آخر الموثقات

  • شبح عبدالله بن المبارك تعري أشباح النفوس
  • دعوة الرجل الطيب
  • بين غيم السماء وضجيج الأرض
  • العام 2050
  • يوم غريب في حياتي
  • المتحدثون عن الله ورسوله
  • قصة قصيرة/.المنتظر
  • قصتان قصيرتان جدا 
  • سأغير العالم
  • كيف تعلم أنك وقعت في الحب؟
  • التأجيل والتسويف
  • فأنا لا انسى
  • احترام التخصص
  • 2- البداية المتأخرة لرعاية الفنون والآداب
  • يعني إيه "الاحتواء"؟
  • يا عابرة..
  • رسائل خلف السحاب
  • صادقوا الرومانسيين
  • ربي عيالك ١٠
  • من بعدك، كلامي بقى شخابيط
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة انجي مطاوع
  5. شهرنان (رواية) الجزء الثالث و الأخير

الفصل الثالث- أسلاك شائكة

في إسرائيل

حاصر «زياد»، ضابط المخابرات الماكر، «نايف»، ولعب على أوتار فقره وعزف على أحلامه في الثراء بدهاء، أجاد، بجدارة، استغلال ضعف «نايف» أمام المال، كما أجاد استخدام ضعف إيمانه بعروبته وقوميته، حاك ونسج، بفن، خيوط خيانة «نايف» بإتقان، ضمه قبل انتهاء اللقاء لقائمة خونة أنفسهم قبل بلادهم وعروبتهم.. تحوَّل «نايف» في لحظات من مجرد شخص لا همَّ له في الحياة إلا أن يأكل ويشرب ويُحب ويتزوج إلى جاسوس نشط لإسرائيل.

«عائشة»: كيف لم يتعقل ووقع في براثن الخيانة أمي؟

«حبيبة»: حبيبتي.. الكثيرون يملكون قلوبًا ضعيفة، مغيبة ضمائرهم، «عائشة».. عندما يتفق الأنْذَالُ معًا فلا تضطربي وتقلقي، بل اهدئي.. اسحبي كرسيك في الحياة، تجهزي لمشاهدة مسرحية مبهرة، أبطالها مهرجو الدنيا، بتشجيع مُدَّعي الشرف والأمانة..

قوامها تفاخر بأخلاق مواربة، استغلال لجهل المحيطين وادعاء الأصل والإنسانية، حب الخير للغير، بذل جميع السُبل لخدمة الضعفاء، تمثيل الفناء من أجل الآخرين وإسعادهم..

لا تغضبي عندما ترين نجمهم يصعد إلى عنان السماء، فما طار طير وارتفع بزيف إلا كما طار وقع، دومًا يكون سقوط هؤلاء مدويًا وفاضحًا، هذا لمن وعى واذكر، هيا أكملي حبيبتي..

«عائشة»: حسنًا..

استمرت المقابلات بين «زياد» و«نايف» عدة أسابيع، حتى تأكد «زياد» من ولاء «نايف» التام لهم، وانغماسه التام في وحل الخيانة، وبدأت المرحلة التالية..

على «نايف» التدريب على أحدث الأجهزة ليكون جاسوسًا على مستوى لائق بعمله؛ لذا بدأ «زياد» في رسم صورة وردية عن علاقة العمل المقبلة، وعن أهمية تحسين مستواه وتدريبه، ليزيد من إمكانية الحصول على أموال أكثر..

كانت الأموال هي مفتاح «نايف» الأصيل، الوتر الذي يلعب عليه «زياد» للوصول إلى موافقة «نايف» على ما يريده ويطلبه منه.

طلب من «نايف» أن يعبر الحدود معه، وذلك للتدرب داخل إسرائيل بأمان، دون مخاطر اكتشاف أمره هنا بالجنوب اللبناني، على أحدث الأجهزة والمعدات.

«نايف»: لا.. لا لا لا لا.

هل جُننت؟ أنا أدخل إسرائيل بقدمي؟! أتريد أن يقبض الأمن عليَّ؟! قد يراني أحد أفراد المقاومة فيقتلونني في مكاني، دون محاولة الاستفسار حتى عمَّا أفعل.. لا لا مستحيل.. لن أفعل..

«زياد»: اهدأ «نايف»، سأفهمك، الأمر مهم لمستقبلك!!

«نايف»: مستحيل.. أتريد أن أُخاطر بحياتي ومستقبلي هذا؟ لن يكون هناك مستقبل بذهابي لعدو مُعلن.. (قالها بكل ذهول وكأنما هو في عالم الأموات فعليًّا)..

تجمَّد «نايف» من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، شعْر رأسه وقف فزعًا، شعر أن شعيرات جسده كاملة قد انتصبت مذهولة مما يتخيل حدوثه، ترنح في مكانه ولم يستطِع الوقوف على قدميه، لم يتمالك نفسه فسقط على الأرض جالسًا؛ فالموضوع أكبر من قدرته على الاستيعاب.

لكن «زياد» ضابط لا يمكن أن يُستهان به.. لم يترك «نايف» يفر بعد أن استطاع تجنيده وهو أصغر جاسوس في الجنوب بهذه السهولة؛ لذا استمر في الطرق على الحديد وهو ساخن، فقد أراد شل حركته وإرادته وتفكيره كليًّا..

«زياد»: «نايف».. ستحصل على المزيد من الليرات عندما تتدرب؛ فوقتها ستنتقل إلى فئة أعلى وستكون أحد رجالنا، سنكون دومًا بجوارك، لن يُصيبكَ أي سوء، وبافتراض تعرضك لخطر؛ سننقذكَ سريعًا، يمكنك وقتها أن تعيش في إسرائيل كبطل، فنحن لا نترك رجالنا يتعرضون للمخاطر، أو تختار أية دولة تريدها لاستكمال حياتك فيها منعَّمًا.

وكان الأمر أهون مما تخيل «زياد»، تم الأمر بعد أن وعد «نايف» بألا يفضحوه مستقبلًا أيًّا ما كان السبب، بإعلان اسمه ضمن كشوف عملائهم، وأن يزيدوا راتبه بما يناسب تلك المخاطر، وبالتأكيد وافقه «زياد»، فما أسهل هذه الوعود مقابل ما سيحصلون عليه من معلومات.

أما «نايف» فكان يرى أنه يمنح الإسرائيليين معلومات تافهة ليست ذات بال، مقابل مبالغ ضخمة، تحوله من حالة بؤس العيش إلى ملك في زمن قصير..

لم يدرك أنه يُخاطر بكشف عمليات تُقضُّ مضجع الإسرائيليين، خاصة في الشمال، وأنه يعرِّض أبناء جلدته لمخاطر القتل والتعذيب بسجون عامرة بسجناء كل ما فعلوه مطالبتهم بحريتهم وحرية بلادهم.

اقتنع أن عليه التدريب أكثر ليكون أكثر أمنًا، وأخيرًا وافق على الذهاب مع «زياد» ليضمن عدم كشف أمره يومًا ما؛ فالتدريب أصبح ضرورة للحفاظ على أمنه وحياته ومستقبلة المزهر معهم.

لذلك طلب إجازة، متحججًا بحاجته للسفر لشراء بضاعة جديدة والتعرف على ما هو جديد وحديث في هذا المجال، انطلق بدراجته إلى نقطة الالتقاء في الجنوب، اختبأ مستغلًّا الظلام بين الأعشاب..

كان كل ما فيه يرتجف؛ فقد كان توتره يصعد بِروحِه إلى عنان السماء، ويهبط بقلبه إلى جوف الأرض، ظل يحدِّث نفسه عمَّا يشعر به: أشعر بفراغ يصل إلى حدود النجوم وضياء السماء، بوحدة تتغلغل في نفسي البشرية بجفاء، بحنين قاتل مسيطر على روحي لتذهب هباء.

أختنق.. بخيال أسود يتحكم باللاوعي ليعوي كذئب دون حياء، بأشباح العمر تتخفَّى بليونة قِط، تنبش قبور الأخلاء، بأنفاس تسرح هنا وهناك تتجول كيف تشاء، أتعذب.. بخبث العالم يحيط الكون ليخنق كل صفاء، بسهاد قاتل يسحب ليلي الجميل نحو فناء، بعذاب يخنق أيامي بقسوة قاتل يهوى حسناء.

* * *

«شهرنان».. أنجدي قلبي الغريق، عاشقة أنا لرجل فريد، هو حبيب وصديق قريب، لكني معه دومًا عنيدة، فأخبريني ماذا أقول.. أوجدي لي الحل لحبه في العلن.

لكن كيف وأنا من له دومًا أقول ربما كنت رجلًا من خيال، أو ربما رجلًا في السماء يطير، أو قد تكون ملء السمع والفؤاد وتتجول داخل الأساطير؟!

أو قد أظن أحيانًا أنك من وادٍ خطير، قد تكون فارسًا من دنيا الغيب والأعاجيب، لكنك في الحقيقة، وعندي أنا، ما زلت رجلًا تمشي وتسير دون أن تثير الأعاصير، رجلًا قد تكون مغامرًا، لكنك ما زلت بشرًا تأكل وتشرب وتثير الجنون بشرٍّ مستطير، قد تحن لعالم حنون بشوش.. لكنك معبَّق بقسوة وظلم اكتسبتهما من صداقة السنين، حوَّلتك الحياة إلى مسخ ساخط على دنيا البشر، شخص قاسٍ على النساء دون سائر البشر، فهل أنت رجل من خيال، أم أظن بجنوني أنك مثل سائر البشر؟

سيدي.. لا تعِش الخيال، ولا تستهِن بقدرتي على استيعاب الرجال، سأتركك فقط بين سحابات خيالك لأنني مستمتعة بمشاهدة شطحات أوهامك؛ فسكونك درب من خيال وفتنة.

عشقك بات سبيلًا لمجاذيب معاتيه الغرام، مغامر أنتَ، طائر سابح بين النجوم أنت، مغرور ومتكبر، فلتلمس الأرض يا هذا، عِش الواقع والحياة، فلست بأعجوبة ولا أسطورة من خيال، أنت رجل من طين وقليل من ماء مهين، انتظر هنا.. قر هنا.. واسكن هنا.. انتظر مني الحنان والكلام.

سيدي.. احذر شرًّا يتطاير من عينيَّ؛ فجنوني أصل متأصِّل ونار، أنا أنثى من غيرة، حبي متشعِّب يعشقه كل مار، لكنني.. لكننا.. اخترنا حبًّا.. عشقًا كالمنار، فأين كل وعد قُلته؟ هل أنت بار؟! كالوالد ووليده كنت معي، وفجأة تحولت لخيال غبار، كنت يومًا ملاكًا حارسًا وفجأة تحولت لشيطان ومارد يسقيني المرار.

هل تعلم؟ حتى عشقك لعنادي هو عشق مبرر؛ لأنه يزيد بك الكبرياء، يجعلك تجوب عوالمي لتثير بقلبي الإباء، لتتفاخر برُتب تخدع في الأنثى الذكاء، لكن.. هيهات.. هيهات.. فأنا لست في عالمك كسائر النساء.

* * *

 

رعب وحقيقة

ما أشد رعب «نايف»! تخيل أن يشاهده أحد أفراد المقاومة، فهذا هو وقتهم الأثير للانطلاق لتنفيذ عملياتهم ضد الكيان الإسرائيلي، حاول تخيل الفرق بين مشاعره الآن وهو يسعى إلى الثروة والحياة ضاربًا عُرض الحائط بأهله ووطنه، ومشاعر ذلك المُضحي بحياته في سبيل تحرير بلاده، المُجاهد في سبيل قضيته..

التمس الأعذار لنفسه: هم السبب؛ فقد تركوني لأعيش الفقر الشديد، كيف تخيلت الحكومة أن أُعيل أسرتي بهذه الليرات الزهيدة؟! حتى «فاطمة»، حبي الجميل، تركتني من أجل آخَر أكثر ثراءً لتعيش حياة رغيدة، أنا أيضًا عليَّ السعي لأعيش حياتي براحة وسعادة، سأعوِّض كل ما حُرمت منه، لن يمنعني أي شخص أيًّا مَن كان مِن الوصول إلى هدفي ونيل حقي المسلوب في السعادة والثراء..

أكمل حديثه مع نفسه قائلًا:

آه من شيطاني يناوشني ويتحايل لأتحول لكائن آخر لم أكنه يومًا، بكل الأساليب يلاعبني، وحجج تبريرات تبدو بعقلي منطقية يطالبني أن أكون شخصًا مغايرًا يثيرني بأوصافه، يأتي دائمًا ليقنعني في أوقات انكساري.

آه من وسوساته تجعلني أصرخ طالبًا التحول لآخر، أخبره بأني أريد نفضَ عباءتي البالية من الأخلاق؛ فهي لم تعد مجدية، لا أريدها أن تغطيني، ونزعَ ما يطرز روحي من طيبة ووقوف مع غيري؛ فهم دومًا سر آلامي..

محو كل ما تربيت عليه من خير، خاصة ذلك المسمى اعتذارًا عند الإساءة للغير لحدوث سوء دون قصد مني.. سأنزع تلك الصفات الغريبة المريعة التي تحيط عباءتي من حب لغيري، الدعاء للغير حتى مَن يؤذونني، تمنِّي الرزق الواسع للجميع ممن حولي وكأني صرت ملاكًا، لا أريد الألوان الزاهية من غباء مشاعر جارفة لأناس ليسوا من عالمي.

أريد محو تقديري للغير ومراعاة ما يمرون به على حساب نفسي، سأفتت شريط كسر خاطري لأجل آخرين مهملين يسحقونني بإهمال واستخفاف، يقولون إن زينة التفاؤل وتوقع الخير والظن الحسن من أفضل زينات المرء، لكني سألقيها أرضًا، لا أريدها، سأحرقها كلها وأجعلها رمادًا وأنثرها هباء في الجو، وهذه النقوش.. ما هذا؟ حياء وخجل وصبر.. صفات بالية ضائعة وسط أخلاق وتربية مفقودة لا تستخدم ومصيرها يومًا الفناء، سأحيك ملابس جديدة مزركشة زاهية تلمع، تعمي الأعين بكل مجون، ملابس من تلك المنتشرة لأثير العالم وأحوله لمخبول مفتون، سأتحوَّل لإنسان عادي يدور معهم في دوائر مسكونة بخداع وغش مأفون..

سأصيِّر نفسي وروحي ثعلبًا أو ذئبًا أو حتى حية أكولة، تخطف قلوبًا وعقولًا بخبث وحيلة، وتعيش على حساب الكل.. سأتحول لمارد جبار يبدو قطًّا لطيفًا، سأمارس شرور الدنيا من خلف زجاج البلّور المزين بنقوش الورد.

إن هؤلاء الفدائيين يعيشون الوهم، سيُطردون من هنا كما طُردوا من الأردن، هي مسألة أيام، لن يستطيعوا التغلب على الإسرائيليين؛ فهم الأقوى والأكثر أموالًا وسلاحًا، ألا يرون أنه مقابل كل إسرائيلي يُصاب، يُقتل آلاف الفلسطينيين؟! يا لهم من أغبياء، ألا يقدِّرون عدد مَن منهم مُلقى في السجون؟

بالتأكيد أنا على صواب، أعرف من أين تؤكل الكتف، لن أكون كتفًا يأكلها شخص آخر بعد الآن، سأكون أنا الآكل لكل الأكتاف..

«حبيبة»: ابنتي.. شيطانُه فعلًا بارع استطاع إقناعه، لم يدرك إشارات الله التي تنير حياتنا وتنجينا من هذه الوساوس، أحيانًا يرسل شخصًا لنراه يثبت أمام ناظرنا وعقولنا أن أفعالًا كفعل «نايف» هي نتيجة أوهام خيال مريض، تعب من زيف أناس كثيرين حوله أو ضعف نتيجة ظروف عاشها، لكنه لم يحاول تخطي محنته وتجاوزها؛ فالخير ما زال موجودًا والحب أيضًا يستعمر قلوبًا وممالكَ، عندما يفيق من غيبوبته سيكون قد فات أوان العودة..

«عائشة»: هل انتهيتِ من درس وعظك أمي؟ لا تقاطعيني بنصائحك الذهبية هذه أرجوكِ، كل هذا لتخبريني أني ضعيفة في مواجهة ظروفي! هو لم يتحول إلى قعيد في سن صغيرة، لم يشاهد حربًا أبطالها إخوانه، لم يقتل أبناءُ عمومته أخاه وجاره، أمي.. لا أحب هذه النصائح البالية..

«حبيبة»: درس وعظ؟! أكملي قصتك.. لا أريد الشجار معكِ في منتصف الليل، هيا أكملي أو دعيني لأنام..

حسنًا سأُكمل: ظلَّ «نايف» ينتظر ظهور «زياد» لأكثر من ساعة ونصف الساعة.. مرت عليه كأنما هي عام، كل ثانية تُمثل مسلسل رعب يقتله خوفًا وفزعًا، لكن فجأة قطع حبل أفكاره صوت خشخشة ووقع أقدام آتية، ثم رأى ومضات متقطعة خافتة يصاحبها صوت خفيض يطالبه بأن يتبعه في هدوء، ليبدأ مرحلة جديدة من خيانته..

رعبه أثَّر على تقدمه؛ فقد كان يتعثر كثيرًا، لينبهه ذاك الشبح بالتزام الهدوء كي لا يُفضَح أمرهما، ما زاد من تلك الغصة العالقة بحلقه، شعر بطعم العلقم بفمه، جو التخفي أثار غثيانه ليتمنى العودة إلى منزله، فلم يعد يرغب بالثروة، فقط يريد العودة كما كان.

نظر للأمام، رأى حائطًا من أسلاك شائكة كان يفصله عن بئر خيانته القادمة، ويبعده عن بحيرة حياته الماضية ببراءة، على الرغم من عفونة ما قاساه فيها، فقط أسلاك شائكة تفصل ما بين ما مضى وما هو آتٍ من خيانة يُدرك أبعادها..

نوع من التعفن لن يُجدي معه أي صابون بهذا العالم أو حتى عطور باهظة الثمن سيحصل عليها بنقود ملوثة بدماء رفاق وجيران يتسبب في هدر دمائهم غدرًا.

وصل إلى نقطة الالتقاء، استقبله شخصان آخران بالزي العسكري الإسرائيلي، ما زاد رجفة جسده، لم يتحدث أي منهما وأشار إليه أحدهما أن يركب السيارة، لتنطلق بهم بعد أن جلس بالخلف وسط أربعة جنود ذوي نظرات حادة متفحصة أرعبته وأربكته أكثر، حتى شعر بالعرق يتصبب منه ويغطي جسده كاملًا.

ما أقلقه أكثر هو تحدثهم معًا بالعبرية، ليشعر كما لو أنهم يضحكون عليه، هل يهزأون منه لأنه باع وطنه؟! حتى «زياد» كان يُقهقه معهم غير مُبالٍ به، لم يحدثه بكلمة واحدة، لم يكلف نفسه عناء السؤال عن حاله، لم ينظر إليه حتى.

ظل يُشاهد الطريق على ضوء السيارة، ولاحظ أن «زياد» يُشير إلى النقاط الأمنية عندما يصلون إلى إحداها، فتُفتح لهم الطرق دون الحاجة لتبادل أي كلمة.

على الرغم من انتشار تلك النقاط بكثرة على الطريق، فإن سيارتهم كانت تمر سريعًا دون تفتيش، أما باقي المارة فكانت تُفتش سياراتهم بطريقة مستفزة، وتخرج محتوياتها وتلقى بعيدًا كما لو كانوا يُخرجون أمعاء دجاجة ستُطهى، ما جعله يستغرب كثيرًا كيف كان «زياد» يشكو من صعوبة اجتيازه الحدود وها هو يشير فقط فتُفتح له جميع البوابات ليمر بسلاسة.

* * *

يا «شهرنان».. احكي المزيد من قصص العباد، غني عن أحبة وعشاق، عمَّن يسبحون في بحور الحب ويكون الغرق سبيلهم للنجاة من شر الفراق، أسمعينا.. أفهمينا.. علَّنا نفيق يومًا ومن الحب وأفعاله نتخذ سبل النجاة.

تبدأ «شهرنان» الحكاية دون مقدمات أو نهاية، تفتح باب الرواية وتخبرنا بأن حكاية اليوم عن زهرة، هي مجرد زهرة عادية، هكذا ترى نفسها، كانت زهرة أخرى من ضمن زهرات كُثر ملقاة على جانب، مهملة ووحيدة بهذا العالم، تشكو وتئن لأفرعها، مكتفية من هذي الدنيا بنظرة حب من شمس الصبح وضحكة مغازلة من قمر الليل ومعاكسة من إحدى النجمات.

لكن جاء هو محتلًّا غادرًا ليستولي على بتلاتها ويحتل بصمت مسام وريقاتها، اشتم عطر ربيعها بمزاج فنان هاوٍ، سحب نعومة الوريقات باحترافية بائعِ ماس، وقطعها جزيئات كتاجر ذهب متمرس، وعند بزوغ فجر جديد ألقاها.. رمى أشلاء ما بقي منها خارج حياته.

تركها تنوح ذاهلة لنسيم الصبح لِمَ جاء وكلف خاطره عناء الوصول إلى قلب مغلق بمتاريس قسوة وظلم حياة؟! ولِمَ تحمل شوكاتها وعالجها إذا كان ينوي منذ البدء فرارًا آخرَ أكبر من دائرة نظراتها؟ لِمَ ترك زهرته المختارة بعناية وفق شروط ومعايير ترضي من حوله وجاء لهذه المهمَلة منذ سنين؟! ألا يكفيه ظلم الناس والدنيا لوريقاتها؟! لِمَ جاء إذا كانت خيباته هي دومًا هداياه لإشراقة يومها؟ لِمَ أطفأ بيديه وهج نعومتها وبراءة تسكن ريعان شبابها؟!

تركها لتردد أقاويل معبرة عن عاشقة مهجورة، تبدي في نصائح ملتاعة لباقي الزهرات، لتلخص حكايتها في بضع كلمات تحكيها بأن أسوأ شيء كونك لا شيء لمن هو لك كل شيء.. آه يا قلبي يا وطن مذبوح بيد القدر، مجروح ضائعة منه الروح قتل، بيد قاتله إذْن وتصريح مفتوح، لكل أفعاله معه مبرر، خطوط الرفض له تجاوزها مسموح ومباح، يا وطن الأمان، عليك مني السلام، فقد حانت لحظة الختام بوداع المحبوب.

* * *


حيفا

أخيرًا توقفت السيارة، دخل «زياد» المبنى وأشار أحد الجنود إلى «نايف» أن يصعد معهم للأعلى، لم يجد بُدًّا، نظر نظرة سريعة لما حوله فلم يستطِع رؤية شيء؛ نظرًا لرعبه وعدم قدرته على التمييز لعدم تركيزه، كانت العمارة فخمة وفاخرة جدًّا لم يرَ مثيلًا لها من قبل.. صعد معهم إلى إحدى الشقق، دخل دون أن ينبس بكلمة.. وأخيرًا نطق «زياد» قائلًا: «وصلنا.. ستبقى هنا (نايف) حتى أعود إليك».. ثم تركه ومضى..

«نايف».. أهلًا بك في حيفا.

تفاجأ بهذا الصوت الرنان، نظر إلى مصدره ليجد أن قائلته فتاة حسناء تبدو في العشرين من عمرها، ذات شعر أحمر وعينين زرقاوين، ووجه كما لو أنه مصنوع من لبن حليب، ثُبِّتَ على جسد شهي شديد الإغراء، ترتدي ملابس تُظهر أكثر مما تخفي، تُثير شهوة جبل الدروز لا هو فحسب..

صحبته لحجرته وسألته: هل تريد شيئًا «نايف»؟ (قالتها بدلال زائد فقتلت فيه الوعي، ليثبت غير قادر على النطق لهول شعوره تجاهها)، تركته وخرجت وهي تتصنع البراءة على الرغم من إدراكها ما أحدثته داخله من زلازل وبراكين، لكن بمجرد اختلائه بنفسه، شعر بحجم المأساة فبكى كطفل فقد أمه وسط ضجيج سوق المدينة، شعر أن أفكاره مشتتة لا يدري ماذا فعل وما هو مقدم عليه وما عواقبه!!

ما أرعبه بعد ذلك أكثر وأثار أسوأ مخاوفه أن «زياد» تركه لأكثر من أسبوع دون زيارة، فقط تركه مع فريق من أطباء نفسانيين يسألون ويفتشون وسط أحلامه، كلماته، وحتى خلجاته، لمعرفة نقاط ضعفه، وكيفية السيطرة التامة عليه.

ليحدث نفسه كالعادة: ماذا يجري «نايف»؟!

هل أتى عليك اليوم الذي أصبحت فيه خائنًا وببحر الغدر تنهار؟! هل يتعبك فراق حبيبك وما أحدثه من دمار؟ هل آلمك لذا تلعب بالنار؟! هل أبكاك كثيرًا فأزلت عن قلبك غبار حبه ووطنك؟! هل تملؤك أفعاله تلك الخالية من الحق والعارية؟!

هل حبيبك يراك كشبح ويبغى منك الابتعاد أو الانتحار؟! هل أمَلُكَ بحب كان عابرًا مارًّا بيومك؟! هل أماتك يوم ذهب واختفى بشتاء حار؟! هل تحيا الآن بدعوات تحميك لرب جبار؟! هل لديك تساؤلات أم انتهى مشوارك والحوار؟!

هل ستدور في فلكها بلا فرار؟! لِمَ تستمر في غيك «نايف»؟ أتوجد فرصة سانحة للهرب، أم أنك غرست روحك وذاتك بمستنقع خيانتك هذه؟!

لكن، كان يخلص في النهاية إلى أنه بريء مجني عليه والآخرين هم من ظلموه وجرُّوه لهذا الفعل الجلل.

بعد أسبوع، بدأ مرحلة التدريب على كيفية التجسس وتجميع الأخبار والتقاطها دون إثارة الريبة والشبهات، علَّموه كيفية تمييز أنواع الأسلحة، كيفية الاختلاط وسط المحيطين به ووسط التجمعات الفلسطينية ليستطيع إتمام مهمته بنجاح، أجاد كل هذا سريعًا، فيبدو أن خلف بشاعة خلقته عقلًا يعمل عندما يريد.

درَّبوه على كيفية رصد تحركات تلك الفرق «المخرِّبة»، كما سموها، وكيف يلاطفهم ويرتبط معهم بصداقات وعلاقات علَّموه كيف ينشئها وكيف يستغلها جيدًا وكيف يستدرج من يريده للأحاديث الوطنية، بحيث تتم إثارة حماسهم فيُخرجون ما بداخلهم من أسرار، دون أن يدركوا أنه يستدرجهم لهذه الأحاديث.

تحوَّل إلى شخص آخر واثق بذاته حد الغرور، تحول بدلًا من شحاذ إلى ملك بفضل تزكيتهم لأوهامه، تجوَّلوا معه في شوارع إسرائيل بسيارة فاخرة ذات ستائر سوداء كأحد مسئولي الدولة، ليقارن بين بلد الديمقراطية والفن والجمال والحرية وبين ما رآه وما يسمع عنه ببلاده العربية.

أقنعوه بأنه سبيل نجاتهم من هؤلاء المتوحشين، بأن ما يأتيهم به هو صمام أمان يضمن استمرار واحة الأمن والديمقراطية هذه.

أشبعوه متعة ودلال، منحوه ما يعوِّض حرمانه من المال والنساء، وذلك عندما نجح في استخدام اللاسلكي في الإرسال لأول مرة.

كما وعدته «ألين»، حمراء الشعر التي تُقيم معه في المنزل، أنها ستقضي ليلتها معه مكافأة على نجاحه، وعلى الرغم من علمه أنها عميلة للموساد فإنه لم يبالِ؛ فما همهُ سوى أنه سيقضي الليلة في أحضان أنثى جميلة لأول مرة، ليتذوق لهيب الحب، ويطعم من بركان عشق ودلال؟ أجادت دورها كاملًا، حتى إنها وعدته أن تكون محظيته خلال زياراته لإسرائيل.

أحضر إليه «زياد» المزيد من الفتيات ليبيت معهن، كان يُدرك أنهن من داعرات الموساد، لكنه عشق إحساس الرجل المغوار، حاول أن يعوض حرمان سنين، أن ينتقم من ترك «فاطمة» ومن قبلها ابنة عمه، كان يرى في عشيقاته «فاطمة» و«زليخة»؛ لذا كان يغني لهن:

حبيبتي.. عشقي.. ارتعبي..

اعزفي أبهى ألحانك وأعذبها بأحضاني..

ضجي، قولي تعالَ..

اصرخي بشراييني..

بهمس ناديني وبسكون شغفك مزقيني..

عَنِّفي قلبي، العني..

بالجنون اتهميني..

أثبتي وجودك، وبنسيم عبيرك ضميني.

لا تتحجري كتمثال، وكشلال اغمريني..

اضربي، بعثري أجزائي وبمجون أحبيني..

أحتاج لأعاصير ناثرة لبعيد شوقي وحنيني..

حرب وغارات شعواء عليَّ هيا بقسوة شني..

لا أهوى حياءك.. تمردي وبشهد هواكِ غطيني.

باحث عن حب وعشق يأسرني ويفوق أنيني..

عاشق متجول في دروب الدنيا.. وهدوؤك يقتلني..

لذا حبيبتي..

اشهقي واصرخي مداوية لأنيني..

اقتربي بعشق كاسر لخداع أماني.

بعشقكِ اقتليني.

* * *

«شهرنان».. أكملي السرد الليلة عن أحبة تفرقوا، وعن أحبة معذبين لا الحب القديم بقلوبهم مات ولا هناك متسع لحب جديد، احكي وزيدي؛ فهذا الحب منه الكثير في الحياة، أخبرينا عن إحدى فتياتك واروي عمَّا يعتمر قلبها، فلعلنا نجد لها الحل اليقين.

هلت فتاة بإشراقة ضي فجر لاح، وعلى الرغم من الحزن عيناها لامعتان بضياء شمس الصباح، جلست بيننا ونظرت إلى من بهت لرؤيتها ثم تهللت أساريره بحب وانشراح، وسألها: هل سؤالي نال منكِ الاهتمام يا فاتنة؟ وهل سأجد الإجابة مفرحة كهذا المساء؟

عبست مطرقة في الأرض ثم أجابت، وبانبساط في الكلام: يا أنت، سوف أجيبك من أنت لروحي وحياتي، أنت شخص يبهجني، يسعد قلبي، يشاكس أحاسيسي بفرح وهناء، يسند روحي من استمرار سقوط وسط كآبة وحزن غير متناهيين.

أنت شبح لحبيب كنت أترجاه، رجل تمنيت وجوده في حياتي في أحد الأيام، حب بخيال يملؤه شقاوة وبراءة الأطفال، سكر وعسل يجمل حياتي، ملح يضبط طعم حياتي المر ويزينها، أنت زمان جميل ضاع من زمني لا يناسبه ولا يمكنني دمجه بحياتي لفروق التوقيت وسوء الأحوال، ضحكة صافية ملأتني يوم دخلت حياتي لتلونها بسمة نور تمثل شمسًا تزيل آهاتي، أشعة ضياء لقمر وهاج أزال ظلمة أوجاعي.

أنت وأنت.. ما زال الحديث عنك يفيض كبحر هائج مليء بالخيرات ينتظر إشارة فيض خيراته على شواطئ الحب لتنال حورياته نصيبًا مقدرًا من اللؤلؤ والمرجان، لكن للأسف عابك شيء واحد أنك لم تُنسِني حبيبي على الرغم ممَّا به وعلى الرغم من أنك هذا الإنسان.

فهو حب وغرام وعشق أنتظره، هو عمر آتٍ وأحلام وآمال عريضة أتمناها، آه منك حبيبي، على الرغم من رحيل الثقة وعلى الرغم من ضياع الأمل وعلى الرغم من افتقاد خيالات تجمع فيما بيننا، وعلى الرغم من... وعلى الرغم من... فأنا ما زلت أنثاك المحبة العاشقة الذائبة في بحر هواك، المنتظرة لعودتك لتطفئ نيران فقد وحرمان بغياب متعمد من عينيك.

حبيبي.. أحلُم بدفء يديك، حنان همساتك وكلمات غرام من شفتيك، ما زلت هنا أنتظر عودة قاتل روحي ليُنجيني من ظلمات بئر وحدة أغرق فيها بعد فراق دنياه وسماه، أنتظر من أخذ بثأر حسادي مني دون مودة أو حتى هوادة في قتلي، لم يسألني عن عذري أو يفسر لي ذنبي، ومن دون رحمة نفَّذ عملية قتلي بهدوءِ ونعومةِ حيَّة ملساء رقطاء.

حبيبي.. أصبحت أنت الغول المتغلغل في قلبي وروحي، مَن حوَّل الثلج في وجوده لدفء يعمق ليالي وأيامي، حبيبي الغالي.. آه من أوهام وظنون بها عشنا، واقع معاش أردناه وتخيلنا سبل الحصول عليه، حبيبي.. نعشق ونحب ولكن.. مَن هنا ليساعدنا؟ يا بشر.. أتدرون من هو؟! أين يسكن؟! متى ذهب؟! وهل سيعود؟!

* * *


عودة خائن

غاب «نايف» خمسة وعشرين يومًا، عاد في نوفمبر 1971 إلى لبنان، ليُخبره أحد جيرانه أن «فاطمة» زُفت ورحلت مع زوجها، غضب وثار: ما دخلي بالأمر؟ لِمَ تُخبرني؟ استشاط غضبًا حتى إنه كاد يضرب جاره، الذي لاذ بالفرار خوفًا من نوبة غضب «نايف».

ليكتشف أنه ما زال مُدلهًا في حبها، لم تنسِه حمراء الشعر الإسرائيلية ولا أخواتها الفاتنات مشاعره كما اعتقد، شعر بسكين غائر في أعماق قلبه، ما زاد سخطه على «فاطمة» ووالدها وبلاده أيضًا، وقرر الانتقام..

قاتلتي الحبيبة.. كنتُ أرى الحُبَّ ضَعْفًا!!العِشْقَ مَذَلّةً وَهَوانًا.. كُنْتُ أهْرَبُ مِنْهما وَمِنْكِ!! فَوَقَعْتُ فِي أحضانك.. وَشِرَاكِهما خِلْسَة!! اخترت التمرد يومًا.. ولوأد حنين فؤادي إليك قررت وهبه للمساكين وعابري السبيل، ويا ويلي.. حبي لك.. غطى البرية.. ولا يزال! بقلبي وروحي الكثير لك.. والكثير.

أنتِ لي حب وفناء.. بلا انتهاء، إلى مَن أستجير مِنكِ وأنا أخشى عليكِ عقاب ربي العظيم؟!

لكن ها هي الأيام مرَّت ونسي الفكرة؛ فعمله الجديد كان أهم؛ فهو ما يمنحه الأمان بالأموال الكثيرة المُغدَقة عليه، نظير خدماته الجليلة لإسرائيل.

قبل سفره، كان قد أخبر أهله أنه ذاهب لبيروت ليقضي عطلة لمدة شهر، يتقصى الأخبار حول البضائع هناك ومدى إمكانية إقناع أحد التجار ليشاركه في افتتاح محل خاص ببضاعته هنا بالجنوب.

سهَّل عليه هذا الأمر إخبارهم عند عودته بأنه قد كسب بعض المال خلال إجازته في بيروت، لكنه لم يستطِع إقناع أي تاجر بمشاركته؛ نظرًا لتخوفهم من المتاجرة في منطقة الجنوب بسبب المناوشات الدائرة دومًا بينهم وبين الإسرائيليين وتلك الغارات المستمرة عليهم.

ما أسعد والدته وإخوته أكثر أنه أخبرهم أنه ينوي إعادة بناء المنزل، ريثما يجد عروسًا تناسبه، عاد مرة أخرى إلى عمله في مكتب البريد..

شعر بغرابة كبيرة.. كيف يعود إلى هذه الدراجة المتهالكة، بعد أن رأى كل المُتع المتاحة في إسرائيل متعًا يمكنه الحصول عليها؟ ليحدث نفسه: يمكنني أن أشتري سيارة فاخرة الآن.. نعم.. سأشتري سيارة أتنقل بها، ولكن.. «زياد» أخبرني بتوخي الحذر، سيتساءل الجميع كيف جمعت كل هذه الأموال في شهر واحد..

حسنًا، سأكتفي بدراجة جديدة، لكنه فكر.. يا الله.. ربما أثار هذا ريبة رجال المقاومة، لا يهم، لنترك هذا الأمر الآن، المهم بحر الأموال الذي لن ينضب ماؤه أبدًا..

بدأ يجمع الأخبار والأسرار، تعلَّم كيف يحفظها جيدًا، وفي الليل يستغل نوم الجميع ليبدأ في بث رسائله السرية في ميعاده المحدد:

«صادقت فدائيًّا فلسطينيًّا، دعاني إلى زيارته في مخيم عين الحلوة، للعلم.. المخيم به مركز عسكري للتدريب على استخدام السلاح والقنابل وصنعها. وفيه ثلاثون شابًّا مدربًا، يحصلون على مكافآت ومواد غذائية وملبوسات، ويجهزون لعملية ضد مستعمرة جانيتا.. سأخبركم بميعاد العملية حالما أحصل عليه، هناك أيضًا عشرة آخرون ما زالوا تحت التدريب والتأهيل».

هكذا توالت رسائله إلى جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) تباعًا، وبغزارة؛ فقد كان نشطًا في جمع كل ما يمكنه الحصول عليه، كي يضمن تدفق الأموال بغزارة إليه وعدم نضوبها أبدًا.

يرسل رسائله ويذهب إلى النوم دون شعور بالذنب، لا يقلقه ضميره أبدًا، ثم يستيقظ في اليوم التالي ويخرج صباحًا حاملًا حقيبة البريد، كأنما هو شخص عادي لم يفعل شيئًا خاطئًا، ولم يتسبب في قتل الكثيرين، يربط حقيبة بريده في مقود دراجته المتهالكة، يمر بها بين القرى الحدودية بأمان؛ فالدراجة هي جواز مروره الآمن ليستطيع التقاط الأخبار والتلصص دون إثارة ريبة أي شخص، يراقب تحركات الفدائيين وأعدادهم وعِددهم، إمكاناتهم واستعداداتهم، ليبلغها مساءً لقادته من رجال الموساد.

أرقه الوحيد كان سيطرة «فاطمة» على أحلامه، حتى إنه حَلُمَ بها ليالي كثيرة، تأتيه باكية معتذرة تُسمعه أصفى وأنقى كلمات الحب، تطلب منه العودة إليها فستهرب معه ويتزوجان:

«نايف».. حبيبي..

أخبرني.. ما سبيل نسيانك؟

وكيف أعتادُ غيابك؟ أتدري؟

لأغفو تشاكس قلبي بكفيك..

تلمس شعري فتحتويني وأحتويك..

أحلامي الوردية تفيق بهمساتك..

وبهمس عطرك أهيم بواحاتك..

يا حبي..

من نار حنقي أقسمُ بشر رهيب..

والله لأذيقه وأسوي به كل ما هو عجيب..

وتمضي أيام وليالٍ بإحساس مرير..

وأفقد نفسي وأظل لعينيك أسيرة..

وضعفت فبقلبي تجبر غرامك..

يا مَن أهوى وأعشق.. أريد هيامك..

آآآه.. حبك جمر متقد ومستعر..

عني بعيد وللقلب مستعمر..

ارحم يا هواي عقلي وجنوني..

فحبك يغتال أماني وسكوني..

يا آدمي..

أغثني من سطو شمسك على أيامي..

ومن قمر أناجيه علَّه يخفف هيامي..

أذهب علِّي أفيق بمعاناة حرمانك..

يا محتل أحلامي الساكنة بمكانك..

أرحل وحبك دون عزاء..

بحياتك شمعة مصيري فناء..

وقبل الرحيل.. أخبرني.. ما سبيل نسيانك؟

وكيف أعتاد غيابك؟

أُحبك «نايف».

* * *

أوهامه كانت دومًا سيدة الموقف فيما يخص «فاطمة»، تعايش معها في الخيال وكأنما هي معه فعليًّا، تناسى كل ما حدث، واقتنع بفكرة أنه مجرد أن يجمع ما يكفي، فيمكنه الذهاب إليها وجعلها تترك زوجها لأجله. ستهرب معه، بكامل إرادتها.

لذا كان يتخيلها أمامه، يحكي لها أحداث يومه كاملة، إلا تفاصيل خيانته وأنه جاسوس؛ فهو لا يريدها أن تخاف منه أو تتركه، كانت «فاطمة» تغني له وتشاكسه بأنوثة، تسمعه أشهى الكلمات، تتغنج وتأتيه مُغنية:

الجنون فنون وأنا سيدي أم الفنون..

بك فارسي أسيرة العيون.. فأنا بكَ مفتونة..

بغرام سحر جفونك صرت مجنونة..

كان قرار حبك القلب وحده عنه مسئول..

عقلي متغرب ووسط ظنون الخوف معزول..

الروح تناجي بظلام الليل دون خمول..

فالكل يلوم ويعاتب كأنني مجنونة مأفونة..

آه يا شفرة روحي الحالمة وبك متكسرة..

ترس الحياة الضابط لأيامي كلها الهائمة..

هيا «نايف» اصرخ بهم قل لهم: ابتعدوا..

«نايف».. حياتي صارت ببعدك مضطربة..

بغيابك باتت الروح مقهورة معيبة..

يا فراق ملأ الأرجاء برحيق الغيبوبة..

سأترك عالمي وأنصرف..

لأعود لمن تركته في يوم كنت به مغيبة..

«نايف».. إذا تركتني وحيدة..

سأعيش الواقع بمرارته..

وأترك كل ما أنا له مسحوبة مسحورة..

فربما استطعت العيش دونك ودون روحي..

في هذه الدنيا مأسورة مسجونة.

* * *

«شهرنان».. استحضري أرواح المحبين وهلم قصي علينا إحدى الحكايات، أو مارسي هوايتك في جمع الأصداف والمحار وأرسلي إلينا روحًا محبة، اجعليها تحكي ما مرت به في مغامرة الحب والهوى، ولتخبرنا ما نهاية ما عاشته ورأته في حكاية غرامها.

هَلَّ رجل أبسط ما يقال عنه كوصف إنه عاقل ويبدو عليه الاتزان: ملامح شرقية، أسمر القسمات، تسبقه رائحة المسك والعنبر، لكن تفضحه عينان معذبتان حزينتا اللمحات.

قال: سأخبركم عن حبيب كان لي شريك حياة وأحلام، لكنه أتقن الخداع واللعب مستخدمًا سحر ودلال الكلمات، قتلني واغتال حبي باحتراف، رمى الخُدع وألاعيب الهوى والغرام لغيري متسليًا، ثم أتى مدعيًا حبي، وأنني الوحيد الساكن في الروح والخيال.

ابتعدت، هجرت نعم، فلقد نالني التعب من اللهث خلف أوهام حب وعشق عنكبوتي القسمات، شبكة خانقة وكأنما صرت له عدوًّا يبتغي منه الانتقام.

فيا من ادعيت الموت حبًّا، وأن قتلك كان بيد الحبيب والوسيلة فراق وهجر، قُلت: غدر بقلبك المغرم صبابة، لم يراعِ فيك أي كرامة، أرسلك لعالم أشباح معذبة مكبلًا بأصفاد الرفض والنكران.

اسمعني جيدًا يا محترف البكاء، ما عاد الصبر يحتمل منك الكذب في كل حال وآن، أنت الغادر القاتل للأماني، نعم أنت من بدأ بمد حبال الفراق وهجر وبعاد مليء بغدر ولؤم في كل الثكنات، والآن تلوم وتلقي الاتهامات! تقول: فارقني، هجرني، عذبني.. يا هذا، لِمَ لا تتحمل من أفعالك التبعات؟!

أنت، نعم أنت من جعلني أفر متشردًا في البلاد، وأنت المسئول عن كل هذا الغياب، وعن اختفاء الفرحة من القلوب، وعن سلب بهجة الأعياد بالعيون، تعذيب روح وقلب المحبوب، وأنت وحدك السبب في عذابك الحالي وتفتيت قلب حبيبك.

لِمَ لا تتقي الله فيما تفعل وتقول؟! أستهوتك الشكوى أم أنك عن عالم الحب مغيب؟! أشُلت أحاسيسك وبُترت مشاعرك وضاعت روحك وسط الظلام؟! أخبر حبيبك المعذب عمَّا تفعل، من هذا المسخ الماثل وليس فيه منك غير هيكل خارجي وسحر الكلمات؟!

يا هذا.. معًا مررنا بالكثير، مسافة كبيرة جمعتنا تتبعها مسافات وأوقات، ذاب خلالها القلب هيامًا بنبضات كلماتنا، وهدأ العقل بوجودك ولقَّبكَ حبيبًا، آه ثم آه منك ومن الحياة، ذاك الكائن غير مستقر الأحداث.

هل اتفقتما معًا عليَّ لإجباري على فعل أمور خارج نطاق إرادتي؟! فأنت من جعلني أختار الابتعاد عنك وعن مجال عالمنا الساحر؛ لذا أرجو منك السماح؛ فأنا لم أعُد أحتمل العتاب ولا الملام، ولن أطلب العفو والغفران، فأنت يا شبح حبيب سبب هذه المأساة.

* * *


إلى العمل

تعلم «نايف» كيف يقترب من الجميع، نساء ورجالًا، حتى الأطفال تعلم أن يُحضر لهم حلوى ويوزعها، وفي أثناء تبادل نكاته معهم يجمع مزيدًا من الأخبار، ألم يخبرونا قديمًا أن سر البيت مع أصغر من فيه؟!

كثَّف أيضًا من زياراته لمخيمات الفلسطينيين في الجنوب –الرشيدية والبرج الشمالي والبص في صور، وعين الحلوة في صيدا - لم يترك مكانًا يمكِّنه من اقتناص الأموال، أقصد الأخبار، إلا وذهب إليه يعسّ، لم يعد يردعه رادع أو يمنعه مانع، فها هي الأيام مرت دون أن يشك به أحد، ما زاد ثقته في قدرته على اجتياز أي شيء يريده، والحصول على ما يريده من معلومات.

حتى بعد أن لاحظ عن قرب، وبعينيه، مظاهر الحياة المعيشية الصعبة بالمخيمات، وكيف يعيشون على الكفاف داخل أعشاش من ورق وخشب، كيف يعانون الزحام والبطالة والمرض، تعزلهم عن عالم الحياة الأسوار والمآسي ورائحة موت ذويهم وأحبتهم فداء لوطن مسلوب.. لم يهتز جفنه لرؤية عيون بريئة قُتل ذووها، أو أُخذوا ليرموا في غياهب سجون الاحتلال، لم يمنعه شيء عن ضخ مزيد من الأخبار وقتل مزيد من الآباء، بل وتسليط الضوء على أماكن يمكن قصفها للانتقام والرد على ما يفعله بهم الفلسطينيون من سُكان المخيمات، تحجرت مشاعره كما حجر صوان.

بل هكذا نظلم الحجر الصوان؛ فهو يمكن أن تنبت من خلاله زهور وورود جميلة يرويها ماء الأمطار، أما «نايف»، ذاك الخائن، فمن يروي قلبه الحالك الظلمة؟ فقلبه مات دون أن يُشيعه إنسان.

دُفن بأرض خربة، وسط قمامة شهوات متدنية، لم يعد يهمه غير الثراء وتجميع المال، أيًّا ما كان ثمن ذلك، وبمن يُضحي ليحصل عليه، لطخَ شرفه بتراب الأعداء، داس على كرامته بحذاء ذُل خيانة دون حياء.

باع نفسه للشيطان، مقابل بضعة ليرات، كما باع يهوذا سيدنا عيسى بدراهم معدودة، لكن يهوذا شنق نفسه، فهل سيفعلها «نايف»؟ لا أحد يعلم ما ستجلبه الأيام.

إمعانًا في الخيانة، كان يُشارك أحيانًا في محاولات إنقاذ المصابين، دفن من استُشهد جرَّاء القصف الإسرائيلي الغاشم على المخيمات، يمنح القليل من الأموال متعللًا بضعف إمكاناته وإلا كان منح المقاومة وأُسر الشهداء أكثر، لتلميع صورته، ليكون مقربًا من مصدر معلوماته وأخباره، واستمر في بث رسائله:

ثلاثة يستعدون للتسلل عبر المنطقة الشرقية، قبل الفجر بساعة، وستكون العملية تفجيرية.

هناك لنش مطاطي يستعد للإبحار به أربعة: فلسطينيان ولبناني وأردني، الهدف غير معلن بعد التوقيت فجرًا.

قبضوا على «سعدون» في قلعة الشقيف، ما زال رهن التحقيق.

* * *

«شهرنان».. غني لنا عن الحب والصفاء، عن مناوشات بين الأحبة؛ فقد تعبنا من قصص الفراق، غني عن حب خيال يداعب الأكوان خلف حدود عالمنا المعاق بأفكاره، أخبرينا عن أغنية بها عاشقة لحبيب تراه جمالًا لا ألمًا يتعبها، وخبِّرينا عن وفاق موجود بين العشاق.

لتتحدث فتاة قائلة: ستُخبركم «شهرنان» يا رفاق عن قصتي أنا وقصة حبيبي الملاك، آه منه، يا منى القلب لك مني سلام وتحية، أقدمها لصباحك ومسائك نجومًا درية، أفرشها بسمائك لتنير السحب بوردات صيفية.

بقبلات يدي أزيل خريف أحزانك، وببسماتي أمحو شتاء أوجاعك، وبنكاتي أزين ربيع عمرك الباهي، وبغمزي أثير ضحكاتك الشهية.

لتطلق نظرات عينيك بنصف براءة تداعبني، وبلمسات حانية تلاعب شعراتي المخفية وراء أُذني، وبصوت حنون تُسمعني أشجى قصائدك النزارية، تهدهد لخيالي وتحنو على كلماتي، لتكبر وتترعرع قصائد حبي فيك رومانية النغمات.

يا عزة نفسي.. أفديك بخيالي المتكون بوجودك في حياتي، الضائع من غيرك أنت يا أغلى ما لديَّ، أموت ولا أرى يومًا صوتك الشاكي، أموت ولا ألمس نظراتك التائهة في هذي الدنيا.

أبيعك فرحي وهنائي والثمن غالٍ باهظ، هو حفنة من تراب رجليك، نظرة رضا عن حالك وحال كل ما تراه يا ضياء عينيَّ، يا بسمة روحي وربيع عمري، يا تعويض القدر لكل أيامي ولياليَّ.

يا ساحر التكوين، أعشقك براءة لعمري، صفاء روح ونقاء لقلبي، تملأ براحة بال وجمال عينيَّ، معك أعيش داخل شعاب أحلامي أميرة، وبين دفات مركبنا الساحر أرى ما أفتقده بواقعي متجسدًا رؤية عين.

معك يتحول نومي إلى أغنية من حورية أحلام، تمنحني صحبتك عصا وكرة بلور لأحقق غاياتي، وبين يديك أتعلم تمتمة تعاويذ سحرية تنقلني معك بين مجرات الأحلام.

لنشكل أوبرا تروي عن عالم أحلامنا وآمالنا وما نطمح إليه، ونصمم رقصات باليه تسرقنا ببراءة خيال حركاتها، وعلى مسرح الحياة نعلم بني آدم، هؤلاء البشر العنيدين، معنى أسمى للحب.

حب الخير ومساعدة الغير دون هدف يبرز كتشوه قصر بطراز عباسي المعمار بخشب يتنفس سريالية.

* * *


رسائل.. رسائل

عشرات الرسائل بثها نايف المصطفى إلى الموساد، ما أفشل الكثير من عمليات الفدائيين، سواء بالقبض عليهم أو بقتلهم عند محاولة اجتياز الحدود.

كانت زياراته متتالية للمدن اللبنانية، خاصة مدن الجنوب، وفي إحدى زياراته لمدينة صيدا، في سبتمبر 1972، تقابل، في طريق البوليفار القريب من البحر مباشرة، بفتاة عرجاء ظنها تتسول.

لمح فيها جمالًا هادئًا جذبه إليها، تخيلها تناديه بنظراتها، تتغنج وتشير بدلال لتثيره، حتى إنه في لمحة عين تخيلها مرتدية فستانًا أحمر عاري الصدر والكتفين يُظهر ساقين كلوح بنور، يُظهر قسمات جسد ناري، أثاره وزاد إثارته ما تخيلها تُسمعه إياه بصوت مبحوح وهي تدور حوله بهدوء وخمول مقصود..

يا أنت.. أراك وسيمًا تتبغدد، على قلبي تتآمر بتودد، وعلى حسنك يا رجل تتمرد وتُظهر جفاء كخداع متجرد، معجبة بك.. أحبك فلا تستدعِ عدائي، أعجبك أعلم فلا تخدع ذكائي..

استغِل دهائي لأني أرغبك وأتمناك، حتى إني استبدلت بدوائي هواك، لا تلقِ كلمات جارحة، وتُشِر إشارات ذابحة، فحبك فعلًا قد سيطر، والشوق بقلبي قد سُطِّر، تعال، بسواك أبدًا لن أقبل، هيا لا تتأخر، هلم أقبل.. ومن أنهاري تعالَ لتنهل..

تحيطني أشياء هوجاء كلها صفات سوداء، وفي حبك صرت أسيرة مشاعر بيضاء، تأخذني من دنيا البشر غير الأسوياء، لتزرعني وردة بجنة حبك بكل صفاء، تسقيني عطرك لأظهر للعالم زهرة حمراء، تنير الدنيا بجمال صافٍ ينير الكون ببهاء، ويغير العشاق من حب شهي الأفعال دون حياء.

تشجَّع بظنونه هذه واقترب.. أعطاها بضعة ليرات، ثم سألها: هل أنتِ فلسطينية؟

- نعم.

- لمَ تتجولين هكذا؟ تبدين صغيرة السن.. أين أبوكِ؟ ولِمَ تعرجين؟

أجابته: نعم أنا في الرابعة عشرة من عمري، وأبي فقد بصره وإحدى يديه في انفجار عبوة ناسفة، وأعرجُ لأنني كُنت معه وسقطت سقطة مريعة على الأرض أثرت على ساقي.

- ماذا؟ هل حاولتما الاقتراب من مكان الفدائيين؟

- لا سيدي، بل كان يعدها، هو كان في فريق المقاومة، ولي شقيق تطوع في صفوف المقاومة اختفت أخباره منذ سنة، نُقيم بمخيم عين الحلوة ونشارك الفدائيين الحياة ذاتها.

- الحياة قاسية خاصة إنني أعول عائلتي بعد وفاة والدي.

- هي الحياة سيدي، والحمد لله تبدو ميسور الحال، هنيئًا لك.

- هل يتكفل زملاء أبيكِ بإعالتكما؟

- رفضنا.. نستطيع التعامل مع الحياة وإعالة أنفسنا، لديهم من هو أهم منا.

- حسنًا إذًا، ماذا لو أعطيتك هذه الأموال كلها - 50 ليرة؟

أجابته بحيرة: ولِمَ هذا؟

أشار إلى جسدها، ونظر إليها نظرة ذئب جائع، حاول هذا البائس أن يراودها عن نفسها، فما كان منها إلا أن نظرت إليه شزرًا بغضب بركان على وشك الانفجار، رفضت وهمَّت بالانصراف، ليرتكب كبرى حماقاته..

استهان بكل ما قصَّته عليه، عن والدها وأخيها، وبرفضها بيع جسدها، اعتقد أنها مثله يمكن أن تبيع الدنيا نظير أموال أكثر قد يعرضها عليها، لم يراعِ حتى عرجها ليُدرك أنه بسبب من يُساعدهم ويمدهم بالأخبار.. ناداها: انتظري.

* * *

«شهرنان».. قصتي ليست مع الحبيب، هي مع صديق كان لي الحياة، امنحيني قليلًا من وقتك لأرسل إليه رسالتي..

«شهرنان»: تفضلي..

الصديقة: أهلًا يا من كنت صديقي، من دوني أمرتاح وسعيد لحالك، تصول وتجول بالأرجاء لتشكو سوء صنيعي لجميلك، تنعتني بأسوأ صفة وبأني شيطان هالك قد نالك؟

قدمت لك حبًّا وجمالًا دون مصلحة، وأهديتني رصاصات الخسة وشرارة، أعترف بجميل صنيعك وأذكره فترسل بحقارة قيل وقال وقلوبًا غدارة، أراك كبيرًا مسئولًا فتصدمني بصغير أفعالك فرحًا بالناس المبهورة.

يشيب الرأس لتطاير نيران الغدر من عينيك، على الرغم من صفائها وبراءتها، يتفتت القلب قطعًا فزعًا من روح عشقت الخبث، دنوت بهدوء وذكاء لتقلب حياتي دون رجوع للدين وحيائه.

يومًا قرب أو بعد ستذكُرني، ستعلم أني لم أكن بحياتك يومًا غدارة على الرغم من خياناتك، وتدرك أني جاهدة حاولت مساعدتك لترقى بأفكارك وملكاتك..

حاولت معكَ لتجد الصفاء والجمال والحب بنقاء في الحياة، حاولت نجدتك من خوف سيطر على قلبك وروحك بضياع كل ما هو جميل وراقٍ بهذه الدنيا..

عش الحياة، انسَ وجودي، ويومًا ما ستذكر أيامي، قد تندم لضياع قلب أحبك على الرغم من تضخيمك لعيوبي وإهانتك، أو قد تكمل، كما أنت معتاد، حياتك وسط شكوك من بشر وحياة، جرحت القلب فآه بمقدار كسرة قلبي وبحجم حرقة روحي، آه بوزن ما ضاع من عقلي فداء صداقة بالية، آه ثم آه منك صديقي.

* * *


الفصل الرابع- مبادلة خاسرة

«نايف»: انتظري.. خذي هذه (قدم لها مائة ليرة)، أخبريني بأسماء الفدائيين في مخيمك «عين الحلوة»، عَلِّي أعرف أحدهم وأذهب إليه لتقديم بعض المساعدة.

وكانت هذه غلطته المدمرة والقاتلة!!

لمَ الأسماء؟! يمكنك الذهاب وحدك، ثم أي مساعدة تقصد؟!

«نايف»: مجرد فضول، أنا تاجر ويمكنني إفادتهم، هيا أخبريني ولكِ عندي مكافأة كبيرة، عندما أتفق معهم..

ذُهلت الفتاة وشعرت بالريبة وأنها تحادث شخصًا به شيء غير طبيعي، قد يكون خائنًا، يريد شراءها برخيص الأثمان لتبيع ما هو غالٍ وثمين، فزعت لكنها تصنَّعت الهدوء والتفكير.

الفتاة: أأأ.. تقصد أأأ.. وانتهزت الفرصة لتتلفت يمينًا ويسارًا ممسكة برأسها وكأنما تتذكر، حتى لمحت سيارة عسكرية تقترب، فصرخت بكل قوتها:

جاسوس، جاسوس..

فزع «نايف» وانطلق كصاروخ أرض جو، تخلت عنه شجاعته وجرأته المزيفتان وتملَّكه رعب قاتل، فاستمر في العدْو، جُل ما يُفكر فيه: هذه حياتك «نايف» فانجُ بها..

* * *

«شهرنان».. يا غنوة بين كل الروايات، يا قصة حلوة تتغنى بها الفتيات والأولاد، تعالي واحكي عنَّا، غني أغنيتي الساكنة فيَّ، عشقت وآه من وجع خطواته على قلبي الساهر المتيَّم للغريب..

حبيبي ذوَّبني وتركني أعاني سهر ليلي وسهادي.. آه يا ليل، بعاده وصدُّه أوجعا قلبي، يا عمر ضاع في ثانية يوم وجدت حبك ساكنًا داخلي، قلبي فداؤه يغني مواويل تهدم جبالًا ولكنها لا تستطيع إحضاره بقربي.

آه يا ليلي.. يا «شهرنان».. قلبي عاشق لحب وقسوة بقرب الحبيب، حبيبي جنني وعندما طلبت منه الحنان قائلة: يا طب عينيَّ ضمني لأنفاسك، داوِني بعطر روحك يا كلي أنا. قال لي: أنا عنيد وقلبي صعب الإمساك، حبي أنتِ وأنا هنا أعيش ملكًا في البعاد. «شهرنان».. غني حكايتي وأعلني إذا فشلتِ في إرجاعه أن عشقه يورث قلبي إرهاقًا خانقًا لعمري.

أخبريه أن الحب حنان، أنه ليس بعذاب، قُولي له: حبيبي هو وحبيبته أنا، إذًا لِمَ البعاد والعذاب والفرقة التي لا لزوم لها إلا العناد الذي ليس له دواء، أعلميه أنه بسبب بعاده سأتركه وقلبي لنبدأ من جديد.

أخبريه أني من رحم أيامي سأولد من جديد، من بين أشياء مؤرقة معه سأكون هنا من جديد، سأبدع وأنطلق وأعيش، سأكون أنا، لن أموت ولن أقيَّد بأغلال حبه من جديد.

سأبدأ بنقاء لأفرح قلبي، أين سأذهب؟ وإلى أين سأصل؟ لا يهم، من جرحني؟ ومن أتعبني؟ من خنقني؟ ومن تركني؟ من سلبني حق الحياة وقتلني؟ لا يهم، كل شيء انتهى، ذهب بعيدًا جدًّا عن مجال أفكاري وحياتي، لا يهمني ولم يعد يفرق معي.

قررت أن أسلك درب نسيان حبيبي وأن أحب من جديد، أفرح وأُدخل قلبي قصة حب بشروط تخصني أنا، وفق أحكامي وقواعدي المنظمة، وكأني فرعون لمصر أحب بأمري وبإشارتي يا «شهرنان»، سأختار من أنصِّبه على قلبي سلطان الغرام.

سأخبره أنه هو سيد الأحداث بحياتي، سيد الأيام، سيد قلبي الغالي الحبيب، وبأنه سيد زماني الحبيب.

سأترك حبًّا يعشق البعاد كما يريد، لقد مللت السعي الحثيث خلف حب يهوى الفراق، «شهرنان».. أعلني للدنيا أني من رحم أيامي سأولد بحب جديد.

* * *

 

رحلة هروب

في أثناء هربه وجد أنقاض مسرح قديم، فدخل إليه مسرعًا واختبأ بمكان ناءٍ بعيدًا عن الباب، بعد أن تملَّكه التعب، وأفقده التوترُ القدرةَ على التحكم بثبات حركاته، استغرب المكان؛ فهو على الرغم من عشقه للسينما والتمثيل لم يدخل قاعة مسرح من قبل، لم يحاول حتى فعل هذا، والآن هو مختبئ بين أنقاض مسرح.

أمعن النظر كي يحاول تجميع صورة لما حوله في ظل ظلام يلف أرجاء المكان، أخرج قداحته، صحيح هو لا يدخن، لكنه يحب الاحتفاظ بها وبعلبة السجائر تحسبًا لأي ظرف قد يمر به، خاصة أنه يستخدمها أحيانًا للتقرب لأحد الأشخاص لاستقاء معلومات عن الفدائيين الفلسطينيين.

سمع وقع أقدام بالخارج فأطفأ قداحة السجائر وجمد في مكانه، ثبُتَ وتجمد كميت، كان يسمع دقات قلبه كما لو كانت دقات طبول أفريقية يوم عرس الزعيم، حدَّث نفسه:

آه يا «زياد»!! أين أنت الآن لتنقذني؟ لكن كلا، لا أريده أن يعلم فيطردني من جنتي ونعيمي المستمر، لن أخبره أني قد مررت بهذه التجربة، سأذهب إلى البيت وأدَّعي المرض كي يكون هناك مبرر لاختفائي أسبوعًا على الأقل، ثم أعود إلى عملي وأتحجج بأي مبرر لأسافر خارج لبنان كلها، يمكنني السفر إلى تركيا، أختفي شهرًا وسط ملذاتها، عندما أعود ستكون الأوضاع قد هدأت ومر الأمر بسلام..

نعم.. نعم، هذا هو التفكير الصائب، يا الله، ماذا سأفعل إذا انكشف أمري وقُبض عليَّ؟! لن أسمح بحدوث هذا، فستكون فضيحة بكل الأحوال..

ما هذا السكون القاتل؟!

حدث نفسه بالكثير خلال فترة اختبائه، حتى مرت ثلاث ساعات وهو ثابت لا يتحرك من مكانه، نظر حوله للمرة الألف ثم تسمَّع جيدًا فلم يسمع أي شيء سوى صوت أنفاسه المتلاحقة..

حسنًا، تبدو الأجواء بالخارج الآن هادئة، بالتأكيد فقدوا الأمل في العثور عليَّ، كانت فكرة الاختباء هنا فكرة عبقرية، آه يا ولد، يا لك من فنان، أنت أستاذ الاختفاء والدهاء..

سأُخبر «زياد» بالأمر وأطلب زيادة أجري نظير المخاطر التي أتعرض لها، وسأحمِّله تكاليف سفري إلى تركيا للاستجمام كتعويض عمَّا مررت به.

شعر بالطمأنينة أخيرًا وهدأت معاول دقات قلبه، خرج متسحِّبًا وكأن شيئًا لم يكن، كي ينطلق إلى منزله يلتمس بعض الأمان في حجرته وعلى سريره تحديدًا، أو حتى ليختبئ قليلًا ويتوارى عن الأنظار في أي مكان آخر، كي يُفكر بهدوء فيما يُمكنه فعله مستقبلًا، فيجب ألَّا يعرِّض نفسه لهذا الموقف ثانية.

سار متلفتًا يمينًا ويسارًا كما لص قاتل، حتى وصل إلى المنطقة الواقعة بين شركة الداتسون والتيرو بطريق صيدا القديم، ليسمع صوتًا يرعد فجأة: ها هو.. اقبضوا عليه.

لم يتخيَّل أنهم أدركوا بحسهم العسكري أنه بالتأكيد لم يخرج من المنطقة، وأنه اختفى في أحد الأماكن القريبة؛ لذا داروا بسياراتهم في حلقات حول المنطقة انتظارًا لخروجه أو ظهوره من مكمنه.

انقضَّ عليه رجلان وكبلاه، فيما انهال عليه آخران ركلًا وضربًا: يا خائن.. يا لص.

وهو يحاول أن يدافع عن نفسه ليتقي شر ضرباتهما الموجعة، صارخًا: من أنتما؟ لا أعرف لِمَ تفعلان بي هذا؟ أنا رجل بريء لم أفعل شيئًا!! بالله عليكما اتركاني لشأني.. أنا موظف بريد مسكين لا دخل لي بهلوسة تلك الفتاة، إنها مجنونة تنتقم مني لأنني رفضت أن أدفع لها المبلغ الذي طلبته لتبيت معي الليلة.

كان ينظر شزرًا في أثناء هذا كله إلى الفتاة وكأنما يتوعدها بشر قتلة؛ فهي من قلبت حياته رأسًا على عقب، لِمَ لم تأخذ الأموال وتسلمه نفسها وقليلًا من المعلومات؟! فتاة غبية!!

لم يتركوا له المجال للفرار، دفعوا به إلى السيارة الجيب، ليشاهد عن قرب الفتاة تجلس مزهوة فرحة بما فعلت، واثقة تنظر إليه بشموخ؛ فلقد أبلغت عن خائن.

أخذوه إلى معسكر فلسطيني خاص بهم بطريق «دير قانون البحر»، وبتفتيشه وجدوا بين طيات ملابسه رسومًا كروكية بخط اليد لمواقع فلسطينية في مثلث الراهبات، وشارع رياض الصلح، ورسومًا أخرى لأهم المفارق الحيوية بصيدا، وبعض الرسوم لمناطق الأحراش على الحدود بعلامات بارزة على بعض المناطق.

تركوه ملقى بإحدى الحجرات الضيقة على الأرض، كانت الرائحة نتنة.. ظل هكذا يومين، ليراقبوه من إحدى الفتحات المخفية بالحائط، في محاولة لاكتشاف شخصيته وتركيبة نفسيته، التي كانت في أسوأ حالاتها.

كان مع كل دقة محيطة يتوقع الموت، وعندما يُفتح باب الحجرة يتوقع الضرب، كم كان يبلغ رعبه مداه عند إدخال طبق الخبز الجاف وكوب الماء؛ فقد كان يتوقع خلطهم السم بالطعام ليقتلوه دون تعب..

يبكي ويبكي ليشعر بمدى ضعفه، لم يعد يدري ماذا سيحدث؛ فكل ما يُفكر فيه هو موته بمختلف الأشكال والألوان.

تذكر والدته وإخوته: كم يعانون الآن؟! يا الله.. ماذا فعل؟ لقد وضع رأس والده المتوفى منذ سنوات في التراب، كيف يتعامل أهله مع الجيران؟ كيف يعيشون الآن يا تُرى؟ لقد جلب لهم العار.. كم تمنى لو صدقت كلمات «زياد» ووعوده بإنقاذه إذا حدث له مكروه، أين هو الآن؟ هل سيحاول إنقاذه كما وعده؟!

ليُطمئن نفسه ويحثَّها على التماسك، قال: لن أسمح لهم بإثبات شيء عليَّ، لن أسلم لهم رقبتي.. سأماطل حتى يأتي «زياد» ويُخرجني من هنا، لن أدعهم يقضون عليَّ فأنا الأذكى، وسأخرج من هذه الأزمة سالمًا.

لتعود ذكرى «فاطمة» تطوف بخياله من جديد: يا ترى، هل تذكرني؟ ماذا تقول عني الآن؟!

هل أدركت أنها سبب كل ما أمر به؟

آه فاطمتي..

أنتِ الحياة أم موت انجلى؟ حبك جنتي وناري في العلا، بين أحضان خيالك سفري ورحالي، قلبك أشتهي ليكون بيتي العالي، يا سري الحبيب ومالكة لأحلامي، أمن يسكنني في صحوي ومنامي، اسمكِ لا يزال دواء روحي وطهر غنائي، وستظلين حُلمًا أثيرًا..

لكِ مني حبي ووفائي، سيمر الزمان وسنظل أحبة بخفاء؛ لأنك استبحتِ دماء هواي بالجفاء، وفارقتِني.

* * *

«شهرنان».. صوت صاخب ينادي.. ثم تندفع صبية مليحة لتعترف.. مندملة روحي على حب تشعب في ثنايا خلاياي كقطرات مطر ندي يسقي الأرض العطشى منذ قرون، حب الواقع وتشابك خيال وأحلام في دنيا الآه..

عشق حياة وصمود وخطوط حماية وأمان من تيه الأوهام، حب لرجل الحكايات الفارهة بسمته، الناقل لعدوى الحب بتفاؤل على الرغم من آهات الأيام، حرارة حب ودفء قلب يغطي أنثاه برموش العين الناعسة، ويضم الروح بكف ما بين ليونة حب وقسوة حياة عُجنت لتثير اللمسات هيام وجد وغرامًا متناهيًا.

حب يخبئ قصص وروايات أعاجيب، عالم خفي سماؤه قناديل حب ونجوم بسماته أمطار زخات ماس ولؤلؤ فواح لعطور غرام، سحاباته صافية زاهية مزينة بالنرجس وقليل من قرنفل ينعش القلب الملتاع، غيماته تنذر بتصالح أحبة وهيام يغطي الأجواء بمرح وغناء، بحر موج بزبد العسل، وماؤه قطر لورد جوري مُشَهٍّ أخذ بمتعته الأنفاس، عالم بحيراته فل وياسمين مقطر، حتى أرضه ناعمة بها شجر البلوط بيوت غناء تتزين بحبال نسيم منعش مرطب بذرات ذهب وفضة فيحاء.

عالم خيال صافٍ يحوي من البشر الأنقى والأصفى والأكثر حبًّا لأحبته ولغيره من بشر الدنيا، عالم بشره يعيشون بمدينه فضلى من وحي خيال العشاق.

طاقتها حب ونيرانها مشاعر وأحاسيس متبادلة، بشر يسقون العالم أجمع الأمل في غد أفضل ومستقبل أنقى تحكمه شرائع ودساتير ربانية لا تشوبها دسائس ومكائد بني الإنسان، لا مصالح ولا أهداف مخفية، الهدف الأسمى هو رفعة وعلو الشأن.

قضيته خير الإنسان وحقه في عالم صنع من وحي خيال العشاق أحبة وحياة قبل الموت الأكبر ليعيشوا حياة أخرى أجمل مما يوفيه الوصف في جنات عدن ورضوان الحنان المنان، الله.

* * *


تحقيق وتغابٍ

أحضروا «نايف» في اليوم الثالث، وتُرك في حجرة صغيرة لثلاث ساعات دون أن يحاول أي شخص الاقتراب منه أو الحديث إليه.

أربكه هذا كثيرًا وأثار أعصابه بشدة، لكنه طمأن نفسه أنهم يفعلون ذلك لأنهم لا يجدون ما يدينه، كان مقتنعًا كليًّا بأنه سيخرج من هذا الأمر سالمًا، وسيطالب برد شرف عمَّا لحقه منهم من إهانة بهذا الاتهام الشنيع، ما كان يصبِّره أنه لا أحد من ذويه قد جاء لزيارته، ما يعني أنهم لم ينشروا الخبر، ولن يعرف أهله وجيرانه أنه مسجون بتهمه الجاسوسية.

لا يعلمون مَن يتعاملون معه، سيجعلهم يندمون على فعلتهم هذه.. لكنه لا يعلم لِمَ معدته تصرخ هكذا ويشعر بضعف أنفاسه وكأنما سيخنقه شبح مجهول.

كانت الغرفة لا تحتوي إلا على طاولة مربعة الشكل وكرسيين من الخشب شديدي التهالك، ولا توجد نوافذ، فقط الباب هو مدخل الغرفة الوحيد، ينيرها مصباح واحد كبير ذو وهج شديد الحمرة، يثير رعبه، فجأة فُتح الباب بعنف شديد ليدخل اثنان يبدوان شديدي الغلظة يرتديان ملابس المقاومة المميزة، يخفيان وجهيهما، ما يجعلهما بالنسبة له شديدي الرعب، لكنه ظل يدعي التماسك؛ فهو لن يترك المجال لأي هفوة أو خطأ يحدث فيقضي على حياته، بدآ التحقيق معه، وحاول قدر استطاعته أن يناور ويتغابى ليهرب من العقاب.

ظل أسبوعًا يناور ويهرب ويتغابى، في كل مرة يتركانه ويودعانه محبسه دون نتيجة مرجوة من التحقيق، دون أن يحاولا حتى تعذيبه؛ فقد أدركا جيدًا أنه سيُخرج ما بجعبته معترفًا بكل شيء بقليل من الصبر دون عنف، يدركان مدى جُبنه وتصنُّعه الشجاعة، تعذيبه هو تركه مع نفسه دون صب نيران غضبهما عليه بإيذاء جسدي.

يكفيه أصوات المعذبين بالغرف المجاورة له، أصوات ساجنيه الصارخة بين حين وآخر في زملاء المحبس بالجوار، وجبته العفنة منتصف اليوم وتلك الرشفات القليلة التي يدفعونها إليه دفعًا.

شعر أنهم يريدون قتله جوعًا، ونكاية بهم التهم ما قدموه، فلن يموت الآن، ما زالت أمامه الحياة طويلة يريد الاستمتاع بها، سيخرج وسيقضي يوم مولده القادم في فيينا ليعوِّض ما يمر به الآن.

مر يومان وبدأ يشعر بالتعب، لكنه تماسك، ما يؤرقه تلك الكوابيس المرعبة؛ حيث يشاهد نفسه مسحولًا على الأرض يتمزَّق جلده ويُسلخ، يرميه الصبية بالطوب والحجارة، مهللين: الموت للخائن العميل.. اذبحوه.. أحرقوه، ليستيقظ فزعًا في اللحظة التي يوقفونه فيها مصوبين فوهات مسدساتهم نحوه.

اليوم العاشر لم يمر عليه إلا وهو منهار نفسيًّا وعصبيًّا، أتت النهاية أسرع مما كان يتمنى، أعصابه المتوترة لم تحتمل تلك الخبطات المُهددة، ولا تلك النظرات المتوعدة، ولا هذه الكوابيس المستمرة، واعترف بعمالته للموساد، وأرشد عن الجهاز اللاسلكي الذي يَبُثُّ منه رسائله.

ذهبوا إلى منزله ليقلبوه رأسًا على عقب، حتى عثروا على جهاز اللاسلكي بقاع سحري بدولاب ملابسه، ومعه أربعة آلاف دولار وستة عشر ألف ليرة لبنانية، كان هذا مجموع ما ادخر من ثمن خيانته وتجسسه لمدة عام، بالإضافة إلى صندوق صغير يحتوي على مجموعة من الرسائل مكتوب على ظهر المظروف الذي يضمها «فاطمة».. أمسك أحدهم بعدة خطابات منها ليراها وفتحها وقرأ سريعًا ما كتبه «نايف»، وكانت كلها عتابًا لحبيبته «فاطمة».

* * *

فاتنتي «فاطمة»..

أرسل لكِ قبلات وقبلات تعوض حرماني..

أتمنى رؤيتكِ غاليتي، فهل بجواركِ تفتقدينني؟ أنا.. أفتقد سماعك لحكاياتي، حبك لرواياتي وكتاباتي، تشجيعك لخيالي وظنوني، خوفك من عقلي وجنوني كلما جئتُ أمام مدرستك، حبك لانطلاقاتي ومغامراتي للقائك، أتذكرين وتسألين عن رواياتي وما كنت أسرده إليك في خطاباتي؟!

أتتنفسين بألم عندما تذكرينني؟! أتتنهدين مبتسمة لذكريات عني؟! أتتمنين ليلي ونهاري ورجوعي؟! أتشعرين بقليل من الندم لضياعي؟! أفتقدك بجواري، فهل تفتقدين وجودي؟!

أنتِ فاطمتي يا عاشقة لفراقي، أرجوكِ، اقتربي، أحبك يا قدري بوفاء، لا خوف وحيرة، قربكِ مبتغى دون حياء، عودي وانسي الدنيا والوجود، فأنا الهناء، لا يهمني الناس والأصحاب ولا الأخلاء، أنتِ سمائي ونهاري وليلي، افهميني بجلاء، أنا بالأرض هنا أريدك فلا تقُولي حبي بالسماء، أهواكِ بجنون فاستوعبي لست بالأصم الأخرس.

أناديكِ وأعشقكِ بهمسات حبيسة، أتسمعين النداء؟ سأحارب النسمات والبحار وحتى طواحين الهواء، يا تاج رأسي يا أمان وحنان بعمري أبتغيك احتواء، لا يهمني غيرك يا عمري فبُعدك عن أحضاني شقاء وعناء، أنتِ روحي بجسد يهوى فراقي يا أغلى الأسماء، يا عاشقة لفراقي عودي لحياتي لأُنسيكِ هذا الهراء.

مجنونك «نايف».

* * *

فاتنتي «فاطمة»..

حبيبتي.. أما زلتِ حبيبتي؟ يا سر آهاتي، أين أنتِ من كلماتي؟ أين شوقكِ لمحادثتي؟ أين بحثك عن سعادتي؟ أين لهفتكِ للقائي ورؤيتي؟ أين غرامك لغنائي وبسمتي؟ أين حبك لليلي ودنياي؟ هل مات ما بيننا؟!

هل افترقت طرقنا؟! هل تبعثرت أمانينا؟! هل ضاع ما كان فينا؟! هل...؟ هل...؟ من اجتاح؟! من استباح؟! من استراح؟! من نالته الجراح؟! من ذهب وراح؟! من...؟ من...؟ حبيبتي، أما زلتِ حبيبتي؟ لِمَ أنتِ هناك؟! ولِمَ أنا هنا؟! أنتظر الإجابة.. فهل ستجيبينني؟!

* * *

فاتنتي «فاطمة»..

يا عاشقة للفراق، كل عام وأنتِ بخير وصحة، والعافية تعتنقك اعتناقًا، كل عام وأنتِ إلى الله أقرب، ومحبَّبة لكل الرفاق، كل عام وأنتِ في تقدم، وموفَّقة بكل الآفاق، كل عام وأنتِ أنتِ، وأحلامكِ واقع لا خيال، وبوفاق.

الآن أخبريني عاشقة الفراق، لِمَ دائمًا وأبدًا هديتك لعيد الحب فراق؟ نعم.. فراق وفراق ثم فراق يغطيه فراق، فهل اختزلتِ جميع الهدايا في هيكل فراق، أم بَخِلْتِ عليَّ بحُبك في هذا اليوم فأبرقت هديتي بفراق؟!

أتظنين مفارِقتي أنكِ ستنالين هيبة أكبر بمنحي يومًا مميزًا مع الفراق؟! أعتقد أنك ترينني أعلى هامةً منكِ.. وتخشين مني الاحتراق.. أتخافين مكانتي.. ومن حبي الاختراق؛ لذا قررتِ نثر الأرض حولي بالفراق؟

يا أنتِ.. ما زلتِ مبتَدِئة في عالم العشاق، أعلمُ أنه لا درب للمحبين في عالم الفراق، ومهما حدث، ستعودين، ويظل قلبك أسيرًا ومشتاقًا، سأظل ملجأ وملاذًا تأخذكِ له الأقدار بكل اشتياق؛ فأنا البيت الآمن، تحملكِ إليه كل سبل الفرار والفراق.

* * *

فاتنتي «فاطمة»..

سيدتي الحبيبة ومعذبتي..

ماذا أكتب عنك وبالقلب شرخ كالبحر منك أنت غاليتي؟ ولمن أبوح بسري وأنت سر حياتي وماضيَّ ومستقبلي الآتي؟ كيف أغني وأترنم حبًّا فيكِ؟ بل كيف أشدو في كبرياء وشموخ عنك؟ أخبريني كيف أترنح غرامًا وعشقًا وهوًى بك سيدتي؟

قد كسرتِ بي الروح، وبيدكِ اغتلتِ بي النفس والأمل، يا حبٌّ قتلني بدلًا من إحيائي وإروائي..

يا جرح أليم دائم الوجعِ، ماذا أقول؟ ولمن أشكو ومنك وإليك الحياة تعود يا سر حياتي ومماتي؟ يا جنة ضاعت مني خرائطها.

ما عاد يفرق بعدكِ جنة أم نار أسكنها، أيا حب كنت أرجوه وبيدكِ خنقته، وبكل برود وغباء وحمق في تابوت الصمت والإهمال سحقته، يا حزن سكن الفؤاد والوجدان، حتى تمكَّن من أعماق روحي فدمَّرها.

فلتخبريني يا سر حياتي لمن أبوح بسر قاتل عنكِ قاتلتي؟ لا أنتِ من أحياني وللعراء والسقم تركني أتعذب وحدي أنوح بمفردي دون حضن أو سند، يا سري الدفين فلتعلمي على الرغم ممَّا سبق ما زلت أنتظركِ؛ فأنا أحتاجك أمانًا وحنانًا، أرغبك حبًّا ورعاية.

يا حب عذبني حتى أسكرني من فرط جراح أيامي، يا من أحرقت بيديها عمرًا كاملًا والآن تنادين: أين أنتَ؟ أريد حبك وحنانك.. لكن لا، ابتعدي، فيداكِ لم تزرعا إلا قسوة القلب والتحجر، فسحقًا لكِ لن تجني من ورائي سيدتي إلا كل عذاب وهوان، إذا تناسيت الرحمن ومشيت خلف هواجسي، فأنت شرخ القلب والروح غاليتي.

مجنونك «نايف».

* * *

«فاطمة»..

رأيتك بالأمس تسيرين مع زوجك سعيدة، كانت نظراتك إليَّ باردة كئيبة، شعرت كأنما تقولين: «نايف».. اذهب، اذهب! ستكون هذه آخر رسائلي إليك غاليتي.. أتريدين ذلك حبيبيتي؟! حقًّا مني الذهاب طلبتِ؟! وسبب البعاد غيرك اتهمتِ، سأذهب.. أتعلمين لماذا؟ قدرانا افترقا وما زلتِ تنكرين، بالدمع والنحيب الغزير تكتفين، تصمتين.. تحزنين.. ثم نفسك تركتِ لأعاصير الحنين والمستغلين، تقفين بمنتصف أمواج السنين، عذبتِني، وكطفل بريء تجلسين، تثيرين الكآبة وبصمت تصرخين.

أتريدين ذلك حبيبيتي؟! حقًّا مني الذهاب طلبتي؟! وسبب البعاد غيرك أتهمتي، سأذهب.. أُتعلمين لماذا؟

قدرينا افترقا وما زالت تنكرين، بالدمع والنحيب الغزير تكتفين، تصمتين.. تحزنين.. ثم نفسك تركتِ لأعاصير الحنين والمستغلين، تقفين بمنتصف أمواج السنين، عذبتني وكطفل بريء تجلسين تثيرين الكآبة وبصمت تصرخين.

سأذهب.. فلقد أتعبني البقاء، وسأنهل من خيرات الأرض والسماء، سأختار من تقدم لي بهيام الاحتواء، سأعشق معوضةً لكل هذا الجفاء، في الطريق يومًا قد أراك مصادفة..

سألوِّح وأرسم ابتسامة محترفة، وأنظر لحبيبتي كطفل وأمه الحنون، لن تغريني لأعود لأقوالك الملتوية الحزينة، يا قلب الحب له إحساس أجوف لكني به مفتونة.

* * *

وضع الخطابات مرة ثانية بصندوقها، وحملها مع باقي ما عثروا عليه بغرفة «نايف»، ليقابلوا والدته وإخوته وهم بحالة ذهول لا يصدقون ما قاله لهم قائد المجموعة بأن «نايف» قُبض عليه في أثناء محاولته جمع معلومات لصالح إسرائيل، عدوهم اللدود، لتصرخ والدته وتخر على الأرض مغشيًّا عليها.

عادوا إليه مرة ثانية بمحبسه، مطالبين إياه بالمزيد من الاعترافات، فكتب بنفسه هذه المرة اعترافًا كاملًا بظروف حياته ومعاناته النفسية التي أثرت على وعيه، علَّه يفلت من العقاب.

كما كتب خطوات تجنيده، بدايةً من تعامله مع «زياد» كتاجر حتى اكتشافه حقيقة أمره، ثم زيارته لإسرائيل وكيف استقبلوه كبطل قومي، وسجل كيف سيطروا عليه هناك بالمال والجنس.

* * *

«شهرنان»..

بهدوء تخاطب امرأة ملامحها عاقلة ورزينة وتقول: «شهرنان».. أخبريني، هل نملك قلبًا يحب بصدق دون هدف ومصلحة؟!

هل نحن حقًّا مختلفون عمَّن يحب لأجل هدف ما؟! إذا كنا حقًّا نملكه فلِمَ نصر على تعذيبه بأيدينا؟! لِمَ نقهره بما هو غير مباح وصعب المنال؟! لِمَ نكسر بخاطره ونعلقه بأوهام الآمال؟! في النهاية أغلبنا يهين قلبه بنفسه، تعددت الأسباب والجرح واحد.

فدينونة الحياة هي منظومة، لا رد ولا استبدال؛ فالعمر بكل لحظاته هو دَين يحاسبنا عليه رب العالمين يوم ميعاد، وأنا أضعت حياتي انتظارًا لفارس على صهوة حصان أبيض يسرقني، لكني الآن أتساءل: أكان غباءً انتظاري لحب كبير يأسرني من غياهب دنيانا، يسرقني حتى من نفسي؟ لِمَ في النهاية أجد نفسي ما زلت وحيدة وسط صخب الحياة؟

يوم أحببت كان قدري يسير مع من هو مغرور وأناني، بل حتى متوحد مع ذاته، يرى نفسه الحبيب الصدوق، وباقي البشر دونه لا يرقون إلى صداقته، هو الكامل المتكامل وهم لاعبون وسط رماد الزمان، هو فقط من يتألم ويتعذب ويعمل والباقي منعمون.

أخذ فرحة القلب وبهجة العين وبراءة الخيال ثم رحل، واه يا وجع القلب عندما يقرر العناد، فيا أنتَ، أنا لست بجارية أو أَمَة تملكها، فأفِق واستيقظ من سباتك العميق، من غرقك ببحرك السحيق، لي حياتي.. آمالي وطموحاتي وأحلامي.

نعم.. بحياتي أوقات فشل، لكن يقابلها نجاح وإن قلت نسبه، عندي أحيانًا أوقات سقوط، لكن دومًا تتلوها لحظات صعود، يا فرحتي، وأنا أبدًا ما استطعمت واستطيبت طعم زلاتي، دومًا أقاوم صعوباتي وعقباتي وأتحداها بصمت.

يا قاسي القلب، على وصف معدن صلب أسميك، يا من رميتني بمحيط الأكوان المتصحرة، ورسمت بيتًا يخفيني بقبائل جرارة سارحة كالنمل قيدتني، ابتعد عن طريق الأخطار، فأنا كالليل والنهار بحر يغرق كل متباهٍ، ظالم لأحبته حتى وإن كان الثمن الموت بمرارة، ومعك أنا في النهاية ما زلت وحيدة.

* * *

 

اعترافات

أخبرهم «نايف» أيضًا أنهم صوَّروه بإرادته في أحطِّ الأوضاع وأقذرها مع إسرائيليات، بدعوى أنهم مضطرون لتصويره لضمان إخلاصه لهم، ولكي يحافظ على جهاز اللاسلكي الذي يفوق ثمنه مائة ألف دولار، أضاف في اعترافاته أنهم وعدوه بثلاثين ألف دولار مقابل تجنيد ضابط من صفوف المقاومة.

كتب بقائمة اعترافاته الطويلة أسعار المعلومات المطلوبة، وجملة ما يخصه من أموال ورواتب متأخرة لدى الموساد.

حاول إقناعهم أنه ضحية ظروفه الصعبة القاسية، طلب منهم أن يتركوه وسيساعدهم وسيعمل لصالحهم، طلب فرصة أخرى ليُثبت لهم حسن نواياه، وأنه لن يُخطئ مرة ثانية، فقط طلب فرصة أخرى.. مع كل كلمة كان ينطقها كان يرى نظرات الازدراء في أعينهم له، ليتكوَّم داخل محبسه كل ليلة منتظرًا موته المؤكد..

آه يا «نايف».. ضاع عمرك هدرًا مقابل ماذا؟ لا شيء! لم تتمتع حتى خلال تلك الفترة القصيرة بما جمعته من أموال، خوفًا من افتضاح أمرك، وها أنت قد كُشفت..

آه.. يالعمري.. عصور الحرمان أتت بتفاؤل، تبغى الاحتضان والعيش بتوغل، طردتها فبأي ذنب أُقتل وأُعذَّب بتمهل؟ ما فعلت إلا ما أملته الطبيعة بتفنن، أطالب بحقي في الحياة والأمن والسكنى، أنادي بأني أريد الحب والعشق بكل أدب، واه من حنين يعذب القلوب الحيرى بحبي، سأنهل من خيرات الإله بكل ذوق وتأدب.

فما بال الجميع يصرخ بأني سُلبت الأخلاق؟! خلق الله الجمال والحسن للإنسان لنعبده أكثر، وسأحارب من تسول له النفس مواجهة عشقي، فلتبتعدوا، فلقد ولَّت عصور الحرمان بعمري، يا خلق الله أين أنتم من صنيع الله في أموري؟

فالله وحده العليم بما انتويت،  هو التواب الغفار لما أرغب من ذنوب؛ الله الأحد ولي وهادٍ لقلبي والقادر على زمام حبي، اهدني فيمن هديت يا غافر فلك الأمور تعود يا حبيبي، فيا مثبت القلوب وهادٍ ثبت على حبك وعشقك قلبي.

دعا «نايف» أن ينجيه الله، وسيترك البلاد وينتقل لأي مكان آخر لا يعرفونه فيه وسيكون مواطنًا صالحًا، سيعيش كما كان يعيش في البداية بهدوء.

انتهى الفلسطينيون من تحقيقاتهم، فسلموه للسلطات اللبنانية لمحاكمته، فليس من حقهم عمل المزيد.. تركوه للقضاء اللبناني، كما ينص اتفاق وجودهم بالأراضي اللبنانية.

مَثُل الخائن أمام المحكمة العليا ببيروت، أُدين في فبراير 1973 بالحبس سبع سنوات، فقط سبع سنوات مقابل كل من ضحى بدمائهم نظير حفنة تراب تسمى نقودًا، أشرق وجهه من جديد.. أخيرًا اطمأن على رقبته وأنه لن يُشنق، ستمر السنوات السبع ويفر من هذه البلاد ويختفي، لكن.. على نفسها جنت براقش([1])..

فبعد ثمانية أيام في السجن عقد له زملاؤه السجناء محكمة مصغرة، أعضاؤها الخمسة من القتلة واللصوص، ثم حكموا عليه إجماعًا بالإعدام شنقًا.

* * *

«شهرنان».. امنحيني فرصة للحديث، لديَّ الكثير والكثير؛ فحبيبي هو هذا الماثل أمامك هناك، فامنحيني فرصة لأعترف له بحبي علَّه يحن ويمنحني من حبه القليل.

يا رجل.. على الرغم من بشريته أراه ملاكًا يعيش وسط قطيع ذئاب، أخاف عليك كالطفل الرضيع وأتمنى لو أخفيك وأداعبك كحمل وديع، تعلم حبي، لكنك تعلننا صديقين لإرضاء ما يتملكنا من خوف الحال.

يا رجل يهوى قربي ودومًا تختار مجالي لراحة وهدوء البال، صباحك ومساؤك فرحة وراحة بال، يا صاحب أشهى البسمات، يا عيون خلابة ووجه آخذ للألباب، طاب يومك يا باهي العبارات.

ما بين جنوني وشرودك أبواب وسراديب حكايات، تتجول فيها سائحًا يستكشف كل الروايات، يبحث بتمعن عن جدوى ما فات، وأهمية ما هو آت، سراديب تخبئ قصصًا لعشق مخفي لجروح وآهات، حبًّا آخر وتعلقًا بهوى مضى منذ زمن وبك قد مات.

آه لو تعلم كم أنتظر لقاءك وأتوق إلى رؤيتك، وكم أحلم بوجودي معك بالبقعة نفسها في محيط الدنيا الواسعة، كم أتمنى لمس خيالك، تنفُّس عطر أنفاسك والتهام عبير عينيك، لنتجول معًا دون هدف، في تشردنا نشاهد نجومًا سابحة كقناديل مجرات كون، جاذبية مثيرة لأحاسيس الغرام تعيش به حوريات الأحلام بكل بهاء.

ما بين طيات وأمواج ضحكاتك كلمات وكلمات، تجعلني المتفردة الجديرة بحبك وعشقك أنت، فأنا أنت وأنت أنا ولا مجال آخر لك غير حبي وعشقي.

فهل ستختار الهروب بالتخفي نهاية دربنا؟ آه منك! كم أحب الشرقي المتعاجب بشرقيته، المتفاخر بقوميته العربية، تلك السلوكيات تجعله أجمل وأشهى، يا صاحب الرايات وقاتل الهفوات، يا ساحر الفتيات، حبك سالب الآهات ويلقي بي وسط نجوم سحاب عاجي الأركان.

يا وجه عذابي وحبي الطائش، يا عقل غافل متغافل، يا هدوئي في عالم متآمر، أحبك يا رجل غير الجميع.

* * *

 

النهاية

عندما فرغوا من تداول قضيته سريعًا، بدأوا يقتربون منه، ضحك بصوت عالٍ، سخر منهم ومن هزلهم المبتذل، صرخ بهم:

مجانين.. أنتم مجانين..

انصرفوا بعيدًا عني واتركوني لشأني.

ثم صرخ قائلًا:

من يطلب الغفران ممَّن؟

من يسامح من؟

من يأخذ القصاص؟ ولمن؟

من هناك؟ ومن هنا؟

من بريء؟ ومن مذنب؟

من أنا؟ ومن أنتم؟

من الملاك؟ ومن الشرير؟

من منا إنسان؟

هذه هي الحياة..

عندما تختلط الأوراق..

عندما تضيع الروح..

وسط غياهب وظلمات دوائر الدنيا.

أنتم قتلة سفاحون.. أما أنا فبريء.

انقضُّوا عليه على حين غرة..

سحبوه إلى منتصف المحبس، ووضعوا على رقبته أنشوطة لشنقه، كتموا فمه كي لا يصرخ ثم شنقوه بواسطة حبل جدلوه من ملابسهم عشية احتفاله بعيد مولده الثلاثين، ثم اعترفوا في التحقيقات بأنهم اقتصوا منه.

حاكموه بقانون الوطنية لا بقوانين وضعتها لبنان؛ فهذه القوانين تخص أمثالهم من القتلة واللصوص لا الخونة بائعي بلادهم بزهيد الأموال.

كيف شعر؟ ما المشاعر التي غمرت قلبه وقتها؟ هل ندم؟ هل استمر في لا مبالاته؟

لا أحد يعلم.. الله وحده العالم بخفايا نفسه وروحه.. وهنا تنتهي حكاية خائن، لكن لا تنتهي دائرة خيانة موجودة منذ قديم الأزل، مستمرة حتى نهاية هذا الكون الفاني.

* * *

«عائشة»: هيا أمي.. ما رأيك فيما سجلت؟ لم يستغرق الأمر سوى خمسة أيام لأحكي لكِ قصته.. أعتقد أني قد لملمت كل أشلاء الحكاية بمذكراتي، أليس كذلك حبيبتي «حبيبة»؟ (قُلتها باسمةً محاولةً إفاقة والدتي الغارقة في النوم).

«حبيبة»: نعم.. آه (قالتها ناعسة)، نعم بارعة أنتِ في السرد، ربما إذا خرجتِ يومًا من شرنقتك هذه وتركتِ حجرتك تحولينها لمسلسل، سيتعلم منه ويتعظ من تسول له نفسه بيع بلاده ودماء رفاقه وأحبته.

«عائشة»: ها قد عُدنا لتلك الأسطوانة المشروخة.. تصبحين على خير أمي.

«حبيبة»: تصبحين على واقع أجمل وأخبار أروع، طفلتي الحبيبة.

في الصباح، كُنت متأكدة أن أمي دعت من صميم قلبها لأجلي، فقد كان صباحًا مُثيرًا.. مُبدلًا لحياتي البائسة للأبد، فلقد استيقظت على صوتها يهلل:

أهلًا «مازن»، مرحبًا بك ابني الغالي، الحمد لله على سلامتك، تعالَ سأجهز لك فطورًا خاصًّا ثم أوقظ «عائشة»، ستسعد بعودتك كثيرًا.

«مازن»: حسنًا أمي، على الرغم من أني لا أريد فطورًا لكني لن أرفض عرضًا مغريًا كهذا.

«عائشة»: آه «مازن».. حبيبي، أيقظتني على مسافات وليست مسافة واحدة، تسكن قلبي وعقلي مسافات كبيرة شاسعة، تفصل بينهما وكأنهما جزيرتان: واحدة بوسط العالم والآخرة بآخره، لا تربط بينهما غير كلمات تجول في الخاطر تحكي عنكَ..

كلمات تراضي هذا وذاك، ينشر عبقها أريج وجودك بيننا، كم أتمنى لو كل صباح تنير الدنيا بعبير طلتك، أسعدك الله وأدام لك الخير والرقي والجمال.

لم أستطِع الانتظار أكثر حتى تأتي أمي لتوقظني كما أرادت أو لتساعدني، لم أهتم أن يراني قعيدة كرسيي، استندت على سريري حتى وصلت إلى كرسي وجلست عليه لأخرج وأراه، أخيرًا سأراه، آه.. حبي الوحيد، ها أنت قد عُدت أخيرًا.

لمحني خارجة من الغرفة:

أهلًا.. أهلًا بـ«عائشة».. افتقدتك كثيرًا أيتها الشقية.

لم ينتظر وصولي إليه لألقي السلام، بل اقترب باسمًا..

طبع قبلة على جبيني، أخفيتُ وجهي بكفي مُتفاجئةً من فعلته وخجلًا منه ومن أمي التي كانت توًّا خارجة من المطبخ حاملة صينية الفطور، ما كان منه إلا أن توجَّه إلى أمي الذاهلة من فعلته، المشحونة بغضب جام لاستهزائه بوجودها ليفعل هذا.. وضعت الطعام على منضدة صغيرة في غرفة المعيشة.. عاجلها قائلًا:

خالتي.. زوِّجيني ابنتك، لن أنتظر المزيد.. لقد تعبت حتى توصلت إليكما، أريدها زوجتي ما بقي من عمري..

لا أنكر دهشتي الكبيرة على الرغم من فرحتي العامرة وأمي بطلبه، هل حقًّا ما سمعت؟! حركت نفسي مسرعة إلى الغرفة، وسمعت أمي تجيبه بأن عليه مفاتحة عمي «نواف» في الأمر؛ فهو رجلنا، وافق وأخذ منها عنوان بيته كي يذهب إليه مساءً..

هكذا بدأت رحلة جديدة في حياتي بمشاركة «مازن» وأمي.. هي هكذا الحياة لا تستقر أبدًا على حال.

كان حب «مازن» سندي في وقت سئمت فيه من تهدم هياكلي، تهشم صوامعي، إخراس صوت ابتهالاتي، انحناءات ظهري لسقوط سقفي..

وقت قررت فيه أن أنحت من شخصية «مازن» تمثال شهم حصيف، رزين عاقل ومبدع، مجنون وحنون، يساعدني على تحمل الحياة..

لكني لم أظهره لأي أحد كان في هذا الكون، ليظل لي وحدي أبد الوجود، زميل عمر وأخ كفاح وتوأم روح، حتى مماتي..

ها هو ظهر ليكون واقعًا وحقيقة في حياتي، لا مجرد تمثال زائف داخلي، مع «مازن» صرت روحًا متلونة.. نعم، روح متلونة بسهام الشمس الذهبية، وبأشعة القمر الفضية..

مشبعة بضربات البحر الهادرة بنعومة، بصفاء سمائي الزاهية، ولمسات نجومي الحانية، بعتمة الغيوم في عينيَّ، بنغزات الشتاء الموجعة بلطف، بحرائق الصيف الباردة بوجوده..

لقد أصبحت متلونة، بالدنيا وما فيها، بأحداثي ومآسيها، بأفراحي وغنائها.. نعم، روحي متلونة بعشقه.

الآن لديَّ و«مازن» فتاتان وولد شقي مشاغب، نُقيم مع أمي في لبنان بعد إجراء عمليتي في القاهرة، «مازن» ما زال مناضلًا من أجل تحقيق أهداف قضية تحرير فلسطين، أغلب وقته يُقضيه متنقلًا بين القاهرة ولبنان وفلسطين..

أما أنا فقد أصبحت الإذاعية الناجحة عائشة الغزالي، كاتبة، مطلوبة قصصي متنوعة الأحداث؛ فأنا عاشقة لسرد الواقع مجملًا ببعض الخيال، مقتنعة بعدم إثارة اكتئاب قرائي، هدفي كتابة ما يبُث الأمل، لا ما يخنق الإحساس.

* * *

«شهرنان».. أخبري الأحبة بأنه ما دام ودهم في وادينا يرتع فبقدرة الله حبهم بقلوبنا دائم ومستديم، فما بيني وبينهم حبال أفكار، نار بداخل قلب من رماد، كلما قطعناها لنهرب من سجنه، تعيد الدنيا ضم قلوبنا وتغني: لا مهرب من جنتي يا أحباب.

كيف الفرار وعيناه لآلئ درية وبحار ماسية؟ عالمي هو أهرول به دون رويَّة، معه وجدت روحًا كنفسي، هويتها.. عشقتها.. واشتهيتها؛ لذا أنتظر حبيبي كل صباح حتى يفتح نوافذ غرفته..

كم أحبه عندما يثير زوبعة ليراني إشراقًا لصباحه، وتبهجني تحيته الصباحية المخفية بين نغمات بصوت جهوري يدندن بها، ويصبح شكلي مثيرًا للريبة عندما يُعلمني بقرب نزوله بطلبه فنجان قهوة تركية من والدته على عجل..

لكم أعشق مناورات إضاءة حجرة مكتبه لأعلم أنه قد حان موعد لقاء يجمعنا، موعد ليلي خاص نتبادل فيه أحاديثَ عمَّا حواه اليوم من أحداث ومشاكل وحلول جاءت فقط بتجمع أعيننا، آه لو يعلم أهلونا بوجود رسائل سرية طائرة بين عمائرنا.

أعلم أن البعد دربنا، وكل منا سيذهب في طريقه.. لكني ما زلت أريد قربه، فماذا فعلت؟ وعلى نفسي ما الذي جنته يداي؟

آه يا نفسي، لِمَ كان القرب؟ ولِمَ كان البعد مصيرًا؟ آه يا نفسي، وآه يا لوعتي على ما فعلت وجنيت، وليته يدري مدى ألمي على الرغم من حبه عندما يُهَدِّئ العقل من سيطرته ويترك القلب وحيدًا يتوجع..

كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟! فبوجود حبيبي يستقيم عودي ويشتد لأقاوم كل أحداث ومنغصات الحياة.

لكن إلى متى سأظل أُخفي عيني عن رؤية كل ما يبعدني عن حبيب أتمنى وصله وهواه؟! إلى متى أكذب على نفسي ممنِّيةً إياها بصلاح الحال يومًا ونهل الشهد من أنهار هواه؟!

إلى متى أتجنب النظر والتعمق فيما تفعله يداه لقتل ما يجمعنا وترك ما يفرقنا فقط دون مبالاة؟! إلى متى؟!

إلى متى أظل ضعيفة كسيرة الخاطر في حمى حب واهٍ؟! إلى متى أقبل مساومات لقرب مُثَمَّن، قرب أشبه بقرب الأشباح، دومًا مُرعب، مفزع، قد يقتل في لحظة؟!

إلى متى أوافق على اقتراب كاقتراب الجان نستشعر وجوده لكن أبدًا لا نراه؟!

إلى متى أشياء كثيرة تُفعل للإهانة أقرب وللحب أبعد، أشياء بغيضة منه تصدر وأقبلها ضعفًا ومهانة؟ إلى متى يا قلب ستظل تقبل وتقبل؟ أجبني بالله عليك.. متى تثور وتفيق لتعيش وتنال ما تستحق؟! إلى متى؟!

لم تعد المشكلة في من أحب وأهوى، هو فعل كل ما يمكنه لقتل ما بداخلي من حب وعشق وهيام، أصبحَت الآن الأزمة في قلبي، لِمَ الاستكانة بذل وخنوع راضية بدور الجارية؟!

لمَ تقبل الملكة أن تنزل عن عرش الهوى وتتنازل عن تاج عفة الغرام وتركع بخضوع لحب ضعيف هزيل الأركان؟! آه من وهن صار يتملكني معك..

لِمَ تضيع مقاومتي أمام نبرات صوتك وتهيم سرابًا بين نظرات عينيك؟! آه مني ومن حب يحبسني بضعف داخل خيوط شبكته العنكبوتية، آه من مشاعر تتجنَّى عليَّ وتأسرني بقفص حب خانق لهواي..

آه ثم آه منك يا من تدعي حبي وعشقي وغرامي وترميني - على الرغم من هذا - بكل ما يسجنني بتوابيت عشقك المنسي، تدفنني حية وسط أشلاء حب، تسكنني بيت غرام صدر قرار إزالته منذ عهود.

تُركبني قطار الموت بمدينة ملاهٍ لا تراعي شروط أمان، تسندني على سور أمنيات وطموحات سقطت دعائمها منذ قرون، آه ثم آه منك ومن حبك ومن نفسي يا غرام واهٍ وضعيف الخلجات.

«شهرنان».. مذنبة بالجرم الشهير، سأل حبيبي: أتحبينني أنا، أم أبياتي؟ سأجيبه هنا بكتاباتي: نعم.. أحبكما.. أحبك وأحبها، أراها تحيطك وأراك بها، تجذبني إليك وتجذبني إليها، أسبح بك وأطير بحروفها، أغوص بأعماقك هائمة برؤيتها، أُفتن مرة بك والأخرى بسحرها، أشعرها تحميك وأنت تحويها، أنفاسك تعطرني وأنا غارقة بسطورها، ألمسك متعمقًا بداخلي لسماعها، أراك بخلجاتي هائمًا لقراءتها، وكيف لا أحبها وهي سفيرتك وأنت كاتبها؟! أنت هي.. وهي أنت، لكن لا يمكن الاستغناء عنك بحبها.

سألني عن حبي للأشياء الغريبة، إعجابي بالكتابات والنقوش العجيبة، عشقي للروايات والأساطير المريبة، سرحاني بصوري ورسومي الحبيبة، هيامي بقصص حوريات الجنة البديعة.. افتناني بالدنيا على الرغم من أحداثها المريعة، قناعتي بأنني أنثى مدغشقر فظيعة، معك سيدي أهوى السحر والطبيعة.

لِمَ تستغرب عشقي للكلمات؟ تطالبني دومًا بالإثبات لعشقك والثبات، أنت من جعلني أحب الساحرات.. يا سر هدوئي وحياتي وخلودي بالحياة، حبك يمنحني الصمود؛ فهو كالمياه.. عشقك الخفي يشكلني بما أهواه.

مع عشقك أرتل أشعارًا عن قصص الأغيار، يا حب سكن فؤادي، في بعدك تنهار روحي، أتمناك قريبًا يسمعني أعذب ألحان المزمار.. ففي قربك تدفئ قلبي وكأن ما بيننا عذب الأنهار.

حبيبًا يتميز بالطبع الطيب، وجوده ينسف أوهامي وعليها يبني خيالات الأسحار، هواك خليط أكونه بنفسي كجبال شاهقة ليست أهوارًا، عشق وغرام وعليهما بعض الوله يزينه دلال الأخيار.

مذنبة أنا بالجرم الشهير.. عاشقة أنا لرجل خطير، فهل يا تُرى ترضى بحب مثلي، أم تستهويك فتيات ترتدي المخمل؟! يا رجل من خلف الأساطير، بروحي وقلبي ها أنت تطير، هل يا تُرى يرضيك عقلي، أم تستهويك ذات الجمالِ؟! معك الجنون مسيطر وكبير.. والفنون تشع مني يا أمير.

هل يا تُرى ترأفُ أنت بحالي، أم تستهويك صاحبة المالِ؟! ملك بأشعاري حلمي معك أكون.. بعينيك وحنانك لمست عذوبة التغيير، فهل يا تُرى ستكون إلهامي وهلالي، أم تستهويك الفتيات ذوات الأفضالِ؟!

معك.. حبي بأحضانك طفل بريء غرير.. وأنت في العشق سلطان، فهل يا تُرى سأكون لك بالحلالِ.. أم يستهويك العيش بالظلالِ؟! دونك ما زلت ملاكًا فقيرًا.. بك ومعك حبي حياتي ضياء قِنديل منير، فهل يا تُرى تراني وأستهويك يا غالي؟! حلمي وواقعي الأثير، الطائر بأحلامي كالعصافير، بالنجوم زرعتني.. بالقمر شبهتني.. وسط الأمطار فتَّتَّنِي.. بالسحاب سحرتني.

آه توأمي.. ذوبتني.. بأرضك حطمتني، وبسمائك بعثرتني، بأمواجك كسرتني، وبرياحك قهرتني، وها قد جئتني.. متمهلًا متأنيًا بالهوينى، تتغزل مغنيًا لعينيَّ، تقربني وتحتويني، وبذاتي تفرحني، عطرًا صافيًا شممتني، وخيالًا مشرقًا أريتني، آه منك.

يا واقعي وضي سنواتي، واقعك أنا وحبك فضمني، يا هاجري ومعذبي أحيِني، كالجنين حنيني أسقِني، حبي الأثير.. كن في دعائي شريكًا وصحبتي، وبصلاتي كن إمامي وقدوتي.

انتهت

 هامش :

([1]) براقش كلبة هاجم اللصوص منزل أصحابها، فاختبأوا، لكن الكلبة اعتقدت أن بإمكانها إيقافهم، ظلت تنبح فتركها صاحب المنزل كي لا يفضح وجودهم، جرت لمنع اللصوص من الهرب، عندما خرج أصحابها بعدها وجدوها ملقاة على قارعة الطريق قتيلة، ليعلق الأب قائلًا: «على نفسها جنت براقش».

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑1الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓-1الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↓الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة آيه الغمري
9↑1الكاتبمدونة حسن غريب
10↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑31الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني203
2↑22الكاتبمدونة مها اسماعيل 173
3↑14الكاتبمدونة مرتضى اسماعيل (دقاش)205
4↑11الكاتبمدونة منال الشرقاوي193
5↑5الكاتبمدونة كريمان سالم66
6↑5الكاتبمدونة خالد عويس187
7↑4الكاتبمدونة نجلاء لطفي 43
8↑4الكاتبمدونة غازي جابر48
9↑4الكاتبمدونة سحر حسب الله51
10↑4الكاتبمدونة نهلة احمد حسن97
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1079
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب695
4الكاتبمدونة ياسر سلمي655
5الكاتبمدونة اشرف الكرم576
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري501
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني426
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة404

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب334270
2الكاتبمدونة نهلة حمودة190482
3الكاتبمدونة ياسر سلمي181782
4الكاتبمدونة زينب حمدي169886
5الكاتبمدونة اشرف الكرم131105
6الكاتبمدونة مني امين116831
7الكاتبمدونة سمير حماد 107980
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي98105
9الكاتبمدونة مني العقدة95173
10الكاتبمدونة حنان صلاح الدين92021

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة عطا الله عبد2025-07-02
2الكاتبمدونة نجلاء البحيري2025-07-01
3الكاتبمدونة رهام معلا2025-06-29
4الكاتبمدونة حسين درمشاكي2025-06-28
5الكاتبمدونة طه عبد الوهاب2025-06-27
6الكاتبمدونة امل محمود2025-06-22
7الكاتبمدونة شرف الدين محمد 2025-06-21
8الكاتبمدونة اسماعيل محسن2025-06-18
9الكاتبمدونة فاطمة الزهراء بناني2025-06-17
10الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15

المتواجدون حالياً

518 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع