آخر الموثقات

  • ق.ق.ج/ بئر العينين
  • مكانة الأسياد ..
  • تقوى الله محرك مهنة الطب
  • التعليم السوداني بين العزلة وإعادة إنتاج الأمية
  • أصداء أزهري محمد على نقد متجدد للحكم في السودان 
  • معركة الكرامة: بين الخيانة والوفاء للوطن
  • بين رفقة الأحلام ورفقة التكنولوجيا أحلام تزهر بالمعرفة
  • طقوس الزواج السوداني بين الأصالة والمفارقة: من قطع الرهد إلى إشعار البنك
  • لقاء السحاب
  • يا صديقي.. لو كنا تزوجنا من زمان
  • رسالة بين القلب والعقل
  • ما وراء الغيم الأسود
  • حين عاد الصوت من الغياب
  • على حافة الفراغ.. حكاية قلب يبحث عن أنس
  • أمسية على ضفاف الذاكرة
  • تهت في عيونك
  • جاء موعد كتابتي إليك
  • عبارات مبالغ فيها لإبن تيمية
  • ابن تيمية فى مواجهة الوهابية 
  • لابوبو الجزء ٤
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة انجي مطاوع
  5. شهرنان (رواية) الجزء الأول

إهــــــــــــــــــــــداء

لكل..

فقير كسره العوز، ولكل أنثى أحبت وترنمت عشقًا وهيامًا في حب رجل تاه عنها.

لكل عاشق ولهان ضاع دربه إلى حبيبته أيًّا ما كان السبب.

ولكل من عاش بحشايا قصة حب دون أمل أو نهاية.

ثم..

للدنيا ومتاعبها..

للحياة وأحداثها..

والأهم..

لآخرتي المنتظرة..

ولك آسري.

مقدمة

هل منَّا من يعرف نفسه حقًّا؟! يفهم تراكيب أحلامه، أيامه، لياليه وأمنياته، يستوعب حقائق خلجاته، يتعامل مع أوهامه وظنون تتعب حياته، يدرك لحقائق أحداث الدنيا فرح وأحزان نفسيته؟ لا أحد يعرف أو يدرك حقيقته، أو حتى يستوعب، إلا شرذمة قليلة لثوانٍ تساوي زمن صمته.

اليوم، سأحكي قصة مختلفة عن خائن عاش ويعيش غيره كثير معنا، عن ظل متخفٍّ في الأجواء، شبح لإنسان كان وبات الآن ذكرى بجدارة تُهان.

تعالوا نتجول في ذاك العالم المليء شراكًا خانقة لبراءة نفس، غارزة لتوحش روح، قتل لكيان حب ووفاء، عالم لا يشمل إلا كل من باع وخان، عالم تحبس في كل خطوة معه نفَسك وكأنه آخر نفَس تزفره، ويجبرك الانفعال على شهيق تشعر معه بتيبسك لتدخل بلاد الحَجَرِ في ثوانٍ.

نعم.. سأحكي عن قصة خائن باع بلاده، متوهمًا، بغباء وحُمقٍ، تميزه ببراءة تخرجه خارج إطار الشبهات، ومعها مزيج من قصص لعشاق وأحبة خانوا، رجل أو أنثى لن تفرق، فكلاهما أذنب وباع حبيبه برخيص الأثمان، وسأمزج معها حلقات على شكل برنامج إذاعي سمَّيته «شهرنان».. هو مثيل لحكايات «شهرزاد».

كُل حلقة تحكي قصة حب لا تهم نهايتها، أو هل خطواتها سارت على الطريق السليم، أم انتهت بهجر وفراق، هي قصص نعيش واقعها يوميًّا في كل مكان، الخائن أنثى أم رجل، لا يفرق، فكلاهما في عالم الحب سواء، تتساءلون: لماذا حكايات الحب هنا؟!

لماذا تقصي روايات عشق أنتِ و«شهرنان»، تسبق قصة رجل خان نفسه وبلاده؟! وإجابتي بأن هناك من يخون وطنًا كبيرًا وُلد وتربى على أرضه، غرس هواءه وعبيره برئتيه، بكامل إرادته الحرة، متعللًا بكثير من الأسباب.

وهناك من يخون وطنًا أصغر، وطنًا يحويه هو منفردًا، وطنًا عشقه وكان يتمنى رضاه، لكن.. وآه من لكن.. فضَّل خائنه تركه يتجرع دماء مسمومة من هجر وخذلان.

يَطعمُ آهات ممزوجة بنزف دموع نكران وحرمان حبيب.

 

الفصل الأول

قطع الشطرنج

«شهرنان» يا «شهرنان».. هلي علينا وغردي، اشدي أعذب ألحان الحكايات، أسعدينا بما يُنسينا ما نراه من دنيا متعبة، بشر ذوي طبائع مؤرقة ظالمة، قدِّمي نصحك ملفوفًا داخل سطور وأحرف روايات وأساطير سارقة، احكيها لنا بإثارة مغلفة متشبعة.

يا غالية.. لا تنوحي في القصص وأعلني الاستقالة من أحزان وآهات تسكننا دون نهاية، غنِّي واعزفي من دون غاية إلا سعادة قلوبنا المرهقة، أَفرِحِي قلوبًا، أشجينا وأمتعي فينا النظر قبل السمع، أطلقي شعلة ونيران الخيال لتسبح معك في السموات العلا.

«شهرنان».. أخبرينا عن حب لرب العالمين وتقرب إليه لنهاية الأزل، احكي بسعادة عن مدينة فاضلة، وعن حياة مريحة رغيدة تزين الوطن، احكي عن ملك ورعيته يسأل عنهم وبالحق يجيب، عن آمال وأحلام محققة ببساطة دون كلل أو ملل أو حتى تعب.

غرِّدي عن صعود وارتقاء يسكنان دنيا البشر، وغني عن حب انتهى نهاية سعيدة، عن أخ صان أخاه ولم يبِعْه، عن أمين اؤتمن ولم يخُن، أعلمينا عن زوج وزوجة لم يبادل أي منهما الآخر بظلم وسوء خيانة.

«شهرنان».. أخبرينا عمَّن حاول تحسين حاله فحقق حلمه دون سقوط مريع، عن مُتَعَلِّم وعَالِم ومُعَلِّم يبذلون جهدهم بكل ضمير، تغاضي عن تخريبنا بأيدينا لوطن هو حضن وسكن لكل الآمال، عن اغتيالنا لغيرنا بحجة اختلاف رأي أو نصيحة لم تنَل إعجاب متلقيها، عن تعمد الأبناء ظلم آبائهم، والعكس كثيرًا صحيح، عن مساوئ كثيرة تستعمر فينا الأرواح قبل القلوب.

يا مليكه، لا تكلي أو تملي وتعودي لواقعنا الأليم، زيِّفي بكل فن وجمال دنيانا الغريبة، تجاهلي تضاد أقاصيصك لِمَ ترينه ببشر وبني آدم محبطين، أغمضي عينيك واحكي باستفاضة عن نجوم بالسماء تنير لنا طريق الصواب، كواكب تعيدنا لسبل النجاح وترشدنا للطريق القويم.

احكي يا «شهرنان» ولا تملي، أخبرينا بكل شموخ أن كل ظلم له نهاية، وأن كل باب مغلق له سبيل وطرقات تحل معضلة غلقه، أن هناك قائدًا بطلًا يدرك أن لكل شيء غاية منها يصل لسمو ورفعة وطن، احكي وأمتعي فينا النظر قبل السمع يا «شهرنان».

يا «شهرنان».. غيِّري رواياتك وقصي علينا حكاية عن خيال يمس الواقع، أحضري إلينا شخوصك ليحكوا عمَّا يعتمر رواياتك، يا ذات الخال وخلخلة الخلخال اشجينا بقصة تُغنَّى كموَّال.

«شهرنان» نادت بطلها قائلة:

هلم يا شاعر تهوى عيون وبريق ابتسامات الفتيات، يا قلب فنان قد أنَّ وتألمَ من ماضٍ مر وانتهى، ومِن هوى عشيقاته ذاب وتفتت، تعالَ أخبرني.. هل تذكر من كنت فيهن تتفنن؟ وهل تذكر تفاصيل الشكل والمنظر؟ ولِمَ بِهِنَّ كنت تختال وتتباهى؟ هلَّ علينا بطل مغوار القسمات، شخص من سَمته تفوح أعذب ألحان الحكايات، ذو بسمة وضَّاءة تريح من عانى الآهات، آه منه ومن نظرات عينيه، ذاك الساهي بريء النسمات.

قالت له «شهرنان» بخفوت أنثى مسحورة: سأذكِّرك ببعض منهن، ولنبدأ بأولاهن: «نورا»، ذات الثغر البنور المغرور، وهاتي الثانية «هناء»، آه ذات حسن ودلال ووصال في دنيا الحلم المبتور، وثالثتهن «عبير» ذات العطر الفواح وشذا ليل وصباح لأيام ملاح متتالية العصور، والرابعة «بسمة»، هي ضحكة كون غرير الأركان كانت ولكنه من قسوة حياة مقهور، وخامستهن «نهى» من نهي وأوامر منتهية منذ أزمان وقرون عانت لتعيش الآتي في عمر مكسور.

كُنَّ سلسلة ساحبة جرارة، كفانا الله منها الشر وأية مرارة، آه يا قلب الشاعر كم تهوى الفتيات، وتعشق التغزل بجميلات القد، تهيم بالتغني بحسناوات الطبع، كم فيهن كتبت أشعارًا وعبارات ملتاعة، كم كن وما زلن صاحبات تأثير وخيال مشاغب يملأ كتاباتك يا فنان العصر.

آه يا ربي، ها قد أذَّن الديك بفراغ صبر يقول: انتهى وقتكِ يا ذات الحسن مع الأحلام، تذكر من كُنَّ وما كان وذكريات أسماء وكتابات، صاح معلنًا انتهاء تصريحه بكلام مباح عمَّا مضى، مؤذنًا ببدء توقيت الصمت بمسافات ضياع وبراح، مناديًا على العباد أن حيَّ على الفلاح، حيَّ على العمل، على التعب لنيل خير رزق ببركة الصباح، قائلًا:

توقفي يا خيالات أحلام طموح، وهلم يا واقع معاش، موقظًا للأمل وللتفاؤل، منبهًا للحياة، منومًا لكل خيال وحلم لم يحِن وقته ليرى معه نور الصبح، مبشرًا بفرصة أخرى لنيل فرصة جديدة في حب حقيقي يعمر القلب والروح الحزينة.

* * *

عائشة الغزالي

بداية.. لا تعلم من أنا ولا لماذا سأقص عليك قصتي وأقرأ لك مذكراتي، لكن صبرًا.. اقرأ معي ولن تندم..

سأبدأ من هنا، من برنامجي الحبيب، فمن علامات يومي شديدة الأهمية: متابعة برنامجي المفضل «شهرنان»، موعده مقدس للمذيعة حنان الزواوي، أُحِبُّ متابعتَه يوميًّا في تمام الواحدة صباحًا، وإعادته باليوم التالي في السادسة مساءً.

يخرجني عن دائرة أفكاري ووحدتي، في فترة كانت فارقة جدًّا بحياتي، كنت أستمعُ إليه وأنا أُرَاقِب من نافذتي الصغيرة الطُّرقات بكل ما فيها من بشر وكائنات تتحرك بهدف أو من دونه.

أنظُرُ للسماء لأناجي الله وأبوح له بأسراري وبما أُخَبِّئهُ حتى عن أمي، أتمنى لو عُدتُ ثانية لسابق عهدي قبل أن أمر بما مررت به من أحداث ومصائب وأهوال.

سأقصُّ عليكم إحدى حلقاته كي تحكموا أنتم معي..

«شهرنان».. قصتي أنا أغرب من الخيال.. لا، بل هي واقع تُعايشه المئات من الفتيات على الرغم من ظن البعض أنه خيال؛ فصديق حبيبي يتقرب مني يفعل كل ما أرغب ويتمنى لرضاي النيل، يسعدني بأمور كثيرة، يحزن لحزني وأكثر، يتقرَّب بحنان واهتمام محببين، يحاول دومًا على الرغم من الصد والهجر الباديين مني!

أما حبيبي فهو مبتعد عني، مُتجاهل مُتنكر مُتخفٍّ، وكأني قميصه ذو اللون الأجرب يعاملني، أعاتبه وأجرح كرامتي بمباشر لوم وعتاب، أحدثه كثيرًا وكثيرًا، لكنه دومًا يعلم كيف يُلهيني بالكلمات لأصمت وأنسى، ثم يعاود الكرَّة.. لأموت بداخلي مرات ومرات بجنوني، أعاتب فيكرر كلماته بحنان يأسرني، تأخذني معها لعنان سماء الحرية وغيمات الأمطار تسكنني، لتنير سحب السماوات نهاري، أرى نجومًا لامعة وكواكب ونيازك منحنية بجلاء لي..

معه أعيش حياتي كأميرة أو ملكة لخيالي وقت صفائه، لكنه دومًا صعب قاسٍ لا يراعي حبي، يثير غيرتي والرغبة لتملك قلبه بسكناتي وخلجاتي، ماذا أقول؟ ماذا أفعل؟ أيعجبك هذا؟! ها أنت قد أثرت جنوني وتبعثرت مني كلماتي، حبيبي.. لا تجعلني رجاءً أقارن بينك وبين سواك، ظالمة مقارنتي لهم ولك، فالخاسر أنت، على الرغم من ذلك متملك لقلبي، مسيطر على عقلي، روحي مستباحة منك، القواعد لك دومًا تُخالف لتفوز بجدارة، فبكل هدوء أغيِّر قواعدي لأمنحك النصر.

يا بشر.. يا «شهرنان».. ليخبرْه غيري بمراعاتي، فالحب على الرغم من جماله متعب صادم قاسٍ، وأنا منه لا أريد إلا أشياء بسيطة: عمره، والروح ملك لي خالصة صافية، هذا فقط والحب الكامل وحياته.. أَليست أشياء بسيطة؟!

معه أشعر بسعادة ولحظات مريحة، محادثات تنسيني العالم والدنيا، أوقات قليلة متفرقة تعوِّضني حرماني من حب يمثل حب العمر بقلبي، يجعلني أعيش لحظات تنسينا معًا آلامًا توجعنا، لكن أبدًا من داخل قلوبنا لن تزيل ما حدث من جرَّاء استئصال غاشم لوجوده بحياتي بعنف ونذالة.

الأمر ببساطة محاولة للالتفاف على شيء حادث يؤرقنا، استمرار لحزن لا سبيل للفكاك من براثنه وشباكه، ما يقتلني صراعي مع نفسي، فأنت الحبيب وأنت المُنى، لكن النصيب ويدك قد حكمتما، أنت هناك وأنا هنا، وآه من قدرٍ قد حكم، يتعبني نداؤك على الرغم من البعد وإعلانك حبي وغرامي وتعذبك بفراقي، لكن ماذا أفعل يا مليكي المنادي بعذاب من بعادي وكل هؤلاء النساء بعالمك؟ تجعلني أتساءل: أتبيع وتشتري كسلطان قد ملك صكوك الغرام، أم أنك هارون العصر الحالي ومِن الجواري الحسان قد وُهِبت؟ أورودهن تَشُمُّ وتختار بتنوع ماسًا وذهبًا؟ أتعيش الحياة متنعمًا كملك يأمر وينهى، يقرِّب وينفي؟ كل هؤلاء الحسان بحياتك وتدعي الفقر دون الحبيب المغترب!!

تستغل سلطانك وصك حبك بقلبي لتؤثر في قرار نصيب قد حكم، تعلم أن في عينيك عالمًا أعيش فيه عصور غرام، آتيه وأضيع بين أودية وجبال هيام تسكنهما، أغرق ببحار ناعمة من موج حنان ارتواء يحويهما، في عينيكَ رياح تقتلع أحزاني لتتركني طفلًا وليدًا بأجوائك.

في عينيك غابات تخبئ آهاتي وترسل لي فرحًا يعبِّقني، في عينيكَ دُفٌّ ومِزمار يُسلِّيانني لتنطلق من جمر بوحي أشهى الألحان، بهما حب وسهاد يغمرانني، يُنسيانني الآلام، في عينيكَ عاشقة للغرق مستسلمة لا أريد حتى تنبيهًا مِن غافلٍ مَرَّ لينقلني لواقع الأيام، من حبكَ وهواكَ الغالي أنهل شهدًا لتنير حياتي، أنت عطر أيامي وخمر ليلي الحلال المحترقة بوحدة هجر وفراق.

لكن.. أهذا إغراء كافٍ لأنسى واقعك وأعيش داخل أوهامي لأُجرح ثانية بأفعالك؟! هذا صراعي مع نفسي قرب قاتل أو فراق يعذب، حب خائن أم حبيب ضعيف؟ أقترب متناسية واقعنا، أم أبعد لأُنجي عقلي من هلوسة صراع دون طائل؟

آه منك حبيبي، أخرجني من هذا المأزق، اخترتَ البعد مرة، فلِمَ عدت لتشاكس قلبي وروحي من جديد؟ أتحبني أم أنا تسلية لوقتك بحب قديم؟ لم أعد أدري أو أستوعب أحداثي!!

تعبت وتشتَّتَ التفكير بين ما أحب وأريد وما أنا مضطرة لمعايشته يوميًّا في حياتي، أحب غادرًا يتباهى بغيري وفي الخفاء ينادي بحبي، ولا مجال لأحب شخصًا آخر ينادي ليل نهار بحبي.

حبيبي.. لستُ بديلًا ومُسكنًا، سُحقًا لك!! فأنا لست ببديل عنها، لستُ بِمُسَكِّن تنسى به أحزانك أو غدر أصفيائك، ارحل بهدوء ولتأخذ لعبك، حبك، كلماتك، أشياءك، لا يلزمني شخص منقوص مبتور يتلوَّى في جراحه.

لست بدواء لعصفور مذبوح يئنُّ بمشاعر قاتلة، ما زالت تتأرجح بتذبذب بين كنت وأكون.. يا الله، لِمَ أفقد إيماني بربي ولا أمتطي صهوة حصان بري جانح أشعث يجري دون لجام وفي مدار الدنيا يقيدني، هائمة دون دليل أو نقطة وصول لأشيائي حبيباتي؟! لا أرغب بتنين خلفي يقذفني بلهيبه في كل أوان ومكان، اذهب يا هذا، لا أرغب بأنصاف رجال، فهو أمر يثير الغثيان، أتهرب من تَخَفِّي ودهاء تلوُّن الحرباء لتقذفني معها دون مبرر في حرب شعواء؟

لستُ ببديل ومُسكن مُطيب، فكل هذا هباء.. وهيا أخبرني، لِمَ أحضرت هذه الثالثة؟ أتتلاعب بنا؟ أتخبرني بأن هناك من تعشقك، من تهيم بأرضك.. بسمائك وضيائك، من تعشق تراب قدميك وهواء أنفاسك المعطِّر للروح؟

أتحطمني بها لأهدأ وأعود لصقيعي مع أدراج الرياح؟ أهداك عقلك لقتلي بغيرتي واستخدم أغبى سلاح؟ أتريد مداواتي بالتي كانت هي الداء؟ أذاك صحيح؟! أتعتقد أنه لا يفل الحديد إلا الحديد فتتركني أراها؟ سُحقًا لك!!

لِمَ تقسو؟! تعلم أن القلوب بيد خالقها، ما أشد قسَوتكَ! القلب معك يومًا ويومًا آخر سيذهب عند الله، يالغبائك يا رجل!! أتعتقد أنك ستجمعنا بحبك؟! أنعالج ما بنا من مشاعر بعيدًا عن عالمك؟! لِمَ أحضرتها لتعذبني وتعذبها؟ ماذا دهاك؟!

أيا ربي.. ثبِّت عقلي وارحم قلبي من غباء مشاعر وأحاسيس. أيا ربي.. رتِّب فوضى غرام استعمر قلبي. ربي احمِني من شرور تتملك نفسي، ألهمني الهدى والعقل الرشيد. يا ربي.. ارزقني من يأخذ بيدي لطريقك القويم.

* * *

أرأيتم؟ هذا برنامجي المفضل، برنامج قصصي، سمعته حينما كنت أعيش بين جدران وحدتي، بلا صاحبة أو رفيقة، بلا إخوة.. فقط أمي وأنا.

فترة عصيبة كنت أشعر فيها دومًا بالتعب.. فقد أصبحت عبئًا حتى على كاهلي المُتعب.. ضائعة.. خائفة لا أعلم ممَّ.. أبحث عن أمان حتى إن كان سرابًا زائفًا.. أشعر بضياع غريب يملكني، يتحكم بتلابيبي.. كنت أريد بعضًا من الراحة النفسية قبل الجسدية؛ فروحي تؤلمني.

يعتصرني إحساس بالضياع والإرهاق، أريد راحة تنعشني، تعيدني للحياة.. أشعر بالاختناق من خيالي وظنوني وأوهامي أكثر من واقعي وخنقته.. كنت أحتاج فرحة كبيرة تملؤني، تعيدني لدنيا البشر كبسمة على الشفاه.. أريد زلزالًا وبركانًا يغيران خريطة وطريق كل ما أنا أمثله.. باحتياج للشعور بالحياة، أن أولد من جديد، أريد أملًا للحياة، فنحن بالحياة أطفال، تؤلمنا كلمة، وتعيد إحياءنا أخرى، فأدام الله لنا أحباءنا؛ فهم سبيل نجاتنا.

كنتُ مهلهلة من كثرة الجروح.. أطلب من دنياي الراحة والهدوء والموت.. كنت أرى أنها لا تراعي فيَّ ذمة أو ضميرًا.. كنت أسهر أطلب الرحمة فالروح منها باتت تشتكي.. ومن الأنين زادت الجروح، كانت غربتي من نوع الاغتراب الذاتي، اغتراب نفس وليس مكانًا، هو ألم وتصدع ذات، تخلخل للروح، تفتت لقلب بات من فرط الألم يعاني الهبوط بالروح للحضيض.

كان عليَّ المرور بمعركة فاصلة لأنجو مما أنا فيه، بيني وبين نفسي.. موتي فيها محقق وسط كم البؤس والعناء الذي أغرقت ذاتي داخله، سبيل النجاة الوحيد المتاح كان محصورًا بفوزي بقلب «مازن»، أو الموت؛ لذا أدعو ربي أبغى الغفران.

اتخذت خطوات دفاعية، أهمها: البعد عن البشر وعدم الاختلاط بأحد، كثيرًا ما تكون المسافات حافظة وليست فاصلة، فلله دَرُّ بشرٍ بالقلوب أساس على الرغم من استحالة الاقتراب، أو انتفاء تحققه، كم كنت أتمنى لو أصرخ وأعلنها بصوت عالٍ يكفي: اكتفيت منكِ يا دنيا حد الثمالة، تعبت ولم تعد لديَّ طاقة، أُرهقت من تمثيل دور الجبارة، صمتًا.. صمتًا.

أريد لحظتَي ضعفٍ عَلِّي أجد بعضًا من الراحة، آه من وجع سنواتي وانكسارات ظهري وضياع عمري، باتت الروح كزجاجة عطر مشروخة، لا انكسرت وأخرجت ما بها لبارئها، ولا هي بالجسد مستقره مستكينة، لِمَ الذعر يا روحي؛ فقدرك مكتوب ومنه لن تفري؟! ولكن.. آه وآه.. أعلنها: تعبت روحي من هذا كله، وأنتظر الرحمة من ربي القادر على كل شيء.

يا بشر، أخبرُوا الفَرح: يا هذا أنا هنا، هلَّا طرقت بابي رجاءً، بانتظارك أنا منذ زمن، قلبي منفتح يهلل بسعادة للقائك، إنه اشتهاء للقاء السيد فرح، فأنا أعشقك بعقل مجنون، أهواك حياة ووجودًا، نورًا وضياءً آسرًا يغطي كل الكون، أسعد الله صباحك ومساءك سيدي الفاضل.

* * *

«شهرنان».. حكاية اليوم عن قصة حب، ليست بين حبيب وحبيبة، هي قصة حب صديق وصديقة، أخ وأخت، مشاغبات وجنون صداقة تعيش بين أرجاء الدنيا، ستشاغبنا الفتاة بالحكاية.

صديقي مشاكس يدعوني لأمور تُجِنُّ، يرغب بألعاب تُرعب حتى الجن، مؤذٍ يتمناني قرينًا لألعابه، مشارك فعال في صولاته وجولاته، لا يدري أني أخاف السقوط من شرفات سماوات عليائه؛ فمَطالبه عاجية النظرة، وأتربة أحلامه دموية، ونجوم حياته نار سحرية تحرق مَن مِنه يقترب وينسى بشرية صفاته.

ينسى أني إنسان لي مطالب أخرى، أحلام ورغبات وطُرق ودروب بمسالك مختلفة، لكنه دومًا أناني النزعة، ويعشق مُشاغلة أحلامي وكتاباتي.

أحب أيضًا مشاكسته في حزنه لأُثير جنونه وغضبه، أناديه بدلال وأقول وكأني حبيبة تسكن واديه: يا أنت.. تعالَ وأخبرني، لِمَ تبدو ناحل الجسد وشاردًا؟! لِمَ أنت ذاهل عن دنيانا؟! أشعر أن بداخلك بحرًا هادرًا.. بُح بمكنون صدرك من حزن علِّي أروِّح قليلًا من هذا المارد، لكني ولأثيره أنهيها بجملة: ألسنا أخوي دين وحبيبَي كلمة؟ فلا تتركني وتغادر.. أعشق نظرته الغاضبة، تلك الهزات الأرضية المعتمرة جسده لمعرفة تعمدي تمثيل دور المحبة ببرود.

قد تتملكني حالة عشق بلا دليل ولا عنوان، فأذهب لأغني له لأخرج طاقتي من هذا الخيال؛ فهو مثلي ويعلم ألعابي ولا ينسى يومًا حاله ليكلفني ونفسه ما لا يطيق.. أحب أن أغني له: يا أنت، قلبك صادق، أعلم هذا، قد يدمر ويكسر لأجلي، وبسعادة.

قلبك يرسم ويملأ حياتي بكل ما هو جديد مزهر، تظلل سمائي بغنائك، وضحكتك تحبسني داخل روحك بهيام، هل أنت حبيب يعشق دفئي ويتمنى قربي وإن كان الثمن الموت وحيدًا عن باقي البشر؟! صدقًا أعشق ابتساماته عند مشاغلتي إياه كي أخرجه من حزنه لكونه وحيدًا دون حبيب.

أنا وصديقي أعزبان، لكن خارج إرادتنا، ومع ذلك نعيش وسط زمن عاتٍ نجمِّله برواياتنا، نضحك ونقاوم حتى آهاتنا؛ فنحن من بني الإنسان أولاد آدم ننتظر الآتي بحياتنا، نحلم وننجح ونفشل.. ومع هذا نخطط لأحلامنا.. أعزبان لكننا نعيش ببراءة معًا لأوقاتنا.

* * *


أيام صعبة

ما زلت أتذكرُ تلك الأيام الصعبة.. فهي سبب ما أصابني وحبسني بكرسي ثنائي العجلات لفترة لا بأس بها، لأتحرك بحساب وأغلق على ذاتي، أتقوقع بكل ما تحتويه الكلمة من معانٍ.. حرمتني من حبيبي لفترة طويلة.. ليزيد توحدي مع ذاتي وكوكبي المغلق.. المغلف بالسواد.

أحداث حوَّلتني من طفلة مشاكسة عنيد تبلغ الرابعة عشرة، إلى أنثى في العشرين من عمرها هادئة كسول، لا هدف لها بالحياة.

سنوات عجاف عشتُ منها سنتين وسط أجواء حرب أهلية، كنت بقمَّة بؤسي فيها، ثم ثلاث سنوات أخرى كل ما أفعله هو كتابة كل ما أتَذَكَّرهُ أو يمر بي من أحداث، أدوِّن ما أسمعه من أصدقائنا القدامى، الذين يأتون أحيانًا للاطمئنان على أحوالنا، ومن أقاويل الجيران القادمين للزيارة أو لتسلم ما حاكته أمي لهم من ملابس، أو لتبادل الأحاديث في جلسات نميمة معلنة مغلفة بدعوة لتناول كأس شاي.

أُتابع ثرثرتهن عبر غرفتي.. وكيف لا؟ فمنزلي ما هو إلا غرفة أقبع بها ليل نهار، ومطبخ ودورة مياه كل منهما لا يتجاوز المترين، وصالة واسعة تحيك أمي بها الملابس للجيران نهارًا، لتنام قتيلة جواري ليلًا، ثم تعاود دورانها في ساقية الحياة باليوم التالي لتستطيع إعالتنا.

بين ليلة وضحاها تبدَّل الحال، بعد أن كُنتُ «عائشة»، تلك المدللة من أبيها «عزيز» وأخيها الوحيد «جاسر» وأمها الحبيبة «حبيبة»، أعيش حياة رفاهية في عز والدي تاجر المفروشات يدوية الصنع، تحوَّلت بعد فراري مع أمي، من الأردن إلى لبنان، حيث يُقِيمُ عمي «نواف»، إلى فتاة تعيش عالة عليه وعلى مساعداته الشحيحة كل شهر أو شهرين، متعللًا بسوء الأحوال.

يسأل عنَّا باقتضاب وعن أحوالنا، كأنما يخاف أن نسأله شيئًا فعليًّا، ثم يذهب إلى حال سبيله، ولولا خوفه من تعليقات الجيران وأصدقائه لتركنا دون سؤال.

بعد الحادث تحوَّلت لفتاة كسول، أخاف الناس والدنيا، قابعة داخل حجرتي، تحوطني جدرانها الأربعة؛ فهي أماني الوهمي، أصبحتُ بلا هدف سوى تسجيل كل ما أراه وأسمعه في مذكراتي.

حالة خوف من المجهول؛ فهو أكثر ما يُرعبنا صحوًا ومنامًا، فوبيا البقاء، بطولة الذات العلنية في مقابل ضعفك أمام ذاتك الداخلية، كان الحب والرضا والقناعة والأحلام في حياتي السابقة مصدر أماني، أما الآن ففي دقيقة واحدة واجهت الموت والخوف بكل أنواعه لأتساءل: ما مصيري بعد الموت؟ ما الذي قدمته؟ وماذا سأنال؟

اكتشفت أنني مجرد إنسان يبحث عن الأمان وسط قلوب البشر فلم يجده، تحوَّلت إلى إنسان يرغب في لملمة شتات الروح، يريد نسيان ما مضى من أوجاع وآلام..

إنسان تائه في ملكوت الحي الديَّان، واهم حالم متخيل لكل الآمال، مجرد إنسان محب للخير فاعل للآثام، بسيط لديه غرور طاووس، محب للحياة متمنٍّ لفردوس الرحمن، متأمل في ملكوت الخالق عابث لاهٍ في دنياه الفسيحة..

أنا «عائشة»، مجرد إنسان، للحظة أعيش خائفة مما قد يجلبه المستقبل القريب من آلام، للخير توَّاقة مشتاقة، وللحب والأمان باحثة بجد، للحنان والحب كنت مانحة، فأنا مجرد إنسان يعيش الحياة مجبرًا.

لذا، اعتدتُ وضع آلامي بكفن وحنوط تحت أديم الأرض، أرويها بدموع خذلاني وإرهاقي، أغطيها بدعوات لربي القدير، أزورها بين الحين والآخر داخل طيَّات نسيان ذاكرتي، فأجد خالقي الأكرم والأرحم من عبيده بعبيده عوَّضني وبدَّلني عنها الخير الكثير، فيكفيني وجود أمي جواري.

هذه هي الحياة، وهذه هي الدنيا..

يوم إحباط أسود كأديم الأرض قاتل للإحساس، ويوم ناصع النقاء كيوم النيروز يملؤك بطاقةٍ وحب، أحبك ربي ولديَّ ثقة الكون كله فيك، لكني متعبة.

* * *

«شهرنان».. هل مر عليكِ يومًا حبيب غادر أو حبيبة قاتلة يصران على العناد وكأن اللؤم في الحب هو الأساس؟ أخبرينا اليوم عن قصة فيها غباء المشاعر هو السائد، ما نهاية المغدور به؟ كلمات إهداء لمن غُدر بها أو غدر به؛ فالحياة بها هذا وتلك.

انزاحت الستائر عن شخص رائع القسمات كما الأساطير، بعينين ساهيتين وبصوت رخيم مليء بالقسوة والغرور ينادي على فتاة ملقاة على الطريق قائلًا:

يا من تنوح من غدري، وبصخب تثير أقاويل عني، يا من تتغنى بأشعار ومواويل تصف هوى كان بها يجمعني، صوتك يا هذه بات يزعجني، وقصك لروايتنا الممزقة صار مؤرقًا لدربي، ما عدتِ تسلينني بحركاتك، ولا عادت تجذبني أحرفكِ الوردية.

أتريدين سماع حقيقتك عندي؟ فهلمِّي على عجل واسمعي ردي، لن أجمِّل حقيقتك ومن أنتِ في حكيي، يا من كانت وما زالت لعبة هواها قلبي، يا سخف أفكارك وسذاجة عقلك أنتِ.

أتظنين حقًّا أنك يومًا كنتِ ملاكِي، وقعتِ بفخي وصرتِ من أملاكِي، اذهبي فوجودك يثير استيائي وسخطي لكيانك، بعد أن كنتِ أمتع نزواتي ولذاتي.

نعم، أنا استمتعت بإيذائك أنتِ، ووجدت ذاتي الأنانية فيكِ، عمَّرت رجولتي بشظايا كسرك، وتطاول بنائي بعمرك أنتِ، على صوت غنائي على حسابك، كنتِ نزوة من ضمن نزوات حياتي، أضحوكة بها أُكايد باقي الفتيات بسبيلي، ما كنتِ عندها إلا ماء أشربه لأضيِّع وقتي بين الوجبات، ملخص شرح لأستكمل درجاتي، سلَّمة أخرى لأصعد عاليًا في سماواتي، بوَّابة أفتحها لأنتقل لأخرى بعد تشبعي ببراءة رحيق رأيته يملؤكِ، لم تكوني إلا تسلية وهواية كألعابي، فما كنتِ يومًا حبيبة وأملًا بأحلامي.

يا أنتِ.. أنصتي بتمعن، إن عاد الزمن سأعود كما كنت معكِ، لن أرسم براءة لأرضيكِ، فأنتِ كنتِ عندي وسيلة وغاية، ولأجلك استخدمت كل غواية لأصل لمآرب أخرى في دنيا الغاية.

فهيا، لملمي أوراقك وأحبارك وكفكفي دمعك، فما أنتِ لي غير مرحلة بنهاية، ونحيبك هذا لا يمثل عندي سوى إزعاج ذبابة، فيا أنتِ ارحلي عن واديَّ ودنياي.

* * *


أيلول الأسود وغيوم النهاية

أتعلمون لكم أشتاق لحياتي بالأردن.. يوم كُنا عائلة لا يفرقنا شيء، يجمعنا الحب والأمل، لم يُنَغِّص عيشَنا إلا تناحر الحركات الفلسطينية مع أفراد قوات الأمن الأردنية؟!

والدي لبناني من أصول مصرية، لا يهتم كثيرًا بالسياسة ومجرياتها، ووالدتي فلسطينية المولد والجنسية، هاجرت للأردن منذ سنوات طوال بصحبة ذويها.

كان أبي يقول: عيشوا الحياة بسعادة، لكن أن تتصنعوا السعادة فلا تمارسوا هذا الفعل كثيرًا، اكتفوا بالابتسامة، فهي كفيلة بحل جميع الأزمات، أما تصنُّع السعادة، فإما أن يحولك لشبح إنسان وشخص لا مبالٍ، أو يوقظك يومًا وأنت تسقط عميقًا في بئر أحزانك دون هوادة، ابتسموا بالله عليكم، ابتسموا، لكن لا تتصنعوا السعادة، فنهايته غير مضمونة العواقب هذه الأيام.

تعرَّف والداي بالأردن، وتزوَّجا زواجًا تقليديًّا كما تقول أمي، عرَّفه عليها أحد أصدقائه، أعجبته فتقدم لها، عيناها كعيون المها أورثتني إياها، بشعر أسود يتمايل مع تمايل خصرها، لونها الطحيني أثاره يوم رآها فأصرَّ على الارتباط بها، يرى جسدها حصانًا بريًّا نابضًا بالحياة، أحبها منذ النظرة الأولى، أو ربما كما يُحب أن يقول ليُغازلها أمامنا، مما يُثير غضبها، إنه أحبها من الميلة الأولى لخصرها.

أما أمي، فتقول إنها انجذبت إليه لابتسامته الواثقة وروحه الخفيفة، شعرت أنه رجلها الأمين، من تثق في إيداع عمرها بين يديه دون خوف، من تتمنى منحه أولادًا يحملون اسميهما معًا، أطفالًا يرثون صفاتهما معًا بمزيج خاص، كانت تتفاخر أمام الأصدقاء دائمًا أنها ستنجب له أولادًا مميزين.

ورثتُ منها الشكل وتقسيمات الجسد، بعينين بنيتين مسحوبتَي الجانبين، برموش سوداء كثيفة، وجهي بيضاوي يناسب أنفي الصغير، وفمي المرسوم كما زخرفة آشورية بدقة فنان.

ورث «جاسر» فلسطينيتها الأصيلة، ومن أبي الجسد الرياضي قوي البنية، كان ممن انضموا لإحدى الحركات الفلسطينية المتكونة دفاعًا عن قضية يرونها أمًّا وهدفًا وحياة.

أتذكر بدء حدوث اشتباكات مستمرة بين الطرفين (الفصائل وقوات الأمن الأردني)، وقلقنا والفزع المُتَمَكِّن دومًا من أمي عند سماع أي خبر؛ فمنذ عام 1968 وحتى أواخر العام التالي وهذه الاشتباكات مستمرة بعنف شديد.

حاول أبي كثيرًا ثني عزم «جاسر» عن انضمامه للمقاومة، ليركِّز في دراسته الثانوية، حاول إقناعه أنه عن طريق التعليم يمكنه أيضًا خدمة وإفادة القضية، لكن «جاسر» لم يقتنع أبدًا، فقد كان مقتنعًا أن ما سُلب بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة ثانية.. أن التفاوض وهذه الأساليب الدبلوماسية ما هي إلا وسائل يتقوَّت عليها الضعفاء، وهو وإخوانه ليسوا بالضعفاء.

كانت أمي تهوِّن علينا الأمر وتطمئننا أنا وأبي، قائلة: إن الأمور ستكون على خير حال؛ فـ«جاسر» بطل ولا داعٍ لخوفنا عليه، هو رجل بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، علينا التفاخر بكوننا ذويه، على الرغم من أنني كثيرًا ما شاهدتها باكية تحتضن صورة «جاسر» جالسة على سريره، لم تكن تستطيع كبح جماح قلقها بعيدًا عنَّا.

جاء أبي يومًا واجمًا ليُخبرنا بِمَقتَل صديقه «مُصعب» بأحد هذه الاشتباكات، لتبدأ الأحوال تتبدل والخطط تتغير، ما أدى إلى أن يعيش «جاسر» صراعًا خاصًّا بين قضيته وحب أبي الخائف والملتاع على ولده؛ فهو ما زال يراه طفله الصغير، يجب أن يلهو ويعيش سنوات عمره بفرح، لا أن يحمل سلاحًا ويتنقَّل هنا وهناك، يستمر في الهرب من السلطات الأردنية التي تسعى خلفه هو وزملائه.

يرى ساسةُ الأردن أن الفصائل تحاول فرض نفوذ وسيطرة داخل العمق الأردني، إلا أن «جاسر» ممن يرون أن القضية هي محاولة إقامة كيان آمن لمن يعيشون خارج أرض فلسطين، كي ينطلقوا بحرية لمحاربة هذا الكائن المُستَولي على أراضيهم وديارهم غصبًا وقوة.

ذهبتُ لغرفته يومًا لأتحدث معه، لعلِّي أستطيع إقناعه بعيش حياة هادئة كما كنا، فلم أكن من المهتمات وقتها بالقضية الفلسطينية ولم أستوعبها، كل ما كان يشغلني هو قراءة الروايات وسماع الأغاني وارتداء كل ما هو حديث في عالم الموضة.

«عائشة»: جهزت لك ملابس الغد، أتريد شيئًا آخر؟

«جاسر»: شكرًا جزيلًا أختاه.

«عائشة»: هل أجهز لك شيئًا تأكله؟ أوصتني أمي أن أهتم بطلباتك الليلة فهي مرهقة وذهبت للنوم باكرًا..

«جاسر»: أهي مريضة؟ ماذا بها؟ سأذهب لأطمئن عليها.

«عائشة»: لا داعٍ، كانت وليمة عرس «ليلى» جارتنا اليوم وأمي كانت تساعدهم منذ الأمس، لا شيء آخر، لا داعٍ للقلق.

«جاسر»: آه حسنًا..

«عائشة»: أمتأكد أنك لا تريد مني أي شيء؟

«جاسر»: لا، سلمتِ لي، اخلدي أنتِ للنوم.

لم أتحرك من مكاني وتصلبت، لكنني لم أدرِ ماذا أقول وكيف.. لمح «جاسر» في عينيَّ ما أريد قوله.

«جاسر»: حسنًا يا «عائشة»، أدرك ما تريدين قوله، لا أريدك أن تتفوهي به، أنا رجل ولست طفلًا صغيرًا، أنتِ أختي الصغرى، أنا من أخاف عليكِ وليس العكس.

«عائشة»: تعلم أن أمي وأبي قلقان عليك بشدة، أنا أيضًا، خاصة بعد تصاعد الأحداث الأخيرة.

«جاسر»: يا «عائشة»، دومًا ما كنت أحمي نفسي بنفسي، عند الخطأ أتحمل ذنب أفعالي، أشعر بالقهر والعنف والقسوة مما يحدث لزملائي ولوطني المسلوب مع نفسي، أغضب وأثور وأهدر مهددًا الخونة والظلمة مع نفسي، أبكي وأنكسر بضعف وأصرخ بداخل نفسي، فلا سبيل للتعبير عمَّا أريد، حتى سنحت لي فرصة الدفاع عن حقوقي؛ لذا خبَّأت براءتي وطفولتي داخلي، فلا مجال لهما الآن، وطني يناديني، وهذا ما لا يستوعبه أبي.

سأخبركِ أمرًا آخر: لم أرتَح وأعلم أن ما أريد فعله حق حتى خرجت للعالم ورأيت كل شيء على حقيقته، بعيدًا عن دلال أبي وأمي لنا، صُدمت من أشياء كثيرة، لجأت لغيري لينصحني ويفهمني فتعلمت..

تعلمت كثيرًا جدًّا عن الدنيا والحياة «عائشة»، أُهنت وغُدر بي وابتُليت بأناسٍ وما زلت أُتعب نفسي لأني لا أريد أن أكون هامشًا في الحياة، كبرت وتغيرت كثيرًا عن ذاك الطفل المدلل، أخيرًا وجدتني ووجدت هدفي في الحياة ولن أتنازل عنه مهما حدث «عائشة».

«عائشة»: حسنًا، لكن عدني أن تكون دومًا بخير.

«جاسر»: تذكريني في صلاتك بدعوة حبيبتي.

«عائشة»: كم ستدفع؟! (قُلتها ضاحكة).

«جاسر»: قبلة على خدك الأيمن وأخرى على أخيه الأيسر (واقترب مقبلًا إياي في حنان).

«عائشة»: قبلت، تم الاتفاق، أريد الكثير منها مقدمًا، هيا زدني، هناك خمس صلوات يوميًّا (قُلتها باسمةً بدلال).

«جاسر»: ههه.. لكِ كل ما تريدين أيتها الشقية.

* * *

«شهرنان».. هلمي وابدئي سرد الحكاية، الجميع متشوقون والأسماع إليك موجَّهة، أحضري أبطالك ليجسدوا دون مقدمات الرواية.

فُتحت الستائر وهَلَّت الحبيبة مناجية الحبيب قائلة:

حبيبي الغالي..

حبي المجنون لعينيك يا أسمر القسمات يذكرني بقصة حُب «زُليخة» لـ«يوسف الصديق»، كم تعبت وضحَّت ليرضيها رب السموات بنيل مرادها والزواج من عشق العمر، جازفت بالسمعة والثروة والسلطة لتنال قربه، غامرت بكل ما هو مألوف لتنال وصاله.

أتعتقد أني - ولو بقدر بسيط - قد أشبه قصتها بتعلقي وعشقي لك سيدي، ضعيفة أنا لا أملك قواها وعناد تملكها لتنال هوى الحبيب؟ أتعتقد أني سوف أقاسي في حبك صنوف وألوان عذاب هجر وفراق لضعف إيماني، أني قد أصير يومًا جائزة سماوية من رب عليم قادر لأنهل من قربك وأعوض حرماني في قرب يشملنا، أعوض ما فات ويفوت من أيام بعيدًا عن عطفك وحنانك؟

حبيبي..

أتعتقد أني إذا أكثرت عبادتي وقربي لرب العُلا يمكنني تغيير قدري لأنال حبك وفي يوم أسعد بلقائك وحب حانٍ يغمرني معك بسخاء؟ هل سيأتي يوم أشتم عطرك وعبير حناياك واقعَ حالٍ، واقعًا فعليًّا منظورًا وليس خيال عاشقة مجنونة متعلقة بأشباح وأوهام وجودك بقربها؟

حبيبي..

أتهدأ وتستقر روحي يومًا بجوار روحك في سكينة، ينطلق الفرح من داخل قلبي ليعم الأرجاء بسعادة وغناء وهناء؟ أتعتقد بصيرورة هذا على الرغم من أنك لست بربع صفات «الصدِّيق يوسف» وأنا من أنا؟! فلستُ بالتائبة الناسكة بعد هوان العشق كالسيدة «زليخة» ليرضيني ربي بنيل هوى وعشق كان سبب جنوني وعزوفي عن غيرك.

ربي.. أشكو إليك ضعفي وهواني على نفسي قبل حبيبي وقبل الناس، أرجو عفوك ورضاءك ربي، فاغمرني بتوبة ومغفرة تنسيني ضعف الحال وتنقلني لمصاف محبيك الأبرار. ربي.. اشفِ جراحي وضعفي في مواجهة الدنيا وأصلح لي الحال. ربي.. عوِّضني بخيرك عن آثام عشتُ بها وتمنيتها بحب وترحاب وحنان.

* * *


«جاسر» والمقاومة

لم يستَوعِب أخي ولا أصدقاؤه، خاصة «مازن» صديقة الأشد قربًا لقلبه وقلبي - فهو حبي الصامت - أن أهدافهم تعارضت مع أهداف وإرادة الحكم الهاشمي الإيراني.

وبما أن «جاسر» لم يستطِع مقاومة طلبات والدي بالاهتمام بنا أكثر والتخلي عن أصدقائه، لكونه الوريث لثروته ورجلنا من بعده، فقد اتخذ قرارًا بالهروب من المنزل.. ذهب مع «مازن» ليقيما مع باقي أفراد المقاومة في أحد المخيمات، مناضلين لتحقيق أحلامهم.

ابتعدَ عنا كي يعود لحربه مع زملائه بمنظمة تحرير فلسطين، لتمر الأيام ثقيلة على قلبي أمي وأبي خوفًا وفزعًا على ابنهما البكر.

حتى جاء صباح يوم 11 فبراير؛ حيث وقعت مصادمات بين قوات الأمن الأردني ومجموعة فصائل فلسطينية وتصادف مرور والدي من هناك، ليُقتَلَ وسط شوارع عَمَّان، ومعه 300 قتيل آخرين، عرفنا بعدها أن أغلبهم كان من المدنيين.. تساقطوا كما قطع الشطرنج دون جريرة سوى وجودهم بمكان لعبة حُبكت خيوطها لأهداف خاصة.

غطَّى السواد حياتي مع أمي، وأظلمت دُنيانا بعد موت أبي وغياب أخي المُستمر، أُقيل وقتها وزير الداخلية علَّ ذلك يُطفئ فتيلًا مُشتعلًا بشوارع عَمَّان، لكن الأحوال ساءت أكثر، لنفاجَأ بـ«مازن» يومًا آتيًا يطالبنا بضرورة الانتقال للإقامة في مخيم البقعة، مثلنا مِثل الكثير، كي يطمئن «جاسر» علينا؛ كوننا وسط أناس يحموننا، رتَّب هو و«جاسر» كل شيء فذهبنا معه بعد حمل ما خفَّ وزنه.

بالتأكيد لم أمانع، بل سعدت بالأمر، كنت أظن أنني هكذا ستُتاح لي فرص لقاء «مازن» أكثر، اعتقدت خطأً أنه يقيم هناك، ووافقت أمي لموافقتي.

سأخبركم عن «مازن».. هو أصغر أخ لخمسة إخوة ذكور، ينتمون للفصائل الفلسطينية، وقد استُشهد اثنان داخل فلسطين بإحدى الهجمات، والثلاثة معه في حركة المقاومة بفلسطين، كان يتنقَّل بين فلسطين والأردن لعمله في التجارة مع عمه منذ صغره، ثم تركه منذ فترة ليتفرغ للإقامة في الأردن مع أصدقائه لجلب المساعدات لزملاء كفاحه في فلسطين، والده استُشهد في صغره، ووالدته قامت بتربيتهم جميعًا على أنهم شهداء منذ الصغر، كانت تخبرهم دومًا أنها أنجبتهم ليحرروها هي وفلسطين، لا ليعيشوا ضعفاء أو جبناء.

يملك عينين غارقتين في السواد، له نظرة ساحرة تلمع في الضوء كما الشمس، كلما رأيتها تورَّد وجهي خجلًا، لأبتسم غصبًا عني فرحًا برؤيته، يداه قويتان تضمان يدي بحنان عند سلامه المقتضب، كنت دومًا البادئة بسلام اليد لأحظى بفرصة مس كفه، يتحدَّث بلباقة شديدة وهدوء على الرغم من قوة صوته، ناظرًا إلى الأرض، وجهه شديد الاستدارة أسمر اللون، طويل القامة، مفتول العضلات كما نجوم السينما.

لم أرَه يومًا ينظر لي أو لأمي على الرغم من حبه الشديد لها، وكثيرًا ما يناديها أمي.

يا ربي، دعنا من هذا.. كثيرًا ما اعتقدت أنه يدرك إعجابي وهيامي به.. لكنه لا يُظهر أي رد فعل مما يُشككني في هذا الأمر، أعلم أني واهمة، كيف يدرك أمري وهو غارق حتى أذنيه مع أخي في صراعهما ضد الاحتلال الإسرائيلي؟!

دعنا مني ومن مشاعري الآن ولنعُد للأحداث السياسية، استمرت الأحداث في التصاعد بمحاولة اغتيال الملك حسين بمنطقة صويلح ثم نجاته من محاولة أخرى لتزيد المصادمات وقُتِل حوالي ألف شخص خلال عام 1970، ومع هذا استمرت منظمة التحرير في مهاجمة إسرائيل دون مراعاة لرفض الجيش الأردني تجاهل وجوده، ما أوغل صدور قادته عليهم، خاصة أن رد فعل هذه الهجمات يكون على المدن الأردنية ذاتها.

وصلتنا أقاويل وشائعات عن اشتراك «مازن» وأخي في محاولة الاغتيال، لكن لم تُتَح لنا فرصة التأكد، فلا هذا ولا ذاك يأتي لنعلم منهما صحة ما يُقال ويُشاع، لتزيد أمي من صلواتها ودعواتها ليلًا لـ«جاسر»، مقاومة البكاء خوفًا عليه، توشي بها شهقاتها التي تتوالى بضعف، فأين هذه الأم التي تتحمل إصابة ابنها بمكروه مهما كانت تراه بطلًا؟ نعم، هو بطلها على الرغم من كل هذا القلق والخوف، اللذين زادا أكثر عندما بدأت الاشتباكات تزداد عنفًا؛ فقد أصبحت أكثر ضراوة وتصاعدت أكثر في 6 سبتمبر 1970 حينما خطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ثلاث طائرات متجهة إلى نيويورك.

* * *

«شهرنان».. أنا من سأخبرك قصتي، فاتركيني واصبري على حالي وتردُّدي.. أحببت وذُبتُ هيامًا حدَّ الرقص جنونًا على أعتاب عينيه، فما كان منه إلا أن سافر بعيدًا عن كياني مدَّعيًا عدم كفاية حبي، لا لنيل تصريح دخول مدينة قلبه، ولا تذكرة سفن خياله، لم يعد من حقي الإشارة إلى أشرعة غرامه الماسية.

حبيبي ابتعدَ عن هواي، وعليَّ أنا العاشقة الولهانة التعوُّد على مُرِّ فراقه وغيابه وحنين أشواقي لعينيه، التعوُّد على أن فرحتي من داخل قلبي أتوهمها، آه يا قيود سجنتني في عقود وأزمان غابرة.

حاولت إفهامه بصمتي، لم يفهم حبيبي أن به كل الكلام، صمتي بحر غاصت فيه مشاعر صفاء ومودة كانت تجمعنا؛ فبالصمت سماء تسبح فيها أحاسيس هيام وغرام.

الصمت عالم وكون خاص، الوحيد القادر على الرغم من اختلافنا على أن يجمعنا ومن دون كلمات، هو نبرات وإشارات حوتنا وتنهَّد قلبانا وسط صمت الآهات، لكنه تركني ورحل.

حبيبي.. يا عشق يسكنني ويتسلل بخلايا الدم كنمل أبيض ينغزني، يا دبيب النفس ببرود يتنزه بخفوت داخلي، يا حب يستعمر عمري ونبراتي، يا كلمة تستأثر بنصيب الأسد من كل حكاياتي، يا من شذب هياكل خيالي بسطو على أعلام أحلامي الرفرافات وشكَّلها كما يتراءى لخياله.

يا شبح من ماضٍ سحيق، زمن روميو وجوليت وغراميات شكسبير وفولتير يجمِّل كتاباتي، يا من روى عطش ليلي بغزوات أساطير تحتل النفس والتكوين بهدوء السلاطين، هلَّا أخذت ظلك بعيدًا عني؟

أنا ما بين فكرة وأخرى أتنقَّل بين سحب خيالي معك، أسبح وأطير لألمس قمر أحلامي بين أحضانك، لكني دومًا أسقط مستيقظة على فراقك، لأبدأ من جديد خيالاتي معك، وفي كل بداية عالم آخر يولد ويتكون بين فكرة وأخرى لأظل معك.

«شهرنان».. بعد رحيل الأحبة نموت حينًا وندَّعي الحياة حينًا؛ ففي النهاية لا يموت من الحب كثير، ونحيا الحياة شئنا أم أبينا، رغم أنوفنا، وسط جراح وظلم يعشش في قلوب المحبين بعنف، ولن يكون هناك بديل لمن نحب.. لكنها الحياة دومًا تسير.

أيا عيونًا بالدمع الغزير دومًا تسيل بوجع وأنين، أما آن الأوان للكف عن النحيب والعيش بعيدًا عن عالم المنكوبين المكروبين المزيفين؟ أما آن الأوان أن تعيشي بفرح وهناء تاركة الفرح والابتسام في الأجواء لمن حولكِ من المغرمين؟

اتركي البكاء والعويل، ارحلي لعالم السعادة والحنين، عيشي باقي حياتك مودعة لزهورك وللياسمين في قلوب المحبين العاشقين، وحتى للأعداء الحاقدين..

ازرعي الجمال والحب في عيون أحبتك لتزدهر بدلًا من الذبول والعبوس في وجه السنين، ما الحياة إلا أمور قد جرت بها المقادير على مرِّ السنين، اقبليها واستمري في الحياة مع المطمئنين..

اسعَدي وأَسعِدي وارتقي ونالي من محاسن الدنيا بكل خير وحسن المحبين، احصلي على ما كتب لكِ وعليكِ.. يا عيني الحزينة لا تبكي.

* * *


اختطاف

المختطفون أجبروا اثنتين من الطائرات المختطَفة على الاتجاه لمهبط في الأردن، والثالثة اتجهت للقاهرة ليفجروها عمدًا، ثم بعد ثلاثة أيام خطفوا طائرة أخرى وهبطت أيضًا في مهبط دوسون (قيعان خنا)، وذلك لمحاولة إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين بالسجون الأوروبية.

رُفض طلبهم، فما كان منهم إلا أن أطلقوا سراح الركاب، وفجروا الطائرات الثلاث.. ثم أعلنوا إقامة سلطة وطنية فلسطينية داخل الأراضي الأردنية، لتبدأ رحلة نهاية وجودهم تُخَط وتُحدد.

أخبرني «مازن»، فيما بعد، أن صديقه «عيسى»، الذي كان مع المختطفين، قصَّ عليه مدى توترهم داخل إحدى الطائرات ما بين عدم رغبتهم في تفجير الطائرة وعدم إيذاء الرهائن، وبين قرار مواجهة السلطات الرافضة لمطالبهم ومحاولة إجبارهم على قبولها، وأن ذلك هو ما أوصلهم لهذه النقطة.. مرَّت عليهم ساعات عصيبة، حتى أعطاهم القائد أمرًا بالإفراج عن الرهائن وتفجير الطائرة، ما أدى إلى أن تُقرر القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية بعمان ضرورة توجيه ضربة استئصالية ضخمة إلى المنظمات الفلسطينية داخل المدن الأردنية.

بالتبعية شُكلت حكومة جديدة وكّل إليها أمر تحرير الرهائن بباقي الطائرات وتصفية وجود الفصائل الفلسطينية العسكري داخل المدن الأردنية، التي أصبحت تشكل عبئًا كبيرًا وسببًا للفوضى داخل الأردن، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد.

فقد باتت المطاردات بين الأمن والفصائل مُعلنة ومستمرة، أفراد الفصائل مطلوبون أمنيًّا، يتم القبض عليهم والتحقيق معهم عن أنشطتهم بكل السُبل، حياتهم أصبحت كابوسًا مرعبًا، تحولت حياتنا نحن أيضًا، المنحدرين من أصول فلسطينية وأهالي أفراد الفصائل، إلى مسلسل رعب، ما بين التقطع خوفًا على مَن مِنا ينتمون للفصائل، وبين رعب الحياة ذاتها وسط خضم هذه المطاردات الأمنية.

قامت الحكومات العربية بتهديد الحكومة الأردنية، وكان ضغط الشارع العربي يتزايد، إلا أن عملية الحشد حول عمان والزرقاء استمرت لمطاردة الفصائل.

أرسلت الحكومة الأردنية مجموعة من الضباط إلى ياسر عرفات للمفاوضات، الذي رفض وأرسل محمود عباس للتفاوض عن الطرف الفلسطيني.

لم نكن نعلم وقتها أن الهدف من هذا التفاوض هو إعطاء الجيش الأردني الوقت الكافي لنصب المدافع في مواقع حساسة وإتمام عملية الحشد، بالإضافة إلى إعطاء صورة بعدم جدية الجيش الأردني في القيام بأعمال عسكرية؛ حيث سُربت أخبار فيما بعد عن أن تطمينات عربية كانت قد وصلت إلى عرفات تؤكد عدم جدية التحركات العسكرية الأردنية.

لكن ما حدث في اليوم التالي هو أن الجيش بدأ بتنفيذ خطة «جوهر»؛ حيث بدأت الدبابات والمجنزرات الأردنية بالقصف المدفعي العنيف على مواقع المنظمات الفلسطينية.

قامت المجنزرات باقتحام مخيمات الوحدات والبقعة وسوف في عمان والزرقاء.. ما زالت أصوات الطائرات وسقوط القذائف من حولي تدوي في أذني كلما تذكرت هذه الفترة، مصحوبة بأصوات فزعة لجيراني، كانت الدماء تتناثر حولنا في كل مكان، كل شيء يطير، رائحة احتراق المخيمات تخنقني، الصراخ والعويل بكل اتجاه، بحث الجميع عن الجميع.

* * *

«شهرنان».. يا مغردة وسط قلوب العباد، يا مشاغبة ومداعبة لآذان عشاق القصص والروايات، قصي علينا عن ذلك الباسم القسمات والهادئ النبرات، موزع فرحته على كل من هو قاصٍ ودانٍ، هاك الرجل صاحب الضحكات المغرقات، المشاكس بطلَّته لأفئدة العذارى وأجمل الجميلات، احكي عمَّن هوته وملكته العمر تاجًا، ورأته نبراسًا ومنارًا بالحياة.

«شهرنان» منادية: هلم يا أنت يا مشاغب، يا من لقلوب الفتيات بدفء دومًا يداعب، يا مشاكس لأقاصيصي وحكاياتي، هلم وأخبرنا قصة حبك الأثير، احكِ عن تلك الفاتنة الناعمة سارقة قلبك الرفيق.

هَلَّ الوسيم بضحكة خافتة وإشارة موافقة، ليبدأ الحديث بلسان حال تعيس ليُخرج من ماضٍ ظنه سحيقًا حكايته وما آل إليه مآلهما في الختام، شارد الذهن متألمًا لتذكر جرح بقلبه ما زال ولا يزال وسيظل، فقال:

قصتنا تحكي عن شخصين جُرحا؛ فقد رأته ملاكًا ورآها نهر الكوثر، فاعتقدا أنه حب أعظم مما قرآ أو سمعا، قصة قد تُروى بكتب التاريخ البشري كعلامة فارقة في زمن القهر البشري، ظنا حبهما أكبر من أن يُمسخ وتتشوه ملامحه بمرور الأيام، أن طائلة قلوب البشر من حسد وحقد لن تلفح أطرافه أو حتى تضربه، لم يمكر أي منهما على الخلق ليحميا حبهما من فضول الغير.

اعتقدا أنهما زاغا عن عالم يتحامق مع دنيا العشاق، عالم يسير متسكعًا بين الأحبة ليعيث فسادًا وإفسادًا، وبشغف يتصرف بدَعةٍ ليشقي الأحباب، يأخذهما خفافًا بين كفيه ليرميهما ثقالًا بحمولة ذنب عشق لا يرضي هواه، ولترى الهامات باسقة للعلن تتقصف عقابًا للعيش داخل أحاسيس ومشاعر بريئة.

سُلَّت سيوف ضاربة في عمق الروح رجمًا بهدوء وغضاضة، هَوَّلْت الدنيا لِما رأته من حب يسكنهما، كيف؟ ولماذا يصل لخوافق السماوات والأرض؟ قررت فصل قوات انتشار حبهما، التوت عليهما وطوت سجل الحب وبدأت ترسلهما لقفار مشاعر ملل وتبرُّم وضجر وحنين، بدأت ترسل لمجالهما علل وبلاء مشاعر منغصة، أفرغت كبت سنوات الحرمان وشقاء حياة.

قالت ما بينكما مثَارُ عتاب وملام بين البشر، هو انتشاء باطل وأحاسيس مُبْهمَة، لم أسِغ حبكما بيدي؛ لذا وجب عليكما فراق وبعاد كعقاب، حبكما سيُدفن بالورى بمشاعر فاترة ويوأد، بدقاق التراب انهدمت عليه أمزقه.

قالت: يا مقدام أنت وحبيبتك لا تخْتالا مرتفقًا بيديك بحب وسيم تملكانه، حبك بنظري فتنة من بلّور سأفرفره ليتكسر، سأترككما متهاويي الأحزان، قشة في مهب الريح تنوحان، سأصل لأغوار نفسيكما لأزيل نزاعات تجذبكما وتحميكما مني، حبكما غَضٌّ وطريٌّ بمواجهتي سأتركه حطامًا، سأطوح مجاديف نفيس مشاعركما بشراك وحبائل محبكة تحرق حبكما وتتركه رمادًا، ما برحت الدنيا تلاعبهما حتى وصلا إلى تبادل عبارات للثم جراح تغطي حبًّا متمكنًا بالقلب.

آه يا حب متخفٍّ خلف قناع لا مبالاة تفضح، بشدة، فرط مبالاة شديدة بهوى ضائع منهما، أنضجهما مرور الحب وكأنه جاء زائرًا ليزيل مراهقة مشاعر كانت تأسرهما داخل أقفاصها، ليتركهما أنثى عاشقة ذابت في حبيب حد الهذيان، وحبيبًا صلدًا في مواجهة الأيام.

تركتهما الدنيا يحاولان تأويل ما حدث ويحدث، علَّهما يومًا يفيقان من حب ضاع وسط أشلاء الأيام، علَّهما يومًا يعالجان صدعًا شادخًا في زجاج القلب البلوري، يصفيان الروح مما اختلج النفس من تيه وعذاب.

* * *


ذكريات عنيفة

ما زلت أرى داخل طيات ذاكرتي مشاهد وصور جيراني من سكان مخيم البقعة وهم قتلى، تناثر أشلائهم من حولي، أتذكر سقوطي صارخة من ألم رهيب أصابني.

عندما شاهدتني أمي أسقط أرضًا ما كان منها إلا أن صرخت بكل ما يعتمر قلبها من وجع.. شعرت في صرختها بالفزع المُطبق.. أتتني مهرولة لتحتضنني.. أغمضت عيني حاضنة صورة أمي بين جفوني..

أفقت بعدها لأجد أمي الباكية بجواري.. تبكي وتقرأ القرآن..

تهلل وجهها فرحًا بعودتي وإفاقتي.. نادتني: «عائشة».. «عائشة».. آه حبيبتي.. كنت أخشى موتك.. حبيبتي.. أنتِ كل من تبقى لي في هذه الحياة..

لأغمض عينيَّ وأعود لنوم طويل، أخبرتني أمي عندما أفقت أني نائمة منذ ثلاثة أيام، أفيق لأنام.. وهكذا.

ثم جاء وقت معرفتي بأسوأ ما حدث لي عندما أخبرتني الممرضة في اليوم الرابع بأني قد أُصبتُ بالشلل، وذلك عندما أخبرتها أنني لا أستطيع تحريك قدميَّ فتبرعت بمواجهتي بالحقيقة وبأني أصبحت طريحة الفراش، قعيدة لإصابتي بإحدى الشظايا في عمودي الفقري، دخلت أمي وهي تُخبرني وفزعت لكنها فوجئت أكثر ببرودة رد فعلي.

لا أعلم لِمَ استقبلت هذا الخبر ببرود غريب، بل الأغرب هو معرفتي خبر مقتل «جاسر» في أثناء الاشتباكات، فلم تبكِ لي عين، أو حتى يطرف لي رمش، أمري عجيب. لا أعرف لِمَ وهو الأخ الرحيم العطوف عليَّ.

هل قتلت الدماء ومناظر القتلى إنسانيتي ومشاعري؟! هل أصابني تبلد أحاسيس؟! لا أعلم!!

الآن أنا إنسان ميت.. مجرد بقايا إنسان، داخل جسد يتنفس ويأكل فقط لإرضاء أمي «حبيبة»، فقط لأجل أمي أعيش..

جاءني الطبيب، تسبقه ممرضة، للاطمئنان على أحوالي، لفتت انتباهي نظرة الطمأنينة في عين الطبيب، كان يبدو شديد السماحة والطيبة، وكأنما هو ملاك نزل إلى الأرض ليطيب جراح مرضاه.

يبدو جادًّا بنظارته الطبية مستطيلة الشكل، ملامحه السمراء تأسر الأنظار لتنتبه له، يبتسم بهدوء ووقار، وعلى الرغم من توتره لكثرة المرضى، يبدو رزينًا، منمقًا، يتحدث بكل لباقة، بعث في كل أرجائي إحساسًا رهيبًا بالأمن والأمان، أعتقد أنه يبلغ الثلاثين أو يزيد قليلًا.

طلب من ممرضته الشقراء، ذات القامة النحيفة القصيرة، أن تهدأ ولا تشاكس المرضى حولها؛ فهي تبدو فتاة صغيرة لا تتعدى العشرين عامًا، وطلب منها أن تعطيني مسكنًا كي أعود للنوم، خاطبني قائلًا:

اسمك «عائشة»؟ أتعلمين معناه؟

قالها مبتسمًا بهدوء.

أعلم أنك غاضبة من كل ما حدث، خاصة إصابتك، لكنني أردت طمأنتك بوجود أمل في عملية جراحية تعيد حياتك لطبيعتها، أريد أن تعلمي أيضًا أن الاحتمال ضئيل، كما أنها عملية خطرة، ولا يمكننا إجراؤها هنا؛ لذا عليكما التوجه إلى مصر وسأعطيكما بيانات طبيب هناك تذهبان إليه، عليكِ التشبث بالأمل.. فعليه نعيش، ما حدث ليس بنهاية العالم «عائشة».. الأمل سر الحياة، فلا تفقديه صغيرتي الجميلة..

لم أهتم بما قال، فأين أنا والذهاب إلى مصر؟ خاصة بعد ضياع كل ما أريده في الحياة، ثم نمتُ من أثر المخدر.

طالت إقامتنا بالمشفى، وكنا نتسمع الأخبار عمَّا يدور بالخارج من المريضات الأخريات، أخبرتني إحداهن أن ضرب قوات الأمن كان عنيفًا جدًّا وقُتل الكثير، وأصيب أكثر، ولقدري كانت تعرف «مازن» فأخبرتني أنها سمعت أنه أصيب بشدة، وهناك أقاويل بأنه قد مات، لأصرخ بصمت.. مات أبي، مات أخي، والآن مات حبيبي.

كي لا أُظهر لأمي جزعي حاولت التلهي عن حالي بتجميع أخبار كل ما حدث في أيلول الأسود، لأضيفه إلى ما بدأت أدونه في مذكراتي، كنت أخفيها عن أمي، على الرغم من علمها بتدويني لهذه الأشياء، لكني لم أشأ إعادة نبش جراحاتها من جديد..

كتبت فيها وسَرَدْتُ كل ما حدث وما استطعت تجميعه من أخبار من الصحف وذوي زميلاتي المصابات، أو ممن يأتي لنا من العنابر الأخرى من الرجال ممن أُصيب في هذه الاشتباكات..

أخبرني أحدهم أن فرق المشاة اجتاحت شوارع مدن الزرقاء وعمان وإربد لتنقيتها من المسلحين؛ حيث حدثت معارك ضارية فيها، وكانت شدة المقاومة في مخيم الوحدات هي السبب في دفع القوات الأردنية إلى زيادة وتيرة القصف والضغط العسكري.

هناك حيث قُتل «جاسر» و«مازن»، لا أريد تذكر تفاصيل مقتله، لم يصف كثيرًا ما حدث، إلا أنه قال إن الأمر كان شديد البشاعة، أخبرني أيضًا أن الانتقادات العربية للأردن زادت، لكن الأردن قابلتها بالتجاهل.

ألقى الجيشُ القبضَ على معظم قيادات المنظمات، وفرَّ ياسر عرفات متنكرًا بزي خليجي مع الوزير التونسي الباهي الأدغم، على الرغم من أن المخابرات الأردنية وصلها معلومات عن أن ياسر عرفات يحاول الفرار إلى خارج الأردن، فإن القيادة السياسية في الأردن طلبت تركه وشأنه، علَّ هروبه يُخفض من وتيرة المقاومة ويكسر شوكتها.

* * *

«شهرنان».. تعالي لأخبرك قصتي، فأنا من سأروي اليوم الحكاية، أنا العاشقة العنيدة لرجل أصابني بجنون حب صارخ، أناديه وأقترب فيهرب خائفًا من براكين وزوابع حبي العنيف، يتجول سائحًا في البلاد يشكو للعباد حبي الكبير ويراه بحرًا موجه مغرق، سأُحضره ليسمع معكِ الحديث، فهو بالقلب والعقل الملك الأثير، لا ملجأ ولا مهرب له مني مهما كثر منه التذمر، ولو استصدر أمرًا من سلطان الأساطير.

اقترب وتعالَ يا حبيبي، أخبرني.. أتشتكي من فرضي سطوتي على أحرفك وإنارة ليلك الباكي؟! أتريد انسحابي من قلبك المظلم من دوني؟!

أنت يا عائد إلى الحياة ببريق أنفاسي بوهج عينيَّ وكلماتي، أتشترط شكلًا لحبي وعشقي؟! أنا المعجونة بالجنون والشقاوة، أنا الغجرية وسط برودة قلبك النحاسي، أنا نسمة الألماس على صدأ قلبك الحديدي، بتطرفي وهيامي أظهرت معدنك الذهبي يا هذا، فهل ما زلت تشتكي تطرف حبي؟!

استوعب هذا كلماتي خيال واقع وواقع خيال، كما وجودك في حياتي حبيبي، فأنت كما يوتوبيا مدينة أفلاطون المثالية، فكرة متعمقة بداخل ذاتي، لكن وجودها على أرض الواقع أمر صعب شديد الصعوبة في التحقق، والغريب أنك ترضى بذلك باستمتاع شهوة ملحة، لكن لا تفرح، فأنا سأصنع المستحيل وأحقق المعجزات لنكون معًا.

لهذا لا حديث بيننا ولا ملام، لا حروف ولا كلام، اخترت الاختفاء، فعليك مني السلام، لكن لا مجال لك للاختفاء، لا هذر ولا صور تراها مرسلة مني لك في المنام؛ فلقد أعلنت عليك الحرب ومنعت الوئام، حتى تعلن حبي لكل الأنام، وفي نومي سأشكل معك أنت قرين عشق بهيام، وفي الصحو وبأحرفي سأهجوك حتى تعلن استسلامك للوجد والغرام.

يا رحال متجول بين القصائد والأشعار، لِمَ أصبحت حزينًا ووجهك شريد وحيد؟ يا غريق الأحرف والكلمات وسباح العبرات والعبارات، لِمَ الآهات وإعلان الجروح الصارخة مع النبضات؟ لِمَ عذابك الصامت المتفجر قنابل وهَّاجة بعينيك أنات قاتلات؟ لِمَ الاستسلام يا قتيل خيالك السفاح لسرد الروايات؟ أعلن حبي وسترى الليالي الملاح لأنسيك ما مضى لتحيا الآتي بكل سماح.

* * *


الهروب

سمعت أيضًا أن القوات الأردنية سيطرت على الأرض واستسلم أكثر من 7000 من المسلحين الفلسطينيين وقُتل الآلاف من الطرفين، بعد مؤتمر القاهرة الذي خرجت من خلاله المنظمات الفدائية من المدن الأردنية كاملة لتتجمع في مناطق أحراش جرش وأحراش عجلون مقابل عدم اعتراض الجيش لهم.

قررت أمي ترك البلاد والفرار لأبعد ما يكون، كانت تريد منا الذهاب إلى القاهرة للبحث عن علاج لحالتي، لكنني لم أجد داعيًا لذلك ولم أوافق، في النهاية أقنعتني بالسفر إلى لبنان للإقامة مع عمي «نواف»، استطعنا بمساعدة أصدقاء لأخي «جاسر» السفر، أو بالأحرى الفرار، إلى لبنان، وعلى الرغم من الصعوبات التي نالتنا في التنقل برًّا فإنه كان السبيل الوحيد، فلم يعد لنا بالأردن إلا ذكريات قاتلة بحلوها ومرها.

مجرد ذكريات، منها السعيد؛ حيث الأسرة الراضية القانعة بحياة سلسة اعتادوها، وذكريات مقابلة لأمي ولي يغلفها الدمار والأشلاء بكل اتجاه، ذكرى تركت أثرها على جسدي بهذه الإصابة التي قتلت فيَّ الروح قبل الجسد، لا أعلمُ ما ينتظرنا ببلد مثل لبنان، خاصة أنها تعاني الحرب أيضًا! وكيف سيستقبلنا عمي «نواف»؛ فهو لم يرَنا مُنذُ سنوات، لكنه يبقى أملنا الوحيد والسند الباقي على قيد الحياة، كانت أمي متفائلة جدًّا بسفرنا إليه، عقدت آمالًا كبيرة على وجوده في حياتنا، أقمنا بالجنوب اللبناني عند وصولنا، واستضافتنا إحدى العائلات شهرًا حتى رتبنا أمورنا، كانت العائلة مكونة من زوجين طاعنين في السن، يقيمان بمفردهما بعد أن تزوجت البنتان وسافرتا للإقامة والعمل في فرنسا، أما الابن الأصغر فقد سافر للعمل في أمريكا مع عمه؛ حيث تزوج هناك وأنجب طفلين، ثم انتقلنا للإقامة ببيت خاص بنا وفَّره أحد أصدقاء «جاسر»، وأخيرًا توصل أحد المعارف إلى مكان إقامة عمي؛ فقد بدَّل مكان إقامته المعروف لنا منذ زمن ولم نكن نعلم الجديد.

أرسلنا إلى عمي أحد الجيران، فجاء في اليوم التالي ليرحب بنا ووعدنا بالكثير، بعد أن سردت عليه أمي ملخص ما مررنا به، ثم شرحت له حالتي وما وصلت إليه من اكتئاب وتقوقع، داعية إياه لإقناعي بالسفر معها للقاهرة لإجراء العملية الجراحية..

كانت تعتقد أنه سيضغط عليَّ ويمارس سلطاته كعم ووصي عليَّ لإجباري على السفر للقاهرة وإجراء العملية الجراحية، فوجئت به يتفق معي على عدم جدواها، وأنها مجرد هدر لأموال دون داعٍ، فلو كان منها فائدة لكان الطبيب أجراها بالأردن، لكنهم أرادوا طمأنتنا فقط.

سمعت أمي تجادله وأنا في حجرتي، كم وددت أن أخرج لإخبارها ألَّا تجادل فهو على صواب.. لكنني لم أجد لهذا بدًّا، لم أكن أريد رؤيته أو رؤية أي شخص.. نادت عليَّ أمي في النهاية لأسلم عليه، وعندما لم أخرج إليهما أحضرته هي إلي ليُسلِّم عليَّ داعيًا لي بالصحة والسلامة.

ذهب ويأتي على فترات متباعدة، متعللًا بحموله الكثيرة وصعوبة الحياة والظروف القاسية؛ فأولاده الخمسة ما زالوا صغارًا بمراحل التعليم الأساسية ويحتاجون لمصاريف تفوق طاقته.

* * *

يا «شهرنان» يا ناعمة، يا حاكمة للمشاعر في كل البلاد.. هلمِ هنا وتعالي لأخبرك عن حبي وما ناله من خطوب الزمان، اسمعيني ولا تتحدثي، فأنا من ستأخذ مجال الحديث لأقصَّ بوحًا كالبحر كلمات وكلمات، سأخبرك عمَّا حدثت به الحبيب يوم عاد بعد الغياب ومفارقة سماء ليلي بعناد:

عُدتَ تبكي وتنوح لافتقاد وجودي بحياتك، تغطيتي لمشاعر ملكية كانت تشملك والآن تؤرق ليلك، عُدتَ لعدم كفاية ما تمنحك إياه حلالك من مشاعر حب واهتمام، تمني مزيد من الحب يأتي عبري، رغبتك في روابط كانت يومًا تحكمنا بخيوط ذهبية بأشعة ماسية، صارت الآن بيت عنكبوت وطارت هباءً منثورًا.

رابطة مشاعر لم تصمد أمام رغباتك أنت قبل إغراءات غيرك بتبديلي وحب أخرى تتوافق وشروط أصحابك، الآن تعود تطالب بحقك في حبي واستمرار ما ضاع بيديك، بفنائي في ذاتك، وتتغافل عمَّا صرنا نعيشه بواقعنا المزري، تتجاهل ما فعلت معلنًا ضعفك وضرورة احتمالي لأنك مني.

أبدًا.. أبدًا لن أعطيك فرصة تحويل حب نقي مر بعمري إلى حب عشيق وعشيقة، حب تتبادل أحاسيسه في خفاء الليل، وسط إجراءات وخطوات سطو مسلح وسرقة لكل الأطراف، خيانة عهد منك لحليلتك وخيانة ثقة مني لنفسي قبل الأهل والأحباب، وضع يشبه سقوطًا في بئر عفنة، نهايته دومًا كارثة مريعة.

حبيبي.. أبدًا لن أقبل تحويلي من زارع للأمل وحياة في دنيا البشر إلى مصاص دماء سالب لمشاعر وأحاسيس تخص الغير دون جريرة، لن أقبل إذلالي بتحويلي لجارية تملكها لإشباع الرغبات، كنت في حياتك ملكة وسأظل، وإن كلفني ذلك موت القلب وكسر عناد عقل ضال، آه منك، كم أنت قاسٍ وعنيد، أناني القسمات، تبحث دومًا عن مصلحتك أنت وإن كانت نتيجتها إراقة وإزهاق أرواح في سبيل حصولك عليها.

صدقًا يومًا أحببتك، وبكل كياني، دعوت ربي أن يجعلني نصيبك ونصفك بالدنيا وآخرتي، دعوت أن يرزقني حبك ويقربني دربك، آه يا ربي.. لقد كانت أعظم أماني وأحلامي، لكنك، في لحظة جهل واحدة، بعت كل ما كان، ذهبت بعيدًا لتبدأ مع أخرى حياة جديدة، لتوهم نفسك بسطر حكاية أخرى بقواعد وشروط تريحك.

لِمَ عُدت؟ أجئت تعذبني وتريني وجهًا آخر يمزقني إربًا؟ هل عدت لتريني ذاتي أنا أمام تجبُّر قلبك؟ أترغب بسحق كل ما فيَّ من أحاسيس بشرية تخاف حصول سواك عليها؟ لِمَ عدت؟ أخبرني. لن أقبل أن أصبح عشيقة رجل كنت يومًا أدعو ربي أن يرزقني إياه شريك كفاح.

* * *


الحياة

قررت أمي البدء بحياكة الملابس، علَّها توفر القليل من الاحتياجات، وكنت أنا في المقابل أتقوقع أكثر، أقضي يومي بحجرتي مستمتعة بالكتابة في مذكراتي، لما أستخلصه من أقاويل وحكايات الجيران وزبائن أمي، ولأبدأ في متابعة مذيعتي الأثيرة «حنان» وبرنامجها «شهرنان».. وعندما تنتهي الحلقة أكتب ملخصًا عنها في مذكراتي أيضًا، بقي الحال كما هو والحياة تسير برتابة حتى جاءنا «عاصم»، صديق «جاسر»، ليطمئن على أحوالنا، سعدت بسماع صوته؛ فهو يذكرني بأخي و«مازن»، رحمهما الله، خرجت لأول مرة أستقبل شخصًا واستقبلته مع أمي، أخبرنا أنه استقر أيضًا هنا في الجنوب، مصطحبًا عائلته معه.

أثارني للجلوس معه حتى موعد انصرافه بما سرده من أحداث الأردن بعد فرارنا؛ فقد قال بأنه ما هي إلا شهور قليلة مرت على الاتفاقية وسرعان ما دب الصراع مجددًا، بعد أن ضاق سكان القرى في مناطق جرش وعجلون ذرعًا بتجاوزات الفدائيين هناك؛ فهم لم يعتادوا هذا الأمر سابقًا.

أبلغوا عنهم السلطات وقدموا شكاوى لرفضهم وجودهم بينهم، استغلت السلطات الفرصة وانتهزتها؛ حيث اجتاحت قوات الجيش الأردني الأحراش وهاجمت رجال المقاومة، قضت على آخر معاقل منظمة التحرير الفلسطينية وباقي المنظمات وكسرت شوكتهم وأزالت وجودهم هناك إلى الأبد.

لكن ما زاد الطين بلة أنه في شتاء 1970، قامت سوريا بمحاولة التدخل للدفاع عن المقاتلين الفلسطينيين، كان التحرك السوري لحماية منظمة التحرير غير مخطط له ومعتمدًا على معلومات مصدرها قيادة منظمة التحرير ذاتها، وقد كانت معلومات غير مؤكدة بالمرة، بينما القوات الأردنية كانت على علم بتحرك القوات السورية.

لذا فوجئَت القوات السورية بعنف رد القوات الأردنية التي نشرت قوات كثيفة سُميت قوات الحجاب، كبَّدت القوات السورية خسائر فادحة وانطلق سلاح الجو الأردني لتغطية الهجوم، بينما لم ينطلق سلاح الجو السوري.

أُعلن فيما بعد أن القيادة العسكرية السورية قد انشقت، وأن الفريق حافظ الأسد كان محتجًّا على تدخل القوات السورية فيما يحدث، وأنه هو من رفض إطلاق سلاح الجو السوري، الأمر الذي دفع الجيش السوري للانسحاب مخلفًا وراءه خسائر فادحة.

ثم توسطت السعودية لدى الأردن للسماح للسوريين بإدخال شاحنات لسحب أنقاض قواتهم المنسحبة من شمال الأردن، بعد ذلك، قامت الحكومة الأردنية بطرد الفصائل الفلسطينية إلى لبنان، لتشتعل الحرب مجددًا هناك.

فقد أسس ياسر عرفات ما سمَّاه البعض «جمهورية الفكهاني»، وهي منطقة خاضعة للسيطرة الكاملة للمنظمات الفلسطينية داخل بيروت، أخبرنا أيضًا أن «فتح» أسست منظمة أيلول الأسود، التي كان هدفها الرئيسي هو الانتقام من جميع الشخصيات التي أفشلت وجودها السياسي في الأردن، فقامت بعدة عمليات انتقامية على الساحة الأردنية.

لكن ما أعاد إليَّ بهجة الحياة والأمل في مستقبل أفضل نفي «عاصم» مقتل «مازن» عند سماعه أمي تدعو لـ«جاسر» و«مازن» بالرحمة وأن يوسع الله في قبريهما هما وزملائهما، ليقول لها: انتظري.. انتظري، ما زال «مازن» على قيد الحياة أطال الله في عمره، من أخبركما باستشهاده؟ ثم أخبرنا أنه أصيب بشدة ولكنه لم يُقتل، انقطعت الصلة الآن بعد كل الهرج والمرج اللذين حدثا، ولا يعرف أي أخبار عنه أو عن مكان وجوده. شعرت وقتها بالحياة وأن قلبي عاد لينبض من جديد، لأبتسم لأول مرة منذ شهور، وينشرح صدري أخيرًا قليلًا.

* * *

«شهرنان».. جاء دوري، وأنا عاشق أريد عتاب الحبيبة، فاتركي لي مجال الحديث لهذه الليلة.. حبيبتي.. آه منك لو تعلنين رغبتك بحبي، وبأشعار ومواويل تغني لقلبي، يا صاحبة العينين السوداوين ورسم الكحل المجنون..

تملكين شقاوة وكبرياء وكأنك بالجان مسكونة ومعجونة، يا أنتِ.. العيون بك تائهة، يا غاليتي.. بملكوتك برب السماوات أنا مفتون وأعاني.

يا من تصف لحالي بدقة فنان وطبيب نفساني، ومن أوجاعي تعالجني، لو أعلنتِ موافقتك على حبي سيكون قرارًا صائبًا وحكيمًا فلِمَ قولك إني سأكون عليكِ جانيًا؟ لِمَ تسألين هل سيكون حبًّا فعليًّا أم أنه هرب مما يشغل بالي؟ وهل يشغل بالي إلا أنتِ يا سر شجوني؟ يؤرقني ظلمك، فأنت النادرة وصفاتك ماس غالٍ، فلِمَ أكون لحبك وجميل صنيع مواقفك بائعًا برخيص الحالِ؟

صدقًا أراك ملاكًا ينقي حياتي وطموحاتي وآمالي، مع أني أرتعب من كوني قد لا أعوِّض أحلامك بقربي وحياتي، كوني لي ملجأ وأمانًا لا من اختار قتلي بالفراق وابتعد عن أيامي ولياليَّ بقسوة وظلم وهو متعالٍ، معكِ لا أخاف، وأأتمنك على ذاتي وكرامة حبي وآمالِي، فلا تكوني خليفة من دمرني في تدمير ما مني باقٍ.

أنا عاشق غير العشاق، لست بعاشق أنثى تأسر كلماتي وأحاسيسي، لكني عاشق لحروفي المنطلقة من داخل خيالي رأسًا إلى أروقة كتاباتي وأوراقي عنكِ، أنا عاشق للحب ومشاعره، عاشق لإحساس الحب والهيام، ولفكرة الوله بشخص مجهول، عاشق وغيرتي نار بجنون أيًّا ما كان سببها أو سبب ثورتي وجنوني.

أنا يا حبيبة القلب رجل يعيش الحب بمجون، عفيف وحنون، عاشق لإلهامي ومن يلهمني، عاشق دون عشيقة أو حتى حبيبة معروفة، عاشق دون قيود بشرية، لي قيودي الخاصة، عاشق يحكمه حلال وحرام وممنوع ومرغوب، أدغال العشق وإحساس الحبيب.

أنا متجول سارح ليل نهار، وفي كل يوم أبدأ مع حبيب خيالي قصة حياة؛ قصة عشق وغرام، في كل يوم أنسج خيوط الحب بيوت حنين، عناقيد فرح وهناء، في كل يوم أكون مع الحبيب فتتحول الدنيا سحابًا بين النجوم وسط ضياء الشمس والقمر، قنديل هوى وعشقًا كبيرًا، فهلا منحتني حبك لأنهل من عشقك دون حدود.

* * *


الفصل الثاني- حياة موازية

نهاية أيلول الأسود

أخيرًا انتهت مأساة سبتمبر 1970 الدامية في الأردن بتصفية المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، استراح الملك قانعًا بثبات عرشه لمغادرة الفلسطينيين مملكته، محتفظًا بقنوات اتصالاته السرية بالإسرائيليين، الذين استراحوا كثيرًا من تهديد الفدائيين في جبهة حساسة، تعتبر امتدادًا جغرافيًّا للمقاومة في الضفة الغربية.

قالت لي أمي: إن الفلسطينيين لم يجدوا أرحب من قلوب أبناء الجنوب اللبناني؛ لذا أقاموا بينهم، وعايشوا معهم وطأة الاستغلال الطبقي والقهر الاجتماعي والسياسي، لكن مع ذلك فوصول الفدائيين الفلسطينيين سيؤثر حتمًا على مجريات الأمور.

انتهى فصل مهم في حياتي ليبدأ فصل آخر أشد أهمية في حياة لبنان كلها، سأخبركم عنه مع الأحداث، لا تتعجلوا هكذا.. فمع الأيام صدق حدس أمي وحدثت تحولات عميقة في كل مجريات الحياة في الجنوب، أثَّرت في الجميع، مواطنًا ولاجئًا.

أخبرتني مرة أنها تسمع تعليقات الجيران بأن الفدائيين يقيمون علاقات مع «العامليين»، أهل الجنوب، ضد العدو الإسرائيلي، ليُصبح الجنوب قاعدة انطلاق لتسللهم لضرب العدو داخل حدوده في تصعيد دائم لا يتوقف، ما سبَّب صداعًا مزمنًا لإسرائيل، تسانده الحكومة اللبنانية، فلقد أسست فتح حركة مقاومة منظمة (حركة أمل) ومع ذلك كانت الأيام تمر ببطء وحياتي في لبنان تسير بهدوء ورتابة.

حتى جاء يوم ونادتني أمي مسرعة، ملهوفة:

عائشة.. «عائشة».. هيا استيقظي..

«حبيبة»: نايف المصطفى.. أتذكرينه؟! (قالتها وهي تلهث)..

نعم أمي أتذكر هذا الاسم، لقد سجلت بيومياتي عنه الكثير، وجمعت قصاصات الجرائد التي كُتبت عنه ونشرت اعترافاته وأخباره كاملة، ما به أمي؟ هل هرب من السجن؟!

* * *

«شهرنان».. هل من جديد؟

هيا أخبرينا قصة أخرى..

أعلني عن حبٍّ كان في أدراج النسيان حبيسًا.

* * *

عزفت البهية «شهرنان» بصوتها أفضل الألحان، وبسحرها أحضرت إحدى الحبيبات، لتقص حكاياتها فقالت:

أخبرتك أنك انتهيت من حياتي، وأخبر أصدقائي ومن حولي بأنك مالك حياتي وسرها، فأنت الحب الذي ملأ حياتي عبيرًا وزهورًا، عطورًا شرقية وفرنسية، أنت كل التضاد الذي عبَّق حياتي بالفرح والسعادة، قوس قزح دخل حياتي لينيرها ويزينها بألوانه السبعة.

حبيبي البعيد مسافة، والقريب روحًا وتأثيرًا..

أحبك.. أهواك.. أعشقك..

أتمنى لقاءك.. وقربك..

قسم لنا الله بقدره ونصيبه فراقًا وبعادًا، كما قُسم لك السكن بتجاويف قلبي، ملكًا متوجًا تأمر وتنهى داخل سلطنة وإمبراطورية قلبي المحب العاشق.

قلبي الساهر بسهاد يناجيك ويبوح لك بأسراره كل ليلة مستظلًّا بأشعة ضياء القمر المنير، متغنيًا للنجوم البراقة الساحبة الشافية لأوجاع القلب المكلوم، المداوية لآهات الروح المعانية جرح حبيب سكن الروح وتملكها بصكوك حب وهيام.

حبيبي.. أنعم الله على كل البشر بنعم لا تعد ولا تحصى، أحمد ربي عليها، لكن فراقك أزال طعم حلاوة ما أنعم به عليَّ ليُبدل به مرارة وغصة بالحلق، بسبب هجرك أتمرغ في فراش حرماني منك مهووسة مجذومة، فهل يأتي يوم ألقاك لتنسيني ما فات وتعوضني؟!

آه يا خوفي من ربي ومن سخطي لفراق حبك، أأكون رافضة هكذا لقضاء الله وقدره ونصيبي ذنوب جسام؟! آه يا الله ألهمني الصبر وعوضني وارزقني من أفضالك نعمة النسيان.

* * *


استيقاظ مُرعب

لا «عائشة».. سمعت الآن أن «نايف»، ساعي البريد، شنقه زملاؤه بالسجن، جدلوا حبلًا من ملابسهم وشنقوه.

شنقوه عشية عيد مولده الثلاثين.

يقول الجيران إنهم اعترفوا بالقصاص منه، حكموا عليه بالشنق، فجزاء الخائن مثله الشنق، وليس الحبس.

يا الله.. أتذكر «نايف» وقصته، معرفتنا خبر القبض عليه، واتهامه بالخيانة والعمالة لصالح إسرائيل..

أين مذكراتي؟ ناوليني إياها من فضلك.. أريد إضافة هذه النهاية لما كتبته عنه، لأكمل حكايته داخل صفحات مذكراتي.. كما تعلمون كتابتها متعتي، إضافة إلى ذلك البرنامج الذي يحكي قصص العشاق، وأملي الخاص في عودة «مازن».

اعترفت لأمي ذات ليلة بحبي لـ«مازن» عندما كانت تحاول إقناعي بالسفر إلى القاهرة لإجراء العملية، فقد ادخرت مبلغًا قد يكفي، لم تعقب بأية كلمة، قُلت لها بأني سأوافقها على إجراء العملية في حال عودة «مازن» فقط، أما إذا لم تُقدَّر لي رؤيته فلا أريد أي شيء ولا السير في دروبها أيًّا ما كانت المغريات.

أتعلمون؟ كثيرًا ما أستيقظ على صوتها مبتهلًا إلى الله أن يُنجِّي «مازن» من أي سوء وشر ويعيده إلينا سالمًا، كم أحب هذه المرأة، تحملت وتتحمل من أجلي الكثير.

الآن.. هل أخبرتكم كم أعشق صوت «حنان»، الإذاعية، فهو كاسمها حنون، تشعر معه بعزة وشموخ، أتخيلها أنثى شكلًا وكيانًا، وجهًا صبوحًا يصدر صوتًا ذا نهاية كرنَّة سقوط الذهب على سطح من بلور.

مخارجها ماسية، بحديثها العادي فيروز تصدح بالألحان، عند إثارة غضبها ويظهر هذا وهي تسرد الأحداث وتتفاعل معها، يتحول صوتها لأم كلثوم، به كبرياء وثقة، تعنِّف بصرامة الرافعي لزملائه الكتاب.

تجعلك تشعر أنها صياد مستعد للانقضاض على فرائسه ببرامجها، صوتها ببحة خفيفة، كما «نجاة»، ينقلك لعوالم أخرى تُشعرك أنك غزال نقي السريرة.

عرفت من متابعتي لأخبارها في الصحف والمجلات أنها فلسطينية في مُقتبل العمر، عاشقة للأدب والفنون، هادئة بجبروت، عنيفة بفتور، هاوية في دنيا التاريخ الإنساني؛ لذا تقدم برنامج «شهرنان» الخاص بقصص تحكي عن الحب والمحبين بمنظور خاص بها، أجابت يومًا عندما سُئلت: من أنتِ؟ فالبعض يراكِ واقعية كئيبة وآخرون يرونكِ خيالية جدًّا، خاصة مع برنامج «شهرنان»! فأجابت: «قد أبدو للبعض خيالية، أعيش الواقع بخيال ورفاهية، أرى الدنيا بنظارة وردية..

أنسجُ بحبالي وأدوات خيالي أراجيح وجبالًا وتلالًا هلامية، تتراقص على أنغام شاعرية، بيوتًا وعمائر وقلاعًا منتصبة تسافر وسط غيوم الحرية، أزخرف سماء ونجومًا وبحارًا وفلجًا مجنحة، أرسم أشجارًا تزهر حبًّا ورومانسية، وأخط بقلمي أعشابًا ملائكية.

أشباح سعادة في الكون متطايرة، وألون هواء العالم بعطور بحرية، وروائح تنبعث برحيق الحيوية، أجلب من بائد الأزمنة طيورًا وحيوانات منقرضة، أصنع آلات تنقلنا لعوالم متوازية..

أسَخِّر جنًّا وعفاريت لبناء كؤوس غنج وهوى مزدهرة، أصنع إكسيرًا لحفظ القلوب الملتهبة، أزرع ثمارًا تطرح للروح المتعبة الأدوية..

أخلط أشياء تصلح شر نفوس الناس، وأحصد شرابًا ربانيًّا للوجد والوله، لأذيقه للعالم أجمع، خاصة عشاق الإباحية ليتوبوا..

أبدو للبعض من البحر أتيت كحورية؛ فأنا أحول حياتي لفلسفات وأمور نفسية، أغوص بأغواري لأُثِير سعادة تبدو نازية، فعلًا أبدو كفتاة من عالم آخر أتيه، قد تكون حقيقة لا خيال.. من يدري؟!».

وتحدثت عن نفسها بأحد الحوارات الصحفية مرة أخرى وقالت:

«لست من هاويات: أنصاف الأحاسيس والمشاعر الضائعات وسط بعثرة الكلمات، ذرف الدموع على من يتصف بالخديعة والرياء وهذه الاختناقات، بعثرة كلماتي وحروفي ومشاعري على تلك الأرواح الهالكات، الاقتراب من الأحبة ضعاف الشخصية أمام المشكلات.

لست من مغرمي: الأحبة الخانعين لسيطرة أحبتهم بعناد وغباء، الارتباط بمن يهوى المرأة التي تعذبه بجفاء، من يسعى جاهدًا لنيل رضا من تبيعه بدهاء، الضائع التائه ببحثه عن حب صافٍ لا يتملكه رياء.

لست من محبي: المراوغة والتلون حسب المواقف، ولا أجيدهما، تعذيب من يقترب بحجة الحب وسهاده، التهرب من مشكلاتي وكأني ما زلت طفلة، الهذيان لإظهار صفاتي وموهبتي كمغرورة.

أنا أحب: الحب الواضح الصريح المعلن، بعذابه وانطلاقه، حبيبي لأنه حبيبي على الرغم من المسافات الفاصلة بيننا، حبيبًا تتيه الدنيا ويضيع ما يؤرقني بكفيه، حبيبًا معه أذوب بصفاء الحب وجماله».

وأضافت: «لدي قناعات بأننا نحتاج أحيانًا إلى أن نتعرف على شخص آخر يُشبهنا لنهدأ ونستكين، لنكفَّ عن التصرف بطيش ورعونة، نكف عن عفويتنا الساذجة، نتوقف عن إحراج أنفسنا دون حياء، غالبًا يكون هذا الشخص هو الحبيب.

يومًا ستزهر الورود بقلوبنا، تنتشر عطور معبقة بنسيم البحر، ملونة بنجوم السماء، شامخة مروية بحب وغرام صافيين، لأجلنا نحن..

أحب أولئك الذين يغرسون السعادة في أيامنا، الأحلام فوق حد المسموح، أحب كل ما هو صحيح ومضبوط، لا أحب أن أخطئ مع ذلك، ولا أرضى بالموت خوفًا أو ذبحًا بسبب تقاليد بالية».

* * *

إحصائيات متنوعة مركز التدوين و التوثيق

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↓الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↓الكاتبمدونة ياسمين رحمي
4↓الكاتبمدونة محمد شحاتة
5↓الكاتبمدونة غازي جابر
6↓الكاتبمدونة خالد العامري
7↓الكاتبمدونة ياسر سلمي
8↓الكاتبمدونة هند حمدي
9↑5الكاتبمدونة خالد دومه
10↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑19الكاتبمدونة منى كمال217
2↑16الكاتبمدونة يوستينا الفي75
3↑14الكاتبمدونة محمد فتحي129
4↑10الكاتبمدونة طه عبد الوهاب147
5↑10الكاتبمدونة وسام عسكر214
6↑8الكاتبمدونة عطا الله حسب الله137
7↑8الكاتبمدونة مروة كرم144
8↑8الكاتبمدونة سارة القصبي159
9↑8الكاتبمدونة عزة الأمير170
10↑7الكاتبمدونة اسماعيل ابو زيد62
11↑7الكاتبمدونة هبة محمد194
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1101
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب701
4الكاتبمدونة ياسر سلمي666
5الكاتبمدونة اشرف الكرم585
6الكاتبمدونة مريم توركان573
7الكاتبمدونة آيه الغمري510
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني432
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين423
10الكاتبمدونة شادي الربابعة406

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب350701
2الكاتبمدونة نهلة حمودة205247
3الكاتبمدونة ياسر سلمي190393
4الكاتبمدونة زينب حمدي176718
5الكاتبمدونة اشرف الكرم138555
6الكاتبمدونة مني امين118862
7الكاتبمدونة سمير حماد 112752
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي103935
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين101330
10الكاتبمدونة مني العقدة98624

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة محمد فتحي2025-09-01
2الكاتبمدونة أحمد سيد2025-08-28
3الكاتبمدونة شيماء حسني2025-08-25
4الكاتبمدونة سارة القصبي2025-08-24
5الكاتبمدونة يوستينا الفي2025-08-08
6الكاتبمدونة منى كمال2025-07-30
7الكاتبمدونة نهاد كرارة2025-07-27
8الكاتبمدونة محمد بن زيد2025-07-25
9الكاتبمدونة ناهد بدوي2025-07-19
10الكاتبمدونة ثائر دالي2025-07-18

المتواجدون حالياً

1555 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع