التقتْ به صُدفةً، ابتسامته أخذتها في رحلةٍ عميقةٍ إلى ذكرى جميلةٍ مبهمةِ الملامح، كانت مخبّأةً في خليةٍ خجولةٍ تتوارى بين الآلاف من مثيلاتها؛ فنبضتْ بقوة، أيقظتْ شعورًا خاملاً بالنشوة، استمتعتْ به ومضت...
جمعتهما بعدها صُدفة، حادثها، وقد كان حديثًا سلسًا كأنّه يُكمل أفكارها، يعزف نُوتاتٍ تتناسب وسُلّم وعيها، فتحفزت الخلية تِلوَ الأُخرى، وتسابقت الكلمات إلى فيها، وأطلقتِ العنانَ لمشاعرها.
ستقول: كم هي هشّة، وقد ظنَنّاها صلبة، وصاحبة عقلية قوية.
وسأجيبك: إنها ذاك وتلك، ليس بازدواجية، إنما بتحكُّمٍ وموازنة. لكن عيبها الوحيد، يا عزيزي، أن مشاعرها إذا حَكمت، يكون الحكم دكتاتوريًّا.
إنما لا يُقلقنَّك ذلك، ففي عقلها قواعدُ لجيوشٍ ثورية.
لأُكمِل لك، واحكمْ، وجدْ لهذه المخلوقة وصفًا: أهي مجنونةٌ أم تُعتبر شخصًا سويًّا؟
جرت الصدفة أختَها، فأخرى، حتى تراءى لها أنه القدر يجمعهما سويًّا. منحت عقلها عطلةً قسرية، وانتشرتِ الخلايا الشقيّة تنشر خيالاتٍ من ذكرياتٍ منسيّةٍ لشخصياتٍ متفرّقة، ربما كانت وهميّة، أو سرقتها من رواياتٍ رومانسية، وجمعتها في عالمٍ شيّدتْ له فيه معبدًا، جدرانُه لُبّنت من نجومٍ سحرية. أقامت فيه طويلًا، واعتكفت في محرابه، تتعبد عشقَه، ونصّبته على تلك الإمبراطورية.
_لكن...
_لا تُقاطعني، أعرف سؤالك: أين كان هو من كل هذه الملحمة الخيالية؟
_نعم...
_لأُجيبك: كان موجودًا طوال الوقت، لكن فقط كنصفِ جدار، أو أقلَّ بكثير، ليس نقصًا فيه، بل تلك طبيعة بشرية.
_مممم...
_لا تحكم عليه، يا صديقي، فهو لا ذنب له بجنونها؛ فقد أخبرها مرارًا أنه سعيد بأنها تستخدم عقلها، ذاك يُريحه، لم يعلم المسكين أنها فعلًا تستخدمه، لكن بطرقٍ أكثرهم جنونًا ممّن فقده...
_أتعنين أنها...
_لا، لا... ليست مجنونة، أو لنقل: ليست بالكاملة
_ماذا حصل بعدها؟
كالعادة، وهي كانت تعرف ما سيحصل، كأنها تراه، لكنها كانت تُحب أن تلاعب عقلها وتُوهِمه، لتعيش على مستوى المشاعر، التي تعلم أنها لن تذوق لذّتها إن ظلّت على أرض العاقلين؛ فتُخدّر نفسها، وتنطلق إلى عالمها الخاص، رغم أنها تتألم كثيرًا وقت الصحوة من السُّكرة...
_إذاً؟
_إذاً يقول عبارةً خاطئة، أو تصرّفًا نَشز عن الشخصية التي في خيالها، وقليلٌ من الإهمال لقيمتها، وتجاهلٌ لوجودها... تبدأ لبنات المعبد تتساقط واحدةً تلو الأخرى، حتى يَهر فوق دماغها، فتقهقه ضاحكةً على جنون خيالاتها، تقف، تنفض الغبار، وتمضي...
_أتكرهُه؟
_أبدًا. بل يبقى الجزء الحقيقي منه فيها، وإذا غلب السيّئ منه، أو لم يُناسبها، تجاوزته ومضت...
_لم أفهمها!
_ولن تفعل، لأنك إن فعلت، ستكون أنت معبودها القادم، وهذا خطرٌ عليك، يا صديقي.
على كلٍّ... لقصّتهما بقيّة.