ أَنَّ عَلْيَاءَ غَادَرَتْ مَعَ عَائِلَتِهَا لِيَبْحَثُوا عَنْ وَطَنٍ آخَرَ، ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهُمْ قُتِلُوا عَلَى يَدِ الْعَدُوِّ.
يَبْدُو أَنَّ رُوحَ عَلْيَاءَ أَتَتْ لِتُرَبِّتَ عَلَى كَتِفِي وَتَذْهَبَ، فَقَدْ تَذَكَّرْتُ عِنْدَمَا قَالَتْ كَمْ أُشْبِهُ حَبِيبَهَا، وَلَكِنْ كُلَّ مَا أَعْرِفُهُ أَنَّهَا فِي جُعْبَةِ ذِكْرَيَاتِي مُخْتَبِئَةٌ.
د. راقية جلال محمد الدويك
يوستينا الفي قلادة برسوم
د.خليل السيد خليل محمد
داليا فاروق بدر بدر ابراهيم
فيرا زولوتاريفا
م. اشرف عبد الصبور الكرم
د. ايمان احمد ابو المجد الدواخلي
آمال محمد صالح احمد
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
ياسر محمود سلمي
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 



































