سخرية
جاءت «ميلي» مسرعةً بعد جلسة نميمة مع باقي فتيات القسم، أقبلت تتلفت كما لص، واقتربت لتوشوش «رونا»:
- أتعلمين لِمَ كانت «أليسا» مختفية الفترة الماضية؟! لقد أخبرتني الفتيات الآن أنهم قد ألقوا القبض عليها منذ أسبوع، وتم التحقيق معها بسبب مشاركة شخص يسمى «مراد» على موقع «فيس بوك».. أتصدقين هذا؟!
«رونا»: بالتأكيد تهذين!! ألم يقُل «إدريس» صديقها إنها تقضي إجازة مع والديها بألمانيا؟!
ابتسمت «ميلي» بشماتة وأجابت: وماذا كنتِ تنتظرين، أن يخبرنا أين هي حقًّا؟! بالتأكيد أُحرج من قول الحقيقة، عامة هي من قالت هذا، اعترفت بالقبض عليها وكتبت بالتفصيل ما حدث، نشرته في صفحتها على «فيس بوك»، وقد قرأته بعيني..
«رونا»: حقًّا؟! هيا أريني.. انتظري.. هي صديقة عندي، لنقرأ عمَّا حدث.
وجدت «رونا» أن صديقتها قد شاركت رسالة قالت إنها عجيبة.. كتبت الآتي:
غريب في بيتي، محسوبة عليَّ السكنات قبل الحركات، ممنوع من النطق، محرم عليَّ الصمتُ، وكأنني معتقل الخطوات، دنياي محكومة، أنفاسي معدودة، والروح باتت تعصاني، لا النوم ناداني، ولا الصحو هنأني، وبينهما أفكاري تمقُتني، بحثت عن حل، وإجابة عن سؤالي، كيف تكون يا وطني ملجًا لأوهام سجاني؟ أجابني بألم والشفقة تعلو محيَّاه: في الأصل يا ولدي، كنت أنت الجاني، من باع ضميره من أجل رغيف عاش عبدًا، تتلقفه الأيام. تذكر أفعالك، وما عنه تنازلت، فعقوبته الحرمان، من حبي وحناني، والآن من يحكم وطني: أظلمه أم هو، من يظلمني وينساني؟
* * *
أصدقائي.. رسالة عجيبة جاءتني عبر صندوق رسائل «فيس بوك» كتب مرسلها:
أنا رقيب «فيس بوك» وأريد أجابتك.. هل هذه كلماتك على مشاركة صديقك «مراد»: «العودة لنظام الوافدين (أي التصويت في أي لجنة خارج محافظة محل الإقامة) هو باب خلفي لمن يرغب في تزوير الاستفتاء»؟
«أليسا»: نعم هذا تعليقي، لكنني...
أستاذ رقيب.. لا أعرف هذا «المراد»!! ولا أدري لِمَ تظهر مشاركاته لديَّ!
الرقيب: لمَ أعجبتكِ وعلقتِ لديه إذًا يا أستاذة؟
«أليسا»: أأأ.. أنا أحب الضغط على كلمة أعجبني كتسلية فقط، لا أقصد منها شيئًا.
الرقيب: وبخصوص التعليقات؟!
«أليسا»: أأأ...
الرقيب: انتهينا.. لقد عرفنا بيتك وفي الطريق إليك.
«أليسا»: سيدي.. انتظر ريثما أرتدي ملابس تصلح، هل ستلتقطون صوري، أم ستقبضون عليَّ رأسًا؟ كنت أعتقد الأمر مجرد مزحة.
الرقيب: حسبما يقرر الباشا المسئول عن تأمين المملكة.
كنت أعتقد أن الأمر مزحة حقًّا، لكنني فوجئت ببشر يقتحمون المنزل بعد ربع ساعة فقط، تحوَّل الأمر إلى حقيقة، كارثة فعلية.
عندما هممت بمحاولة الاستفسار؛ عاجلني أحدهم بسؤال: أنتِ «أليسا»؟ (بصوت أجش أفزعني).
- نعم، أنا «أليسا»، ما الأمر؟! (كان صوتي يرتعش بشدة، وجسدي ينتفض.. لأول مرة أُدرك كم أنا شخصية جبانة!).
أمسك ذراعي قائلًا: تعالي معنا.
- ثوانٍ أخبر أهلي..
- فيما بعد (هكذا قال وهو يسحبني كما البعير).
لأجدني بعد ساعة أمام مُحقق يسألني:
- لِمَ فعلتِ هذا؟
«أليسا»: وما الـ... هذا؟!
نظر إليَّ نظرات ينطلق منها شرار.. فأسرعت بالقول:
- يا باشا.. كنت أجاريه فقط، لِمَ أصبح الوضع هكذا خطيرًا جدًّا؟! ثم إن شخصًا آخر قد أجابنا وأعلمنا أن تعديل القانون جاء بناءً على طلبات أُناس كثيرة تريد المشاركة وأعمالها بعيدة عن محافظاتها.
المُحقق: لن تؤثري سلبًا عليَّ!
«أليسا»: هههه.. سيدي، اعذرني فأنا انقلابية.. أساند الملك لِمَ تراقبني؟!
المُحقق: ألا تعلمين أن البلاد تمر بظروف عصيبة ويتآمر عليها الكلاب من كل جانب؟ يكفيني دليل كلمة «انقلابية» هذه.
«أليسا»: لا.. لا.. لم أقصد، وأعلم سيدي أن البلاد تُعاني، لكني لست من الأعداء؛ فأنا أريد الخير للبلاد.. أنا من أبنائها.
المُحقق: كلكم تقولون هذا، ما أنتِ إلا طابور خامس، عميل يدَّعي السمو وارتقاء الأفكار، والداكِ يعملان بألمانيا وأغلب أقاربك يعيشون في بلاد أوروبية، جئتِ هنا فقط لإكمال تعليمك، أترين أنك تفهمين أكثر ممن يعيشون طيلة حياتهم هنا لتأتي كما بطل همام سيُصلح الكون؟! مغفلة!!
«أليسا»: لِمَ الخطأ في حقي وأنا لم أفعل شيئًا خطًا؟! كما أني لست بطابور خامس، جُل ما قلته هو: كلا الطرفين يتسم بالغباء، وكلاهما لديه الكثير من الأخطاء وعليهما الاعتراف بها لنستطيع تخطي هذه المرحلة.
المُحقق: ألم أقل إنكِ من الجبناء، طابور خامس يدَّعي الوطنية والانتماء للوطن؟
«أليسا»: يا الله أستجير بك.. أمَن يَخَاف على البلاد يوشم بالخيانة والعمالة هذه الأيام؟!
المُحقق: آهٍ منكِ.. الآن تدعين البراءة، عيناكِ ذواتا نظرات خبيثة، ودموعكِ دموع تمساح.. يا لك من بلهاء.
«أليسا»: لست بتمساح ولا أدعي شيئًا، أنا مجرد فتاة تتمنى العيش مع صديقاتها بهناء، تستمتع بشبابها هي وغيرها.
المُحقق: لِمَ تدخلتِ فيما لا يعنيكِ إذًا؟ يا من تتمنين العيش بهناء.. كم أخذتِ لتعيشي بهنائك إذًا؟ ومع من تعملين؟ ومن شركاؤك الحقراء؟
«أليسا»: ما هذه الافتراءات؟!
لأحدث نفسي: يا لمصيبتي! هذه نهايتي من دون جدال..
المُحقق: لِمَ خرستِ الآن وتحجرتِ؟ أتنافسين «أبو الهول»؟
«أليسا»: لا أدري ولا أعلم ماذا أقول!! أعتقد أني أحتاج لمحامٍ.
المُحقق: إذًا تعترفين أنك واقعة بمشكلة عاقبة أفعالك وغبائك، أجيبي عن أسئلتي أولًا ثم بعدها نبتُّ في أمر ذاك المحامي.
«أليسا»: أأأ... (بكاء مكتوم ودموع نازفة، فلا مهرب من بلاء شك خيانة الأوطان)..
المُحقق: انطقي.
«أليسا»: أتعلم أني سأصوِّت بـ«نعم» على الاستفتاء؟! أريد محاميًا.
المُحقق: الآن تلجئين للمراوغة بغباء.
«أليسا»: قسمًا بالله لم أفعل شيئًا وأريد محاميًا، أريد أمي، آآآآه.. أريد أمي..
المُحقق: يا هذا، خذها لعنبر النساء حتى تفيق وتقر بما كان منها، وإلا فلتطلق لخيالها العنان لما يمكن أن تراه إذا استمرت في العناد..
«أليسا»: لم أفعل شيئًا سيدي.. أنا...
المُحقق: اذهب.
(قالها بصوت جهوري وكأنما هو رعد السماء هبط على قلبي بشهر أغسطس لألهث ويضيع صوتي هباء).
«أليسا»: ما عليكم من تفاصيل لا داعي لها، كنت أنتقل من تحقيق لتحقيق من دون هوادة، لكن حماني جواز سفري الألماني من استخدام القوة والعنف معي.
أخرجني بعد فترة وجيزة صديقٌ لأبي عندما أخبرَتْه مربيتي بما حدث لعدم وجود إثبات يدينني، بالإضافة إلى كتابتي تعهدًا بعدم إساءة التصرف، وإخباري نصيحة أبوية أنه من الأفضل سفري إلى عائلتي بعيدًا عن أصدقاء السوء، خاصةً مع دماغ خالٍ مثل الذي أملكه، وهذا ما تم، لكنني وددت مشاركة ما حدث بعد أن صرت بأمان.
* * *
الله معها.. لو كنتُ أنا لمتُّ رعبًا، أتعلمين «ميلي»؟ أشعر كما لو أنهم يقولون لنا: اخضعوا تنالوا بركاتنا.
«عندما أصبح الملكة سأترك الجميع يفعل ما يريد، ما دام في إطارٍ أحدده بديمقراطية، سأكون حاكمة مميزة وجميلة».. قالتها «رونا» باسمة..
«ميلي»: ما دمتِ تحددينه!!، أوه «رونا» ألا تلاحظين أن تلك ديكتاتورية مستترة؟ دعكِ من هذه الأمور، ما لنا والسياسة؟! هيا لنستمتع بأوقاتنا نحن، ودعي السياسة لأهلها..
«رونا»: يومًا سأحكم العالم أجمع وسترين، سأنصِّبك وزيرة للأزياء وشئون المرأة.. والآن، هل سنخرج؟
«ميلي»: وزيرة!! قُلت لكِ دعكِ من أمور السياسة، ثم إني أريد الانطلاق في الحياة، لا أحب الروتينيات ولا إصدار الأوامر مثلك؛ لذا؛ سأذهب وحدي مع حبيبي لحفل خاص.
«رونا»: تبًّا لكِ، أنانية؛ لا مشكلة، سأسهر أكتب عمَّا سأفعله عندما أصل لسُدَّة الحكم، وكيف أحوِّل البلاد لملكية فعلية..
قالتها ضاحكة تشاكس «ميلي»..
«ميلي»: لا تعليق.. لن أجيبك بشيء فأنتِ مجنونة، كثيرًا ما أظن جذورك يهودية وتنتظرين لحظة معينة لإعلان الأمر، أو تنتظرين ظهور أمريكا خاصتك لتُعلني عن أصلكِ.
«رونا»: هل هذا معناه أنكِ تكرهين أمريكا؟
«ميلي»: أهذا فقط ما استنبطتِه من كلماتي؟ هيا ننصرف.
ليلة ممطرة
أعلى قمة المقطم يقف وحيدًا، يُحيطه الظلام من كل جانب، يناجي نفسه:
إني في الحياة منذ عهود أمارس الحياة كما الجميع باعتياد مقيت، حتى سئمت نفسي، وغصبًا يومًا وجدت أني كرهت نفسي وهذا الخفوت، وقفت دقائق صامتًا حدادًا على ما مضى من عمري، ألتقط أنفاسي وأشيع الأمل فيما هو تالٍ من دقَّاتٍ تعلنني إنسانًا على قيد الحياة.
إنسانًا مُطالَبًا بالحياة كباقي البشر، مُطالَبًا بالحب والبوح بجميل العهود، بالبقاء صامدًا مستقبِلًا لبركات الله المنزَّلة لأزرعها فيما هو حولي بود وحب للجميع باسم الخضوع لرب الوجود..
ها أنا الآن أعلن وجودي بالحياة، إصراري على نيل حقي من كل النعم، مَن معي سيصرخ مناديًا: أنا يا أنت معك على قيد الحياة؟ أريد شريكة تسير معي رحلة الخلود، بداخلي أمل سأحققه لأنعم برغد فرح تحقيقي ما أبتغي.
يومًا سأصل إلى حب يغمرني، فكما حققت الخلود سأصل لحلمي بحب وعشق ينسيني قرون عمري الماضية ومطاردات الملاعين الملقبين بصائدي الخالدين.
انطلق بسيارته يتجوَّل في الشوارع والطرقات دون هدف، ربما وجد من تنعش ليلته وتعوِّضه عن أرقه هذا، أو عله يجد حبيبة يُغني لها لتنير شموع ليلته الكئيبة هذه، تذكر أغنيته المفضلة للمطربة سمراء:
ما بين قصائدك وقصائدي لحن موجود، بينهما عطر سارح يعبق هذا الوجود، أنين وصدع مفقود؛ حنين؛ حب ووعود، أنت بحياتي شريك وحبيب معهود، هواك لقلبي مستحيل مباح، ولأجلك أغني وأدعو بالصباح..
تنام فأعزف ألحاني لعلك ترتاح، وتصحو فأغرد وأصدح ببراح، عبيرك يا هذا صوت غنائي، وفرحك أنت سر عزائي، أنت وحبك سبب وفائي، أنت حلمي وواقع هنائي.
* * *
في تلك الأثناء، كانت «رودينا» تسير وحيدة بسيارتها، تشاهد المطر وتحاول الاستمتاع به كما نصحتها «ميلي» عندما طلبت منها أن تقضيا الليلة معًا؛ فاعتذرت «ميلي» بأن لديها مقابلة مع حبيبها «أمير»، ثم عرضت على استحياء أن تأتي «رونا» لتشاركهما، رفضت «رونا» كي لا تكون عذولًا.. فأخبرتها «ميلي»: حبيبتي «رونا»، أشعر أنها ستمطر اليوم؛ اخرجي، استمتعي بالمطر، سيغير ذلك حالتك المزاجية.
لذا خرجت تتمشى بسيارتها الـKIA، فوجئت ببدء هطول المطر فعلًا كما تنبأت صديقتها، ابتسمت ببشاشة لعلمها مدى عشق «ميلي» للمطر؛ فهي تراه لؤلؤًا وياقوتًا آتيًا من الجنة هدية لمن في الأرض، تخيلت محادثتها الصباحية مع «ميلي» غدًا وهي تغني لها باسمة:
استمعت لنصيحتك بالأمس..
وسرت تحت زخات المطر..
نعم.. نعم..
أقنعت نفسي بأنها مغامرة لذيذة..
الشعور بالملمس الناعم لحبيبات الماء..
الاستمتاع بسماع صوت المطر..
هطول مستمر كدقات الطبول..
لمعان للطرقات بجريان ماء متدفق من السماء..
دغدغاته لجسدك معلنًا توغله بين طيات ملابسك..
تكوين ذكريات حالية تُمتعني مستقبلًا..
أتعلمين؟! رأيت وجهك..
سمعت صوتك..
رأيت بريق ابتسامتك..
ناوشتك من بعيد..
وأنتِ تلاعبين قطرات المطر..
ترقصين..
تغنين..
تنادينها:
فلتستمري في الهطول..
آآآه منكِ..
ومنها..
آه من..
من صديقة عاشقة للشتاء وليالٍ ممطرات..
ومن شتاء ومطر يوقظ الحنين لما فات..
يشعل شموعًا لواهية الذكريات..
يوقظ ما فينا قد مات..
سأصدمها أيضًا وأقُل:
أتدرين صديقتي؟
ما زلت أكره الشتاء..
وابنه المطر.
لقاء
لمح «حيدَر» فتاة مبتسمة بهدوء داخل سيارتها، رغم قربه منها فإنها لا تلمحه؛ استغرب حالتها وظنها منتشية إثر مخدر ما، لكن لا؛ رائحتها زكيَّة جدًّا، ولا تستمع لموسيقى، لا تحدِّث أحدًا في هاتفها، لا شيء.. سكوووون.. فلِمَ تبتسم يا ترى؟! هي فقط ناظرة إلى السماء تُشاهد المطر وتبتسم ابتسامة آسرة للألباب.. آه لو يقترب منها، مجرد خطوتين ويكون أمامها..
تغريه نظراتها، يريد لو يلتهمها التهامًا؛ آه منها؛ تبدو شهية جدًّا، برائحة ذكية جدًّا.. جدًّا.. كما لو مشمش حان أوانه، لِمَ لا يستطيع منع عينيه من متابعتها، التدقيق بكل ما فيها من تفاصيل؟ يا أنتِ أجيبيني، نعم يا أنتِ..
الضحك ممنوع بودياني، فالبسمة نار بخلجاني، والفرح مقيَّد بشطآني، فإياكِ وإثارة نيراني، وإلا.. ستندمين وتلعنين إشعالك ظنوني وأوهام جنوني، لست ضعيفًا لأغني لأحزاني؛ فاحذري واتقي شر ثوراتي، وتجنبي إثارة غضب نيراني، ولربك اشكري يا أمة من بجبروته هداني الآن ووقاكِ شر وحشي ونيراني.
* * *
راقبها لأكثر من ساعة، حتى شعر أنها ستنطلق؛ لذا قرر متابعتها، أثارت انتباهه وشدته طلَّتها بشدة، اكتشف خلف براءتها الظاهرة قوة وعنفًا مختبئين بين طيات روحها، وأفكارها عيناها وشتا بها، اشتمَّ عشقها للسيطرة خلف هذا الهدوء، تبعها حتى بوابة فيلتها، وعرف المالك من اللوحة الأمامية، انتظر قليلًا حتى عرف غرفتها، عاد لقصره المنيع، حيَّره عدم استطاعته الهرب من وجهها الذي صاحبه حتى حجرته، ارتمى على سريره مفكرًا فيها، وبدأ يحدث طيفها..
الجو اليوم شنيع، رياح وأتربة وقمر غريق، مطر يغرق هذا الكون النرجسي، جو أثار جنوني، جو جدير بنهاية العالم، بغيابك معذبتي مُنذُ رأيتك بأحلامي؛ وأنا أرغبكِ، مع كل لحظة تمر، كل التفاتة منكِ أشتهيك أكثر، حتى إني شعرت بمرارة في الحلق لعدم قدرتي على التهامك، الذوبان في بئر أسرارك، معكِ لمست توتر ضعفي أمامك، الثورة على ذاتي لمقاومة جوعي إليكِ، سيدتي.. لم أكن أنوي حبك؛ سيدتي؛ لا أنوي القسوة عليكِ، لكنك ملكتِ عليَّ أحلامي..
كونتيستي.. ها هو اليوم صدفة التقيت بكِ، صدفة سبحت بهواكِ، صدفه ارتويت بغرامكِ، صدفة هِمتُ بعشقكِ، وقصدًا.. سأحصل على عشقكِ.
«حيدَر»
انضم زميل جديد إلى القسم مع «رودينا»، جذب انتباهها منذ دخوله واهتمام العميدة شخصيًّا بتقديمه وتعريفه لباقي طلاب القسم، يبدو واثقًا من ذاته بشدة، طويل يقترب من المترين، أبيض البشرة بشكل شهي، يبدو ملمسه كشمع صُبَّ باستخدام تمثال من الكريستال، عيناه بلون العسل المصفَّى، هادئتان، لكن شفتيه ابتسامتهما حادة كما لو كانتا تقولان: ممنوع الاقتراب، هنا توجد أسلاك شائكة. يبدو أيضًا شخصًا ذا مركز وسلطة عالية من وقفته الشامخة ونظراته الواثقة.
أفاقت على صوت العميدة: «حيدَر» زميلكم الجديد، رحبوا به ولا تثيروا معه المشاكل، فهو قادم من أمريكا منذ أيام وسيكمل دراساته العليا معنا هنا، أحسنوا استقباله.
«رونا» انظري إليه، لا أعرف لمَ انتابتني حالة من البرودة والقشعريرة، هي حالة رعب غريبة تملَّكتني عندما رأيته! «رونا».. هل بعمركِ رأيتِ شخصًا خِفتِ منه منذ أول دقيقة تعاملتِ فيها معه؟
- لا.. لماذا؟!
- رأيته في صورة تبدو مريبة؛ صورة أرعبتني، خِفت منه بسرعة فظيعة.. أسأل نفسي: لِمَ يا خوفي؟! لماذا يا فزعي؟! أجاباني بأن عينيه غريبتان، وجهه برسم عجيب، ملامحه تبدو مُريبة؛ لذا.. فقد قررت صراحة أن أعلن خوفي وفزعي منذ أول نظرة فاحصة.
نظرتا معًا إلى «حيدَر» لتفاجآ بابتسامته لهما.. سألت «ميلي»، «رونا»: هل سمع ما قُلته عنه؟!
- لا أظن.. إنه بعيد عنا «ميلي»، لا يستطيع!!
- بالتأكيد لم يسمع، لكنه أثار رعبي أيضًا بابتسامته هذه، آآه.. هيا دعكِ منه، يبدو شخصًا واثقًا من ذاته؛ بل مغرورًا، هو يُذكرني بشخصية بطل كلماتك..
صاحب الرايات العالية بالحب والغزوات، تنير كقنديل سُبل غرام الفتيات، لمَ تحولت وحيدًا وسط الحكايات؟ حبيبًا مغامرًا.. نعم! لكن متحجر النبضات، دروبنا متشابكة لكن بِعُقَد محْكمات، تحولنا لصخور من رمال مالحة حارقات، وحبنا صار مملًّا بغيضَ التأثير والقسمات، كيف الفكاك من حصار مشاعرك المميتات؟ متى التحرر أسير الأحاسيس الباردات؟ أُنوثتي.. كينونتي ضاعت بمخالبك المقيتات، امرأة غيور كنت صاخبة، عاتية التقلبات، صرنا هباء مَنثُورًا وسط تغيرات مُحبِطات، مشاعرنا بالدماء صارت مضرجات، هذه نهايتنا يا صاحب الرايات.
- وهل هو صاحب الرايات «ميلي»؟!
- لا يبدو عليه تملكه أيَّة رايات «رونا»..
لتغرق الفتاتان في ضحك مستمر.
تقرُّب واقتراب
من بعيدٍ، رأت «رودينا» «حيدَر» يجلس وحيدًا مستظلًّا بإحدى الشجرات القريبة من سور الجامعة، اقتربت منه وحاولت تبادُلَ الحديث معه فكان يُجيبها بردود مقتضبة، استغربت هذا، فهي متأكدة أنه يتابعها بنظراته منذ انضم للقسم..
- لِمَ تتجنبني «حيدَر»؟!
- لا أفعل.. ثم إنه «دار»..
«رونا»: ماذا؟
- نادني «دار»، لا أحب «حيدَر»؛ أفضِّل أن تناديني «دار» كي أجيب ندائك..
ابتسمَت.. وعندما لمحت تغضن جبينه بغضب، قالت:
- أعتذر، تذكرني بشخص ليس إلا، أتعلم؟ تبدو غامضًا مثله، نظراتك حادة ولكن فيها لينًا جذابًا، وجهك جامد التعبيرات، ومع هذا ألمح ابتسامتك المختفية..
- أتغازلينني «رودينا»؟
قالها «دار» ساخرًا.
- لا.. بالتأكيد لا.
لتحمر وجنتاها وتشتعل بهما النيران، حاولت تغيير مجرى الحديث فقالت:
- تعرف اسمي! أمر جميل.. لكنني مثلك أفضِّل «رونا».
- سمعت صديقتك حمراء الشعر «ميلي» تناديكِ بـ«رودينا».. لكن حسنًا «رونا».
ضحكت بشدة وقالت:
- سيعجبها «حمراء الشعر» هذه، فقد تعبت عليه كثيرًا ليصل إلى هذه الدرجة..
لم يرد أو يعقب، اكتفى بالتحديق بملامحها دون أن ينطق بأي حرف، كانت كل جزيئاته ترتعش في حضرتها، ذراته تضج، تتمنى لو انفجرت ملتهمة إياها، عندما لحظ نظراتها الحائرة من تحديقه بها هكذا بحدة، نظر للسماء..
- أتريد مني الانصراف «دار»؟!
- لا..
- «دار».. لِمَ تبدو عليك مشاعر الحزن والضياع؟! جرِّب أن تبتسم وتعيش تجربة جديدة، تغييرًا للذات وتجديدًا للروح وما تحويه من أفكار، وتنعشها، إنارة لما أظلم داخل روحك، جرب العيش بفكر آخر، الشعور كإنسان غيرك، رؤية ما حولك بمنظور مختلف، وضع مبادئك وقيمك قيد الاختبار لمعرفة مدى ثباتها وأصالتها.
- «رونا».. أعتقد أنكِ لست مقتنعة بما تقولين شخصيًّا، لستِ أنتِ مَن تستخدم أسلوب التنمية البشرية وبرمجتها اللغوية وهذه الأشياء.
- «دار».. لِمَ ترفض كلماتي؟! أنا أعشق الفلسفة والأمور الخارقة للطبيعة وأومن بها بشدة، جرِّب أن تعيش ببراءة نية ونوايا صافية، بهدوء ورقي كأساس تعامل، جرب التوغل بضمير متيقِّظ وأمين في الحياة، العيش بكل ما فيك لتحكم على ما رأيته بإنصاف، ابحث عن تجربتك، عِشْ بتوغل داخلها، مُر بكل ما فيها، المساوئ قبل المزايا، مرها قبل حلوها، عشها كاملة، وعندما تنتهي جهِّز كشف حساب وقيِّم نفسك.
«دار»: ماذا سأستفيد من كلامك هذا وتجربتك تلك؟! حياتي فعليًّا تحوَّلت منذ زمن بعيد، لن تتغير ثانيةً؛ الآن أنتِ من ستتغير حياته، وسترين..
«رونا»: اسمعني، الأمر ليس تحديًا بيننا، جرِّب ستكتشف إنسانًا آخر يستعمرك، إنسانًا كان مخفيًّا بين طيات عاداتك، إنسانًا صقلته تجربته وأنعشت ما فيه ونقَّت مفاهيمه، ثبتت مبادئه الأصيلة، لم يمُت، ها هو ما زال على قيد الحياة يتنفس، يتحدث ويمارس شعائر وطقوس حياته كاملة.
«دار»: الحياة ذاتها أكبر تجربة تعاش يوميًّا، فعيشي أنتِ الحياة ومارسي حياتك بأمل وتفاؤل، فهناك دومًا الجديد مما سيفاجئك، لكن كل شيء في حينه، عيشي واستمتعي بذاتك وانتظري ما سيأتيك مع الأيام.
«رونا»: تبدو بكلامك هذا مثل شخص مسن يُفزع!!
«دار»: أنا فعليًّا مسن «رونا»..
«رونا»: اسمعني، نحن نحيا بالدنيا مرة واحدة لنموت مرة واحدة ونعيش حياة أخرى إلى ما لا نهاية، عمِّر هذه الحياة الفانية لتستمتع بالدائمة في خير ورحاب الله.
«دار»: لا أومن بحياة أخرى، أنا ملحد بكل هذا، رافض للأديان والمعتقدات البالية، مقتنع بالخلود وفقط.
«رونا»: الدين ليس معتقدات بالية، بل نحن من لا نستطيع استيعابه، لا يوجد خلود، هو وهمٌ نسعى إليه.
حاول تركها دون توضيح أو إذن، لوَّح لها مودعًا وهمَّ أن ينصرف، فثارت قائلة له:
- يا أيها المهرطق القادم من بلاد بعيدة، بباب دارك لاجئة هائمة في بلاد الله وحيدة، تعذبت كونها شريدة، فهلا منحتها القليل من وقتك! تنادي كل الأنام بلا مجيب..
يحيط روحها جو مريب، كلماتها ممزوجة بإحساس غريب، فهلا تكرمت وأصغيت، هلا قليلًا تواضعت، لا تثُر، لِمَ الغضب؟! جُلُّ ما طلبته فسحة وقت لعرض الطلب، ألا يسمح لك تمدنك؛ تحررك؛ بمنحها جواز مرور لعالمك؟!
توقف «دار» حتى انتهت من كلماتها وقال لها:
- بالتأكيد لنا لقاء آخر، مضطر للاستئذان الآن، لديَّ موعد مع طبيعتي وإلا سيندم كلانا.. سلام.
لم ينتظر ردها وانطلق مبتعدًا، كان يشعر بإرهاق وتعب بكل أجزاء جسده، نظر إليها مرة أخرى من بعيد، لو تعلمين «رونا» قيمتك لديَّ، فقط لو تدركين، يا سكِّين في القلب غائر، لِمَ البعد عنك جائر؟ يا حبيب بالقلب ساكن، لِمَ القرب منكِ يجعلني تائهًا؟! يا عشق بالفؤاد سائر، لِمَ حضنك كئيب وفاتر؟! يقتلني منكِ اهتمام مجامل، لاضطراري منحك تجاهلًا مستمرًا، قُرب، وبعاد موزون بحساب قاتل، معكِ دنياي جدول ضرب مقسوم على صفر، رغم أن حُبك يزيد بقلبي بشكل مستمر.
* * *
حاول «دار» محادثة «رونا» صباحًا، لكنها لم تمنحه فرصة للاستفاضة، تركته متحججة بمحاضرات ستحضرها وانصرفت، اعتقد أنها ترد له ما فعله؛ لم يعلم أنها تحضر المحاضرات فقط لأنها تنام ساعتين لكرهها النوم، كما أنها لا تريد الجلوس مع الأصدقاء بكافيه الجامعة، ولا البقاء بالفيلا وحيدة، نظر إليها وهي تبتعد مخاطبًا نفسه: ليتك تُدركين «رونا» حجم وجودك بحياتي ومعناه.
أنتِ.. حب وصفاء للبال، عشق ونقاء للحال، أمان يغمرني، يا قاسية الأحوال، يا أنتِ.. لِمَ دومًا العنف أسلوبك، عقاب لمن منك ذات، وأنتِ له حياة وغرام؟ هلا أتيتِ ليهدأ بالي؟! فقط لو تُدركين؛ عليَّ إعادة تشكيل وقولبة شخصيتك أكثر لتتحملي ما نحن مقبلان عليه.
قبر علمي
تسرح «رونا» دومًا في أثناء شرح الدكتور مادة التشريح؛ تعتبرها مادة خانقة؛ فهم لا يفعلون شيئًا ذا بال يناسب الاسم أو ما اعتقدت أنهم سيعلِّمونهم فيها، ترى المعمل قبرًا مغلَقًا، بل سجنًا فرديًّا، مسجونة هي في قاعة مغلقة، وهناك بصيص نور يظهر ويختفي من الأعلى وكأنما يغيظها لأنه حُر وهي محبوسة في الداخل، الرائحة خانقة تشتت تركيزها، فورمالين مقزز.
عندما يهل عليهم الدكتور بابتسامته الباردة، ونظارته الطبية المربعة، ورغم وسامته وطلته الحسنة، فإن كل هذا لا يشفع له في تخصصه بتدريس هذه المادة السمجة، اليوم وبكل سخافة أمرهم بارتداء «الجوانتي» الطبي وتجهيز المشرط وإبر التشريح؛ فضحيَّة اليوم ضفدعة، كما لو كان يخبرهم أنهم سيصنعون قنبلة ذرية لنسف قارة أفريقيا وتخليص البشرية من مصدر بؤس إنساني مستمر.
تتساءل: وماذا بعد تشريح الضفدعة؟! حمامة، صقر أو ثعبان مثلًا، وربما نشرِّح إنسانًا يومًا على سبيل التغيير؟! عندما تُخبر «ميلي» برغبتها تلك، تصرخ فيها: ولِمَ نشرِّح إنسانًا؟! لا أعلم كيف تفكرين هكذا، لا يبدو على ملامحك العنف، أخاف أن أنام معكِ ليلة؛ فأستيقظ وأنتِ تُشرحينني!!
قالت «رونا»؛ ليس إلى هذا الحد صديقتي، ثم عليهم تعليمنا لأجل العلم، اكتشاف المجهول، التعرف على أسباب تنوع أفكارنا رغم انحدارنا من الأصل نفسه (آدم)، وللتسلية والمتعة، ما المانع؟!
في الغالب لا تقتنع «ميلي»؛ لذا تُخرج «رونا» دفترها خلسةً وتكتب:
إنه هدوء الصباح القاتل، يسرق مني حتى أنفاسي، يسلبُ مني ذاتي، يتركني وحيدة مع آهاتي، يغتال أحرفي كي لا أسأل: متى أنال أمنياتي؟ يدعني وشأني لأستحضر وجه شخص يشغل بالي، لأسأل عمَّا يعبق روحي تجاهه، أحاول إيجاد تفسير يُرضي عقلي، لأعيش معه ساعات طويلة نتناقش بشكل متحضِّر فيما هو قاصٍ ودانٍ.
كثيرًا ما تتحول نقاشاتنا لمشاكسات رجل وأُنثى تنتهي بكون آخر زاهٍ، ها هو قد جاء، فسلام منكم وإليكم، فلديًّ موعد آتٍ.، يا هذا تعالَ أخبرني..
لِمَ فجأة تحول رعد وبرق سماء الدنيا ذاك المصحوب بلسعة برد خفيفة تلاعب وجهي إلى لمسه يد دافئة تغمر قلبي في بحر ملذات شهي؟! كما يعطره عبير بحر غير مرئي وعذوبة بسمة طائفة تسعى بين عينيَّ وشفتيَّ ببراءة ليتحوَّل شتائي إلى صيف مدغشقر الخلاب ببساطة!!
هيا أخبرني.. ما الأمر؟ ربما هذه حالة حب!! آه يا ربي.. أمعقول هذا؟! الآن أشتبه بمشاعري..
أتعلم؟ فسرت ما ألمَّ بمشاعري على أنها تُحب!! إنها حرب نفسية ذخيرتها كلمات مني ومنك، موجهة لطرف ثالث مجهول، لكننا نُدرك أنها مني إليك، وإليك مني، ونعلم أنها مقصودة، مرسوم ملامحها لتبدو بريئة.. أعتقد أني أدمنتك وانتهى الأمر.
يا هذا.. هناك العشرات، بل المئات، يقولون أحبك، وهناك مثلهم تنطق أفعالهم: أعشقك، لكنني أُدرك جيدًا أنه لا يوجد سوى شخص واحد فضحت عيناه صبًّا وجوى استعمرا قلبه، شخص واحد توَّجني ملكته، كونتيسته، حتى إنه زرع الكون ورودًا وأزهارًا، لتنطلق فراشات وجداني بأمان وسلام، هذا فقط هو حبيبي وسكني.
* * *
في الاتجاه الآخر، وقف «دار» أمام طاولة المعمل التي على شكل حرف U وتحتوي على كل ما يحتاجه الطلبة من أدوات التشريح لإجراء ما يطلبه منهم دكتور المادة، مقابلًا لـ«رونا»، يتابعها خلسة، يخاطبها بأفكاره، يرسل إليها رسائل فكرية تصلها فتبتسم، متوهمة حديثًا خفيًّا بينهما، رسائله تقول: أرأيتِ الكبريت واشتعاله؟! أشعرتِ بلهيب نيرانه، ثم فنائه لأجل هدف مهم؟! أرأيتِ الدخان؟! أتشمين عتابه؟! هذا أنا وأنتِ وليالينا.. حبي وحبك وهوانا، نموت ونذوب بسمائنا، يختفي الكبريت، فيذهب كل الراصدين، نختفي؛ ونحيا في نَفَس الليل، يمر الليل ويأتي النهار لنضحك ونسابقه، ثانية، ننام في حضن الليل، أحبك «رونا».
* * *
ازدادت أواصر المعرفة بينهما مع الأيام، وصارا يخرجان معًا كلما سنحت الفرصة، التي للمفارقة تسنح كثيرًا، يجلسان في مكانهما المفضل بالنادي، بعيدًا عن الأنظار، يغلفهما الصمت بشباكه، فجأة قال «دار»:
- «رونا».. أحبك، لا أعرف كيف! فأنا كائن غير صالح للحب، وغير قادر على تقديم الحب، ولا أن أترك المجال لفتاة أن تُحبني، هي أيام تمر معي، الله العالم ما هو مخبَّأ لي بالغد في جرابه..
«رونا»: اعتقدت أنك ملحد لا تؤمن بالأديان!
«دار»: آه فعلًا تذكرت، كنت قد نسيت..
كنت يومًا مؤمنًا، كانت لديَّ نقطة ارتكاز هوت مع مرور الزمن (قالها مبتسمًا).
صمتت «رونا» قليلًا ثم قالت هامسة: أحبك.
«دار»: مخبولة.
«رونا»: «دار».. أهواك.
«دار»: بل أنا من أهواكِ..
وأنتِ تتدللين ولمشاعري لا تحتوين!!
«رونا»: كيف؟ أنا عاشقة! بأحلامي دومًا أراك شريكي.
«دار»: لِم لا تُسكنينني قلبك إذًا؟
من أنا بعمركِ يا من تملكين في الوتين؟
«رونا»: تُهينني بتقليل مقدار حبي والاستهانة بمكانتك عندي.
«دار»: بل أنتِ من لا تدركين عذاب روحي ببعدك، مَوتي بجفاء يدك ليدي.
«رونا»: ما بيننا هو اختلاف تفسير لمكنون القلب وأسلوب إظهاره.
«دار»: من يحب يثق، وأنتِ لا تثقين..
«رونا»: عدنا للبدء بسوء ظنك.. آه يا قلبي المسكين.
ساد الصمت من جديد، واحتل كامل الصورة..
تنظر إليه «رونا» مدققة وتسأله بحذر:
- هل لقولك علاقة بوقوفك مع تلك الفتاة (جاردينا)، من قسم الكيمياء، صباحًا؟!
«دار»: ماذا؟ ألم أقل لكِ إنكِ لا تثقين في؟!
«رونا»: دومًا ألمح نظرات الحب منطلقة من عينيك تجاهي، لكن اليوم، اليوم شعرت أنك منسجم معها، تبدوان متقاربين وتحدثتما لفترة طويلة..
«دار»: لا تعقيب لديَّ!! كما أن شخصيتك لا تليق عليها الغيرة «رونا»!!
«رونا»: لا أغار، كتبت لك هذه الخاطرة، عليَّ الانصراف الآن.
تركت خاطرتها على المنضدة أمامه وانصرفت..
* * *
ناديت عليك..
وتعلمت الإنصات لهمسات جفاك، أحببت الوحدة في بحر غرامك، تحولت لنمنمات رسوم حروف هجاء جواك، تمنيت الموت بين يديك وبعنف هيامك، هويت طباعك وجميل صنيعك وحتى غيومك، تقطعت لأشلاء جرَّاء عذاب هواك، عشقتك وصرت حبيبًا دون أن ألقاك، سمَّيتك قاتلي يا رجل بحجم الكون أتمناك، بكل عنف ألقيتني، أحببت غيري لأتحول لمجنون سمائك..
يا من تركتني لأعيش عصور جهالتك.. أقترب وتبعدني.. كأن بيننا حربًا شعواء طحنتك..
يا رجل لقرون حياتي بسخاء ملكتك.. ارحم من باتت إحدى جواريك وعشقتك.. من بحسن الخلق والأصل اتسمت..
بشهادة جميع أخلَّائك.. للحب والعشق قدمت.. وعني تبغى إعلان جلائك..
يا قاتل عاشقة سكرت بملذات صفائك.. مفاجأة قد حلت ببداية العمر تنجيه بنقائك.
يا من تجليت كبهاء وبحسن الأخلاق أراك، لربي أدعو لأذوب في عشقك وآهاتك، يا من تعيش داخلي في عالم الاختلافات، أهواك يا من يرسل الحب إشارات، انظر والتفت لمن عشقتك، وبهواك حربًا شعواء أقامت..
صريعة عشقك قد صرت، وأنت في عوالم جوفاء صماء أقمت، هل حكم الله على حبي بالفناء لعدم تكافؤ الأمنيات؟!
احكم بشرع الله، وما تراه فلعلك تجد سبيلًا آتيًا، ماذا أفعل؟!
قد باتت كرامتي وكبريائي في مهب الريح بفضلك، كيف السبيل لنيل مشاعر قد صارت للغير حق تملك؟!
* * *
أدرك «دار» حجم المأساة ومدى حب «رونا» له، لكن لم يُسعفه التفكير بتصرف يليق، هل يلحق بها ويشرح لها كل شيء؟! هل يُخبرها أنه لا توجد بحياته سواها؟! لا يدري، فعلًا لا يدري الآن ولأول مرة ماذا يفعل! يريد الاقتراب منها أكثر، وفي الوقت ذاته يريد التأكد من قدرتها على تحمل ما سيُحدثه وجوده في حياتها مستقبلًا، هي جزء منه عليها أن تُدرك ذلك، ظل مكانه ساعةً حتى هداه تفكيره إلى إثارة غضبها الأنثوي بإحدى خواطره.
* * *
يا فتاة، تعشق التذمر والملام، تهوى ثرثرة العوام، وتزيف خرافات الكلام، فتاة، تأتي بالأخبار وتزيدها كالجواري!! ألا تتعبين أو ترهقين مما لا يفيد؟ ولكن لِمَ ألوم، ومن الرجال من يشبهك أو يزيد؟ ضاعت معهم رجولة وهيبة الوعيد، تاهت في بحر اشتهاء قول المزيد، أنا رجل، يا فتاة الكلام المستطير، يهوى الكلمة سراج منير، رجل، يهوى الصمت عزفًا وغناء، يعشق السكوت دهاء وحياء، فأنا رجلٌ الكلمة لديه بميزان، تبني مدائن وتعمرها بالسكان، أو تحولها رمادًا في ثوان؛ فيا أنتِ قيسي معي الكلام، بميزان ذهب لننعم بالأحلام.
* * *
سيمنحها إياها في الصباح قبل موعد معمل التشريح الذي تكرهه، لم يعلم بعدُ سبب كرهها هذا، فهو يستمتع به، شعر بسعادة كبيرة وهو يتخيلها مغتاظة بشدة، لكن لن تستطيع فعل شيء خوفًا من دكتور المادة غليظ الطبع، سيخبرها أيضًا أنه طلب من «جاردينا» الابتعاد عن مجاله وأسمعها ما يوجع.
* * *
أتدرين يا من تتخايل بمجون، وتُثير الصخب بضحك مجنون، تناغش هذا وذاك بعينين ساهيتين، مُتعلقة بمن عنها عيناه لاهيتان، تتمنى قلبه في ليلة قمرية، فتتمسح كقط عشقته جنية، علها تخطف لبه وصفاءه، يا متغافلة، من اخترته مشاعره معكِ غير مبالية، ولقربك أبدًا ما اشتهى ثانية، عشقه لغيرك ريح عاصف، عشقها أشهى من أبهى وصف، فهلَّا لحيائك عُدتِ، ولقلبكِ حافظتِ وصنتِ، فالحب أبدًا ما كان بالغصب، العشق لذته شغف وقرب، فاعلمي، قربكِ لا يروق أحاسيسي فلا تُزيدي، فإن هيامي لمليكة قلبي ووريدي.