جالسة على بحر تتلاطم أمواجه الصارخة كما طفلة وسط تشرُّد الأيام وبلطجتها، طفلة ضيَّعها الإهمال لتلد طفلًا مشوهًا تحتضنه رمال الشاطئ وتخفيه ظُلمة الشتاء، عاصفة أنفاس البحر بكل من يقترب من شاطئه الغاضب، جالسة هي في صمت بعينين تائهتين تبحثان عن قمر غاب.. لا يقلقها دوي تلك الليلة ولا أنها زرعت أعاصير وزوابع ونثرت في سمائها أبواق برق ورعد تصم الآذان، ما لها وكل هذا وما يحدث داخلها أشد وطأة كما لو كانت حروبًا صليبية تسعى إلى بيت المقدس معلنةً: حيَّ على الدماء، حيَّ على الفناء، حيَّ على المكر والدهاء، حيَّ على البشرية.. ولينَل المجد كل وضيع بلا شرف أو إيمان.
حجر رُمي على شاطئ البحر بثبات هي، تحدِّث طيفَ من كان يومًا مليكَها، لَّعله يهدئ العاصفة المبعثرة في كل ما فيها، أو يأخذ بيدها فيهدئ الداخل ويستمتع بهدير الدنيا وصخب الموج المنادي لها هلمِ فأحضاني لكِ ملجأ وأمان.. تهرب من نظراته وتبحث عن نظرات كانت حصنها وعندما تتجسد لها حدثته غاضبة:
أتعلم حبيبي لِمَ أنا عكسكَ كارهة للبحر؟! لأنه يا عمري أنتَ مليء بالأسرار يخدع مَن على الشاطئ مغمي.
أتعلم حبيبي لِمَ أنا عكسكَ قهرني غروب الشمس؟! لأنه يا قاهر فكري دماء أخذتك مني وتركتني وحيدة.
أتعلم حبيبي لمَ أنا عكسكَ أخاف الليل؟! لأنه يا معذبي سحبك وسط الأحلام ونسيتني في الواقع.
أتعلم حبيبي لِمَ أنا عكسكَ يُجنِّنُنِي القمر؟! لأنه يا عيني خطفكَ ويشاكسكَ بضوء نجومه لتهجرني.
لكنه أخرسها بجبروت بإجابته:
أتعلمين أنتِ؟ إليكِ كل ما أكتب يا سرّ حرفي.
- هل تتحدث؟ هل هذا أنت حقًا؟!
- لِمَ التعجب يا نبض روحي وأنفاسي؟!
- ظننتكَ وهمًا صنعه خيالي، هل أنتَ وهم؟!
- هل أنتِ حقيقة، أم أنا وهم، أم أنكِ تهربين من إجابتي؟
- لا أهرب.. قرأت كل ما كتبت عني وإليَّ، فلمحت طيف أخريات يسبحن بين بحور قافيتكَ، هيا عد واقرأ ما خطَّ قلمك لتشهد أنت بما يقنع قاضي العشق إذا تحاكمنا، هيا يا بحر اشهد، ها هو المجرم فلتكبله بذنبه وتأخذنا في جوفك لَّعله يكون بنا أرحم.
- اهدئي.. زفيري أنتِ ولا شهيق لي سواكِ.
- بل اصمت أنتَ واسمعني.. انظر بعين قلبك وعاين ملهمتك المزعومة بصدق عاشق وأخبرني كيف تعشقني!
- فعلت!!
- حسنًا.. ماذا ترى؟
- أنتِ كل نسائي وكل أحلامي وحتى أسوأ كوابيسي.
- ملعون أنتَ، لست بالبيضاء الغيداء يا مدَّعي عشقي! لست بالملونة الشعر ولا المستباحة الجِيد للعيان! لست بضَّة الكف ولا حوراء العينين! لست من تحتال على فؤادك، فلقد نلته! لست المتلصصة على إشارات غنائكَ فأنتَ من ناداني! لست ولست و... اسأل قلمك وراجع قلبك من ملهمه الشاعر الهمام المدعي عشقي وسط الأنام! لست ملهمتكَ، فلِمَ لإلهامي ادَّعيت؟!
أين ذهبت؟ هيا عُد.. تعالَ وحدِّثني، لا تغضب، هيا عُد وسأهدأ وسأدَّعي تصديقكَ كما أفعل دومًا، بالله عليكَ هيَّا عُد، يا بحر أعده إليَّ فلا فرح ولا ضحك في حياتي من دونه.
يا بحر أجبني، لا تهديني الصمت وتختفي كما اختفى هو..
أتعلم أحببتك لأجله وكرهتك أيضًا لأجله، يا بحر لا حياة لي من دونه، هل هذا صوتك هل تريدني؟! أسمع هدير أمواجك يناديني.. هل حقًّا ستجمعني مع حبيبي؟!
ها أنا قادمة، سأنفض رمال الشاطئ عني وآتيكَ..يا مرحًا بأحضان موجكَ يا بحر.. ها أنا آتية ملبية نداء القرب.
*.*