أُرسل أطياف الذكرى تتشبث ببعض اللحظات السعيدة لتعيدها إلى حاضره البائس عل قلبه ينتعش مرة أخرى ، لكنها وصلت متأخرة؛ فقد تلقفها السواد وابتلعها؛ وجد نفسه يلف حول اللاشيء في فراغ دامس الظلام لو مد يده ما رآها ، يحاول الهرولة لكن صدى خطواته يرتد ليصم أذنيه، امتد الفراغ إلى روحه أراد أن يسكنها:
-من أنا، ماهذا المكان، تبًا! ما أنا؟ صرخ بصوت عال ارتدت إليه موجة صوته وكأنها تصفعه لتوقعه أرضًا ويفقد سمعه لبعض الوقت، استمر الفراغ للتسلل إلى روحه يسحبها،كان قد استسلم بالفعل، فلم يعد يدرك ماهيته حتى
_أبي، أبي، ...
سحبه الصوت من اللامكان بسرعة كضربة برق
_نعم لقد أنقذتك صغيرتك هذه المرة لكن ستعود مجددًا وستبقى...
صرير صوت يخبو بالتدريج كتسجيل رديء...
فتح عينيه وأخذ نفسًا عميقًا كمن نجا من الغرق للتو، فوجد ابنته (صفاء) تشده من يده تريده أن يلاعبها، ورغم أنه أخذ بعض الوقت للتأقلم مع ضوء المكان الذي بدا طبيعيًا لأول وهلة إلا أن المنظر هاله بعد أن تحقق منه، فقد وجد نفسه في فناء بيت جده الذي احترق بالكامل وتحول إلى رماد منذ سنين حين كان مراهقًا، حدق مرة أخرى في الفتاة الصغيرة التي ظنها ابنته؛ نعم إنها هي صفاء محبوبته الصغيرة، الثمرة الوحيدة التي أينعت بعد ما فقدت زوجته لثلاث أحمال فاسدة قبلها؛ فرك عينيه وقرص نفسه ليتأكد يقينًا أنه لا يحلم وأن الأمر واقعي بشكل مخيف.
نظر إلى باب البيت فإذا بامرأة غريبة تتقدم نحوه باسمة، حاملة قدح قهوة، وضعته أمامه وقالت بصوت حاني:
_تفضل ياعزيزي، قهوتك أرجو ألا أكون قد أطلت عليك.
ثم استدارت إلى الفتاة
_تعالي يا(صفاء)، دعي أباكِ يكمل عمله وساعديني في الإعتناء بإخوتك .
تجمدت عروقه وجحظت عيناه وفغر فاه، حاول تجرع الكلمات لكن أحس أن لسانه قد عقد
_م..م..م..
قهقهت بصوت به صدى غريب ثم جرّت (صفاء) من يدها إلى الداخل...
أسند يده للشجرة ليعطي جسمه دفعة قوية وركض نحو الباب
حاول إمساك ابنته لكن يدها انسابت من بين أنامله كالسراب وغاصت رجله في الفراغ، تبعها جسده، ظل يهوي لوقت طويل، ظن أنه لن ينتهي أبدًا، حتى ارتطم جسمه أخيرًا بكومة ثلج تكاد برودتها تفجر عظامه، تحرك بصعوبة بالغة ومن شدة الضوء لم يستطع فتح عينيه وعندما فعل، لم يبصر سوى بياض ناصع في كل الاتجاهات، بل يحيطه صمت مهيب، كاد أن يفقد بصره فأغمض عينه يتحسس عله يجد نهاية لهذا الفراغ ربما زاوية ما أو بابًا ما أو حتى حفرة ما لينتهي من هذا
العذاب ظل هائمًا على وجهه لوقت طويل يتنقل في الفراغ يكاد يفقد عقله من هذا الصمت وهذا البياض، حتى ظن أنه مكث هناك دهرًا؛
_ترى ماهو اسمي ومن أنا بل، ما أنا؟ آه!
حاول الصراخ مرارًا لكن لاصوت له، حاول أن يدع نفسه يسقط أرضًا عله يشعر بشيء أو ربما يسمع شيئًا، أراد استكشاف ماهيته؛ فلم يعد يعلم شيئًا، لكنه سرعان ما يجد نفسه قائمًا وكأنما نقطة الجاذبية الوحيدة موجودة تحت قدميه وتتبعه أينما تحرك ومن حوله فضاء أبيض صامت.
_يوسف... يوسف، أكمل حديثك لمَ صمتت فجأة وحدقت في الفراغ
_م.. ماذا؟ أمي!-
قالها كمن تلقى ضربة قوية على رأسه
هل أصابك العته فجأة، لقد كنت ! تروي لي عن تجربتك التنويم المغناطيسي عند المعالجة النفسية التي زرتها آخر مرة لتجد حلًا لكوابيسك المتكررة التي تكاد تودي بحياتك كلما أغمضت عينيك.
_ها! أجل ، أجل، لقد قالت بالحرف الواحد:
هاجس الفقد والخسارة والرغبة الحمقاء في التحكم في أشياء خارجة عن سيطرة الإنسان يدفعانك إلى دهاليز الشيطان المظلمة، وكذلك محاولاتك الدائبة في إيجاد الاجابات لكل شيء وغوصك في الماورائيات يجعلانك تفقد ذاتك وتنسى ماهيتك وحقيقة روحك؛إنه طريق محفوف بالخسائر لو اخترت سلوكه سيكون الذهاب بلا عودة.
كما ترى لن تنفعك الشعوذة في الحفاظ على ابنتك التي على وشك الوصول الى هذا العالم بعد ان فقدت قبلها ثلاث صبية، في المقابل روحك الطاهرة وطينتك الطيبة يدفعاك لمحاولة الترقي إلى درجة ملاك والنذر بأن تتصرف كذلك وتترفع عن كل الأمور الدنيوية إن حفظ الله ما في بطن زوجك وهذا شيء ولا شك مستحيل بل وإن رغبتك في رؤية مولودك في حد ذاته أمر دنيوي.
ذاك الصراع سيقطعك إلى أشلاء ويتلاعب بعقلك ويجره إلى متاهات الجنون، فلن تكون يوسف بعدها ولا حتى شبحه بل ستصبح مجرد خرقة بالية تحركها رياح الظروف يمنة وشمالا.
استيقظ وتمالك نفسك وحكم عقلك فأنت انسان تتحكم في تفسك وانفعالاتك ورغباتك وشخصيتك وكذا أنماط الأشخاص الذين تسمح لهم بالتواجد في حياتك، تخطيء وتصيب، تولد وتموت، تمتلك وتخسر، لا تحاول السيطرة على أمور غيبية أمرها عند الله وحده،تصالح مع ذاتك البشرية وماهيتها.
قاطع حديث يوسف وأمه صراخ زوجته طالبة المساعدة....
قفزت أمه من مكانها وهي تقول: هيا أسرع، حان موعد استقبال الغالية بإذن الله...
تلقى يوسف الطبيبة فور خروجها من غرفة العمليات
طمئنيني يا دكتورة هل زوجتي بخير
: اطمئن هي على خير ما يرام وكذلك ما وضعت؛ ألا تريد أن تعرف جنس المولود؟ قالتها بابتسامة خفيفية.
: الأهم يادكتورة أن يكون بصحة وعافية وخلقة تامة.
ردت بابتسامة رضا عن كلامه وقالت: نحمد الله على سلامتها وخلقتها التامة، مبارك
فأضاء وجهه فرحًا واستدار إلى أمه قائلا: إنها صفاء يا أمي وهي بخير، الحمد لله العزيز المنتصر.
.