إعلان حب
قبل موعد المحاضرة بثلاث دقائق تقدَّم منها ووضع خاطرته أمامها وانصرف، كما لو كان نسمة هبت واختفت في ثانية، ابتسمت، فقد اعتقدت أنها خطاب غرام مشتعل بقناديل الحب، قرأت، فتجهَّم وجهها، وبدأت ترسل له نظرات نارية حتى انتهى الدكتور من الشرح، بين الفينة والأخرى تمسك ورقاتها لتُفرغ كبتها بانفعال شديد، حتى إن الدكتور نبهها أكثر من مرة، ثم حذَّرها من الطرد إذا كررت ذلك، كانت تحدث نفسها: آه منه!! يقول إني فتاة ثرثارة، أأنا من العوام؟ سأجعله يندم على هذا.
وأخيرًا جمعت شتات نفسها وخطَّت له:
- أتصنِّفني مع البشر الجهلاء؟ اعتذر أو ستندم.
* * *
أعطت الورقة لزميلها الواقف أمامها وأشارت إلى «دار» كي يوصلها لمن يجاوره، وهكذا حتى تصل إليه، فتحها، ثم منح «رونا» ابتسامة باردة وفقط، فاشتعلت نيرانها من جديد، وتصلبت ملامحها كما صخرة صماء.
خاف من رد فعلها هذه المرة، فكتب بضع كلمات علَّه يرضيها، وأرسلها إليها:
- قالوا عني مجنون، مجذوب في دنيا الخيال سارح وضائع!! آه لو يعلمون، أني كنت يومًا للمشاعر شاعرًا، أكتب قصائد حب خيالي، وكانت ريشتي وألواني، نبض أيامي بها هيامي، الكتابة لي بيت، بيدي بنيته وسكنته، كتاباتي ابن ليس له وجود، لكن فجأة، جاء طيف جميل..
من خلف غيومي ظهر، قال كلامًا كبيرًا، قلت: أعيش الحياة، أشرب معه الحب كاسات، لكنه يومًا أخذ القرار الغريب!! قرر أن يبتعد بعيدًا عني، أفسد أرضي ثم ادعى حرقها لإعادة الإعمار، يصر على تحويل مشاعري لكره، ومع ذلك يلومني!! جاء معاتبًا الجفون لتنفيذ قراره المشئوم!! كأنما أنا من سلك درب البعد وتركه شريدًا!! حاكِموه..
بل حاكموا قلبي، أجبروه على الانصياع لإرادة الحبيب، فلِمَ العناد؟! أخبروا الحبيب أن يطمئن ويرتاح، سأحقق مطلبه، وأسير بغير درب الحب، ذاك الدرب المدفون بوادٍ سحيق بحياته!! سأقول له: فضلًا، ارحل عن عمري وعن روحي؛ فالأمر صار مميتًا. يقول: ثورة، سأثور وأطير بعيدًا عن محياه.
يكفيني تكراره لجملة: «حبيبي، ذكِّرني بما كان، اجعلني أندم قدر الإمكان، كي أكرهك أكثر، فأنبذك أكثر وأكثر، يا ربي! في القاموس الجديد للحياة صار الشعار: كن قويًّا لأكسرك من جديد».
حبيبي، بصولجان غرامك كُنت تُخضعني، وبقبلة متأنية للحياة تلُقنني، ولسلطان عشقك أرضخ، تُهملني فأغضب وعن حبك أتوب، ثم أعود وأرزح في قيدك فتغتر وتُفاخر فأثور وعنه أتوب، ثم أعود، فتعود.
أنهت القراءة ثم تركته في عالمه من دون أن تجيب بحرف يهدِّئ ثورته، أخرج ورقة ثانية وظل يكتب لدقائق مرت عليه كثانية واحدة، وأرسلها إليها ثانية.
فتحتها بتؤدة لتقرأ ما كتب، كانت تتوقع اعترافًا بالحب وتذللًا لترضى عنه، لكنه فاجأها؛ فلقد كتب:
يقولون: كل شيء بأوان، فمتى يأتي ربيعُ قلبي معك؛ وقد حل خريف عمري، ورحل ربيع بهجتي، ممتطيًا جوادًا متهالكًا؟ فأحلامي واحدًا خلف الآخر تضيع مع العمر، خريف يتبعه ربيع يتبعه خريف، بلا أمل أو سبيل للوصول.
طيفي المعذب اتهمني زورًا، رماني بقسوة بكلمات تذبح، قال: مُغفل أنت، بدءًا أهديتني فتيل الثورة لأفتت قيود حريتي، وشمتَّ أنت في نبرات صوتي، يتعثر بكَ كل من يحاول الاقتراب، ثم بكل حُمق عُدت متهدل الكتفين، تنعى قوة كنت تتوهم أنها ستحميك شرَّ ما سيكون، كُنت حلمًا للروح تقوِّيها على غدر البشر وقهرٍ منه الظهر قُصم، أهديتني حرقة قلب؛ لذا سأهديكَ قلبًا قاسيًا متحجرًا.
كنا كطفلين امتهنا العشق دربًا دون دليل أو خارطة، في السهر آيات ترتل عشقنا الذي أنتَ أهل له، تزجرنا عصا اللوم لتردعنا، فتزيد مناوشات شقاوتنا رغم البعد كما عناد طفل وحيد رفهته الحياة بملاعق من ماس فريد.
ليتك تُنكر هوى غيري فأرتاح وأهدأ، بدلًا من صمتك الأثير، لِمَ تُعاند وتراوغ وفي المراوغة قاتل وقتيل؟! لا تستمر صلدًا هكذا، فأنت تقتل ما مضى بيننا، فهل تفعل هذا عمدًا لتفسح المجال لمستقبل تراه قريبًا؟! هل الآن ما يجمعنا هو الحنين؟!
مزقت «رونا» خطابه إلى قطع صغيرة جدًّا ألقتها داخل حقيبتها، فتحت دفترها ونزعت ورقة لتكتب ما يغيظه:
- أحبائك كُثر، الأولى كانت فرعونية الطلة، بتعاويذ وسحر الجن سرقت القلب، والثانية رومانية الوجه والخلق، مصارعة كما نمر هائج سرقت اللب، والثالثة عربية بسمار الشمس خطفت النظر، أما الرابعة فقدس الأقداس بملامح لاتينية ملونة بروح غجر الأسبان، والخامسة أمازيغية، شعلة نار متقدة تحرق وتفتت، والسادسة تيوليب أصفر تتحايل علَّها تسرق الخد بقبلة.
حبيباتكَ في الماضي كن كثيرات، وفي المستقبل أكثر وأكثر، حاولن نزعكَ مني، فهيا، أنتَ لم تعد قدري، وسيُزهر نبت أقحوانكَ خارج مُدني، فهل هدأت وشاياتهن الآن بعد أن ودعتني؟! بتُّ أبغض كل مؤنثة من جريرتكَ أنتَ.
ليتني أُصدق صدى صوتك فأرتاح، ضاعت الثقة والسكن ولا أجد المفتاح كي يعود الثغر ينبت البسمات يا صاحب العبرات، وتلمع العيون بشرارات العشق، وتهدأ الروح مهدهدة للنفس بوجود أمل في ضمة أمان تنسيها الآلام، كي يلتئم الصدع وتعود الحياة مبهجة يا خلي الضائع بين الآهات، حبيبي على جمر من لهيب غامر، تتقلب الروح على مهل، تشتاق للقاء يحل بلا موعد، بلا أمل في لحظة انتهاء للشقاء؛ فيا نغزات صمت غائرة بالفؤاد، صبرًا على نفس لم يعتَد قلبُها الثائر الصبر أو الانتظار.
اسمعني، عصر الشعوذة وإطلاق بخور النبوءات قد ولَّى، والآنَ آنَ أوانُ ثورةِ الشمع العاجي بشتى ألوانه وطوائفه على كل طقوس العشق، لا غجرية أو أمازيغ سيشعلون ما يسكنكم من ثلج، لا أسبان أو بربر سيحتضنون لأجلكم الجمر، لا عذراء فرنسا عليكم ستُنادي ولا ثيِّب أمريكا لرجولتكم ستُلاغي، أنتَ وعازلي قُلتم: عورة، قُلتم: حرمة، قُلنا: والله عليكم سنُقيم الدنيا، فإما نحن وإما إياكم، وإلا فلننصهر ولتمُت الثورة، كي يُبعث جيل يحمل راية مشتعلة بدماء حرة.
لقد أجادت إثارة غيظه بجدارة، حاول التفكير في وسيلة توقف اتهاماتها، بعدما صمَّت أذنيها عن سماعه، توتر وحاول مراقبة زملائه ولكنه لم يستطع الصبر فكتب ثانية:
أخبريني، كيف تكون القبلة لغيرك؟! بل كيف يكون دفء الحضن لمن عداك؟! أترينه بسيطًا جدًّا نسيانك والغوص في سواك؟ خاتم الصمت في بئر سرك يبوح، فهل تهتم بهمس الثغر وتهمل شهد الجفون؟! أخبريني، ماذا لو سرقت ماسة من شفتيك الآن وأجَّلنا أخرى أعمق للمساء؟
يا حبيبة القلب.. ما زلت كُل ليلة أنتفض فزعًا، كي أتأكد أني لم أضبط هاتفي على وضع صامت، وقرون استشعاري سهت عن التقاط عبير مكالمتكِ، فلا أجد إلا الفراغ وجزيرة قطني يواسيانني في فقدي إياك، لكن صبرًا قلبي، علينا فراقه؛ فهو لهذا الأمر يطلب ويشاء.
قرأتها «رونا» وببساطة قامت بتمزيقها، ثم ألقتها في سلة المهملات غاضبة، فما لها هي وقصصه عن أخرى تركته وادعت أنه البادئ الظالم، هي فقط غاضبة منه ولن تتركه!!
«ميلي»
جالستين على سرير «رونا»، وكعادتها «ميلي» تثير زوبعة صوتية بثرثرتها وصوتها الصارخ، مع بعض المؤثرات الحركية بيديها، تناسب كل حرف تنطقه.
- «رونا»، لن أتركك حتى تخبريني بما يدور، بتِّ تتهربين مني كثيرًا، تذهبين حتى لمقابلة «دار» وحيدة مستغنية عني، ماذا دهاكِ؟! أريد أن أعلم ما يدور بينكما، هيا أخبريني الآن، الآن.
- حبيبتي، أنا والبرد نتشارك، في كوب حمض الأيام محلَّاة بعسل ظلم وقهر نفس، بسبب ضياع الأحلام، مذابًا في تقطير ماء ذل الاحتياج لبعض الأوهام لتدفئني.
- هههه، هيا، لا، ليس البرد السبب، هيا أخبريني الصدق ولا تصمتي هكذا، منذ جئتكِ وأنتِ صامتة، أو تتعللين بأشياء واهية، هلا أجبتِ وأرضيتِ فضولي؟ تعلمين أني خائفة عليكِ صديقتي، أليس كذلك؟!
تناولت «رونا» دفتر خواطرها، فتحت إحدى الصفحات وناولته لـ«ميلي» التي أخذته بلهفة، وبدأت تقرأ، لتتغير ملامحها لدهشة فظيعة، وتمتلئ عيناها برعب غريب، بعد أن قرأت:
- يا رجل اعتاد الجلوس والتوضؤ بآهات المحبات العاشقات لإرضائك ووصالك، أنا غيرهن، مثلك اعتدت صدَّ كل غازٍ مقترب ليُثبت أنه المستحق لاحتلال أراضيَّ، اغتنام كنوزي وسحب أحلامي، نيل أنهار آهاتي وأناتي، الاغتسال بضعفي وحنيني وحبي إليه.
انتظر..
لِمَ أفكر بك وكأن بيننا قصة عشق ملتهبة؟! لِمَ تحتكر لياليَّ وتنثرُ أشياءك لتمسك بتلابيب أفكاري؟! كيف تفعل هذا وقد نمت وتركتني لمعاناتي بعيدًا عن أحضانك؟! آه منك، لست معي بكون واحد، بل أنت شريكي في دائرة أصغر، تفصلنا بضعة كيلومترات بقدرات خارقة تجتازها، تأتي لأشتمَّ عطرك بمكاني، لأشعر بأحضانك دون أن أراك أمامي، أتتحكم بعقلي الباطن، أم أني حقًّا أهواك؟!
بأنهار عشق وعدتني لأروي عطش السنين، أُشبع هجر لذتي لحياتي طوال فصول، وعدتني بفصول عشق تعوِّض نحر أنوثتي على أعتاب أوثان صمَّاء بكماء عن وجعي وأنيني، تجعلني أسمع دقات غرامك على أبواب قلبي، أسمعها صرخات فرح، معلنة البداية معك، النهاية إليك، الضياع بحُلم اقترابي لسماع ضربات قلبك، لمس نبضاتك بأصابعي، إثارتك بنيران نظراتي، إشعالك بهمس حركاتي، رؤيتك صارت كعزف ترانيم نشوة حب بأذني، لحن أنشودة عشق بحواسي، ملاعبة أوتاري لتتوتر خلجاتي، أنا أُحبك وعلى أعتاب عشقك جئت تائبة، فهل تقبل ابتهالاتي؟!
بسببك كونتي العزيز، انهارت منظومتي لفرض الحماية والأمان على مجريات حياتي، بل أنت حطمتها عامدًا، نعم حطمتها، أفنيتها، كأنما لم تكن يومًا في الوجود، كيف فعلتها؟! بل لِمَ فعلتها؟!
* * *
- «رونا»، ما معنى هذا؟ لم أفهم، مرعب ما كتبتِ، ما الذي تقصدينه؟!
- الأيام ستُجلي كل شيء بأوانه «ميلي» فاصبري
- تُقلقينني عليكِ، قالتها وهي تنكس عينيها حزنًا.
نظرت «رونا» ساهمة خارج إطار نافذتها وقالت:
- لا داعي للقلق صديقتي
* * *
جاءت والدتها إليها في غرفتها ولم ترسل المربية كعادتها تسأل عن أحوالها: أتريدين نقودًا؟ أينقصك شيء؟ لتكون إجابتها الدائمة: لا أمي، لا ينقصني شيء، لكن ظلت والدتها جالسة على طرف السرير.
- أمي، هل هناك شيء ما؟ أتريدين أنتِ شيئًا؟!
- أنا أمكِ!! أريد الاطمئنان عليكِ حبيبتي، اتركي الـ«لاب» وتحدثي معي قليلًا.
- اممم، ماما تترك أعمالها شديدة الخطورة والأهمية وتأتي لتتحدث معي، يا له من أمر جلل، ألا يعتبر هذا إهدارًا لوقتك الثمين؟ أأنتِ مريضة؟ أعتقد أن يوم القيامة قد حان موعده أمي، لن يصدقني «لؤي» عندما أخبره (قالتها ضاحكة).
«حليمة»: حسنًا، كفاكِ مشاغبة، سمعت عن صديقك الجديد هذا الـ«حيدَر»، الحكايات كلها مقتضبة ومجملها أنه شخص غريب لا يؤمن بشيء، لا أريدك أن ترتبطي بمن قد يثير مشاكل ويؤثر علينا «رودينا».
- اسمي «رونا» ماما.
لتكمل والدتها:
- علمت بأن لديه علاقات كثيرة مع الفتيات، يدير عملة الخاص بجوار دراسته معكِ في الجامعة، هي أعمال والده كما سمعت والذي لم يرَه أو يعرفه أحد مطلقًا، هم أُناس غرباء بشدة «رونا»، يكتنف حياتَهم كثيرٌ من الغموض.
والدته لا تقابل أحدًا ولا تختلط بأيٍّ من سيدات المجتمع، أيمكنك تفسير حبك لشخص كهذا «رونا»؟ حولك الكثيرون، فلِمَ مجهول الأصل هذا؟!
- ماما، هو الآن مرتبط بي فقط، ثم إن قصته بالمختصر أنه يومًا تعب من الأيام، ملَّ من زمن يحوي مصائب متتالية تحل عليه، تغتال بقلبه فرحة عين وشفتين، تسلب منه صفاء ونقاء كان يتمنى لقاءهما.
«حليمة»: دعكِ من فلسفاتك هذه «رونا».
«رونا»: ماما، هو شخص خارت قواه في مقاومة تقاليد بالية تحرمه من حب العمر، تؤلمه دومًا، وكأنما خُلق ليتجرَّع كؤوس الحرمان صباحًا ومساءً، تصدمه في أهل وأقارب وخلان، تسرق منه وردات وزهور ريعان شبابه لتلقيها على أرصفة حرمان وآهات؛ لذا اتخذ قرارًا عقليًّا بالتخلي عن إيمان موروث بقيم ومبادئ معروفة، أعلن للبشرية نبذه لما يُلَقَّن من تعاليمَ تمارَس دون عقل أو استيعاب.
«حليمة»: لذا قرر أن يكون ملحدًا؟!
«رونا»: هل تصلين أنتِ ماما؟! هل أصلي أنا و«لؤي»؟! نحن متدينون اسمًا فقط، هو أيضًا قرر تنازله عن حياة يراها صمَّاء بلا منطق، واختيار حياة تحرُّر وحرية يحكمها عقله ولا أحد آخر سواه، قرر نبذ الدنيا والعيش داخل ذاته.
«حليمة»: «رونا» حبيبتي، كيف تحبين شخصًا كهذا؟ أجيبيني! لا أريد أن تمري بتجربة فاشلة أخرى، عانيتِ كثيرًا عندما أُصبتِ بانهيار عصبي بسبب هذا الـ«شيكو»، لا أريد أن تتعذبي بسببه، يمكنني قتله إذا آذاكِ بكلمة حتى، تعلمين ما فعلته مع «شيكو».
«رونا»: أعتذر لتعب سيادتك معي سابقًا، ماما، بعيدة جدًّا أنتِ عني لتُدركي ما أحب وأكره، أحبه، فأنا مثله وهو مثلي، بيننا اختلافات تقربنا، ونقاط تقارب تثير ريبتنا، تصريحات، تلميحات، وإيحاءات، أقاويل واستفزازات، فهو مني وأنا منه، هو أنا بقوة رجل، وأنا هو بنعومة أنثى، هو صاحب الكهف، وأنا مالكته، أنا أميرته الحالمة، وسط أساطير سطوته وغاراته، هو سيد قلعتي، أنا صمام أمانه وأسوار حمايته، حبيبته وشريكة حياته المقبلة، أُعلنها بكل شموخ وزهو: ماما، أحبه، وهو يُحبني، أنا سيدة وحبيبة قلب حبيبي «دار» فاطمئني..
أوه، نسيت إخبارك، هو أيضًا يملك إمبراطورية والده ذات الأعمال المتشعبة التي تحكي عنها، ورثها عن والده المتوفَّى، سيكون لكِ صهر يقويكِ وسط منافسيكِ، ويساعدني في الوصول للسلطة التي أتمناها مثلكِ، كما أني أحبه يعجبني تكوينه وأفكاره الغريبة.
احتارت والدتها ولم تدرِ بما تجيب؛ فلديه مقومات مهمة بمنظور عقلي للأمور، تركتها وانصرفت، علَّها تفعل ما لم تستطِع هي فعله عندما تزوجت والد «رونا»، وإذا حدث ستؤمِّن حقوق ابنتها في هذه الزيجة بشتى الطرق.
مشاكسات
- «ميلي»، استيقظي وإلا أغلقت الخط وقاطعتك ثلاثة أيام، وأحرمك من خطاباتي المكتوبة لأجل حبيبك، وقد أخبره أنني من كتبها نيابة عنكِ..
«ميلي»: حسنًا، حسنًا، أدلي بدلوك «رونا».
- اليوم بالجامعة رأيته، أهداني ابتسامات مليئة بفرح وشقاوة رجل يجيد مغازلة الأنثى، غطَّاني بعباءة سرد تفاصيل وخبايا يومه ليثير في فضول القطة، شاكس الأحاسيس المفعمة بحبه لينال الرضا وتاج عشقه الماسي، فعل الكثير ليبهج يومه، ليلًا أهديته قبلة سلام، لينام بأحضان أحلامي كما القطة
«ميلي»: قُبلة! قُبلة ماذا؟ أقبَّلتِه يا ملعونة؟!
«رونا»: أهذا كل ما أثار انتباهك؟! لا اعلم لما أُعلمكِ بأسراري وأخباري!!
«ميلي»: أقبلتِه «رونا» صدقًا؟!
«رونا»: يا غبية الأغبياء، أقول لكِ: أحضان أحلامي، بالتأكيد لم أفعل ولو أني أتمنى هذا (قالتها باسمة).
«ميلي»: ملعونة، أنتِ فتاة ملعونة، هيا أكملي، فلقد جذبتِ اهتمامي، وجعلتني أفيق.
«رونا»: حسنًا، قال لي أيضًا:
يا مليحة، للبشر في عشقهم مذاهب، وفي عشقك ذبت وذابت معي المدامع، يا مليحة الخد، وهيفاء القد، ارحمي مَن في محراب حبك راهب، من في قدس أقداس غرامك متبتل، ألا في حلال ربك امنحيني دواء للجوى، بادليني الهوى على ضفاف نهر شوقي المترف، يا مليحة، منكِ أنا ملتاع مكتوٍ أطلب عشقك المرهفَ.
«ميلي»: بالتأكيد أجبتِه بكلمات كبيرة مثل تلك، أعرفك صديقتي ملكة الرومانسية.
«رونا»: هههه، نعم، نعم قُلت له: يا عاشقًا متغنيًا بالمليحة وعشقها، أنا المليحة أبلغك تمكنك والهوى، معك وجدت ذاتي كما فراشات الغرام، كما ملكات الأساطير والآلهة العاشقة، بك بهاء قداستي، إليك نماء سطوتي، منك الحنان مرتعي، وفيك الوفاء مخدعي؛ لكن، كيف الوصول والالتقاء، والدرب كما الهدف مختلفان بيننا يا عاشقًا سابحًا في بحر الهوى؟؛ فسألني: من أنتِ؟
أجبته: سؤال لا يحتاج إلى إجابة، أنا أنتَ، فبعينيك رأيتني، وبيدك أمسكتني، بأنفاسك تعمقت فيَّ؛ لذا تعرف أن ذاتي نابعة منك، كل منا بمكان لكن جمعنا زمان وإحساس واحد ولن يفرقنا إنسان إذا أردنا فعليًّا هذا
أتعلمين «ميلي»؟ هناك مِن البشر مَن يكون لهم قوة حضور تغطي على الآخرين وحتى على غيابهم، لتستشعري وجودهم معك بكل جانب، مشاركتهم إياك كل لحظاتك، ليضيء توهجهم حتى غفوتك، وحبيبي سيد الحضور وأستاذه؛ فحتى في غيابه بيننا دومًا لقاء.
آآه، «ميلي»، نادي معي الدنيا..
«ميلي»: لِمَ؟! ناديها أنتِ، سأكمل نومي أيتها المجنونة، سلام.
«رونا»: انتظري، أزيدك أني الآن أعشق الشتاء.
«ميلي»: بالتأكيد حبيبتي، الشتاء للعشاق دفء، أنا من ستنادي الدنيا: يا دنيا هيا تعالي، احذفي الشتاء من منهجكِ؛ فمن مثلي مفارق الحبيب ومن لا يملكون حبيبًا لا يرى له جدوى، شتاؤكِ للعشاق أمان ودفء قلب بحضن حبيب، وهو لفقراء العشق عذاب في سعير وصقيع، ولمن هُجِرَ وفارق جحيم دون لهيب.
«رونا»: هل تركتِ «أمير» ثانية، أقصد عاشرة؟!
«ميلي»: نعم، دومًا مشغول بصفقاته، يمنُّ عليَّ بالقليل الذي نتشارك فيه بعض اللحظات الحلوة.. أتعلمين «رونا»؟ قالت جدتي ضمن حكايا طفولتي: «الحب صغيرتي ينبت وسط أحراش المستحيل، يُسقى بدموع المحبين». ها هي قد دارت الأيام لأروي زهرة حبي، بدمع قلبي قبل عيني وما يكويني من أنين..
حذرت «أمير» من أني يوم أسرد حكايات حبه عليه أن يعلم أني بدأت تكفينه بين سطور كلماتي، فمَن أعشقه أهوى إخفاءه عن عيون الدنيا ونظرات الناس، أنا عاشقة لليل وأستاره في الحب، لكنه لم يصدقني!!؛ والآن جميع من نعرفهم يعلمون أني يومًا كنت أحبه وتركته لجفائه في حبي..
«رونا»: هيا «ميلي»، سلام، أكملي نومك، لا تنغِّصي عليَّ ليلتي الجميلة
«ميلي»: أنانية، هيا سلام.
هدوء
في كافيتريا الجامعة جلسا منفردين بعيدًا عن أصدقاء «رونا»، يتجنبان نظراتهم المتابِعة لمعرفة ما يدور بينهما؛ فالشائعات ملأت الجامعة أن الاثنين عاشقان، اكتفيا بتبادل النظرات، وبداخل عقليهما ألف سؤال وسؤال، كلمات سابحة تنقلهما معًا إلى عالم الخيال.
همهمت «رونا» أخيرًا: كُن صديقي الأقرب.
«دار»: لكنك حبيبتي «رونا»، كلانا يُدرك ما يعجبه في الآخر، ولم يتمنَّ وصاله، نحن عاشقان بقرار قلب وعقل.
ليسود الصمت من جديد.
* * *
سهرت «رونا» تناجي القمر، فلم يعد بمقدورها مقاومة حبه المتذبذب بين قرب وبعد هذا:
- ويحك يا قمر! أتآمرت عليَّ أنت والحبيب؟ أترسل أنت ونجومك صور الحبيب لأفكاري عامدًا متعمدًا؟
هل تجرأت عليَّ أيضًا لتتركني أسرح معه بذهني أحدثه ويحدثني، أراه يتنفس ويخبرني رغم قسوة تعامله بأنه ما زال يحن لوجودي جواره؟ لِمَ أرى طيفه الآن معي؟!
آه لو ألمسك الآن حبيبي، هل أخبرتك يا طيف حبيبي بأنني أشعر باشتهاء يأسرنا ويجذبنا لتتشابك خيوط حياتنا دومًا؟! «دار»، أراك تسحب بنعومة أطراف أشعة ذهبية تنطلق من داخل تجاويف قلبي إليك، تشبكها بخيوط قلبك الماسية وتعيد إصلاح ما أضعفته بيدي، يحيط بأهدابنا غمام تنيره نجوم وضَّاءة، يثير اهتياجنا بعنف حُب كُبت يُضعفنا معًا، لتتشابك أيدينا وننسى واقعًا اخترناه بعقولنا لإرضاء الغير على حساب أنفسنا.
ننسى، نتغافل أن بأيدينا لفظنا حبًّا قويًّا واخترنا آخرَ ضعيفًا، قررنا العيش بسلام مصطنع علنا نُرضي، لا أعلم مَن، آه منك، أنفاسك عطر غاب عن لحظي لكن استعمر روحي..
وجودك حبيبي حتى بخيالي مدد للنفس، داعم للروح، يأسر آلامي ويخفيها، غرامك بالقلب دواء شافٍ لحل عُقد تكوَّنت من صراع دنيا وحياة.
ما زلت أنقاد خلفك أخطرُ متأنِّية، جواد بري يعشق فرسًا عربيًّا خلفه يسير بخطوات بطيئة، تتقلب نظراتي في خيال سحب تنطوي على صورة عينيك تنظران بهيام لروحي، لتعلو نفسي لآفاق عليا وتسبح في فلك حياتك لتقدم حبًّا وهوًى بسخاء، آه منك يا سبب شجوني وشقائي، لا تهتك سر غرامي رجاءً، توغر قلبي ببعادك لأزدري حبي وأرتعش نفورًا مما يسكنني من عشق مجنون، ويملؤني حياءً يُضرم في قلبي نارًا لأضمر مقتًا لكيانك الخائن لحبي وحناني.
تتقلب صورتك في أجفاني ما بين طير للحب يغرد لي وشخص ثقيل الوقع أتمنى منه خلاصًا وفكاكًا، أتتلبس روحي حالة عشق في حضورك أم أني عن حق صرت مجنونة هواك؟!
عالم كثيف وكئيب من غابات البلوط يسجنني معك ويخنقني، حبس لا أجد سلوى معه لتشعب دروبنا عبر خيال مجنون يُحضرك لعالمي في لحظات، تحضر وتعيش في كنفي، تُعالج روحي من رهبة وحدةٍ قاتلة في غيابك، خوفي من حب آخر قد يأخذني بعيدًا عنك وأنساك.
آه يا ربي، ارزقني حجابًا عنه يفصلني، أرجو خلاصًا من حب صار سبيلًا لعذاب، يا ربي، أرجو ضياعًا في ذاتك يخلصني من آلامي وأوهامي لحب غافل لا أمل لوجوده بدربي، يا ربي، احمِني من شر خيال يحبسني معه ينسيني واقعًا معاشًا وسيُعاش.
عتاب
في منتصف الحجرة، طاولة تشبه التابوت مبطنة بالحرير، وضع «دار» عرشًا ضخمًا في الزاوية الشمالية لغرفته المصممة كما غرف ملوك العصر الفرعوني؛ فهو العاشق للتاريخ الفرعوني ويراهم عباقرة في العلم والفن والسحر، رُسِم عليه من الخارج تمثالٌ يبدو من بعيد كما توت عنخ آمون، لكنه في الحقيقة يشبه «حيدَر»، فلقد طلب من نحات فرنسي صُنعه خصيصًا في إحدى زياراته الكثيرة لباريس، عاصمة الفن والجمال، قائم على قوائم منحوتة على هيئة عبيد راكعين.
خرج ليقف في شرفته يراقب القمر ولمعانه وتلألؤ النجوم ببهاء، ففيهما يرى وجه حبيبته «رونا» مضيئًا مبتسمًا له، كان الغضب يتملكه من نفسه؛ لذا عاتبها:
- لمَ أفعل هذا وأنا من حاول الاقتراب منها؟!
لمَ الآن أبتعد؟! هل حقًّا أخاف عليها مني!! ماذا أفعل؟ أريدها وأخاف عليها! لمح دفترًا صغيرًا على الطاولة، فجلس على طرف سريره المصمَّم على هيئة تابوت كبير مغطى من كل الأركان بحرير ومبطن جيدًا، أمسك بالقلم وبدأ يَخُط بدفتره مقلدًا «رونا»:
- أنتِ يا من لفن الاختفاء هاوية بمهارة، عاشقة للتخفي ومتيمة بالتنكر وتصنع البراءة، يا من صمتها وراءه آبار حيرة، اشتعال غضب بغارة تسقينا كؤوس مرارة، يا ممسكة لأطراف الكلام بتجبر عاشق غاضب، مستمتع برهافة فراقه، أدرك مدى غضبك لفراقي، يا من تُلقي عليَّ الملام، هلُمِّي واحتضني معي الأحلام، اخنقي معي تلك الأوهام الجسام، انتزعي شرايين ظنوني الخبيثة.. اقتربي؛ فما بيننا لا يجوز معه الغياب وكل هذا العتاب.
أريد الحديث قليلًا معكِ، لا بل كثيرًا، فأنا أشتاق لهمس نبضاتك، بشدة أحتاج لتقديم تفسير ومبرر لغيابي ولصمتٍ يغلف كلماتي، فهلا تستوعبينني وصمت معاني وأحاسيسي؟! في أحيان كثيرة حبيبتي نحتاج لغريب يمضي ويتركنا نحكي له، بعد أن يسأل عن أحوالنا، بعد أن نسرد له أحداثًا تضايقنا، حديث مع الذات كشف حقيقة آهات ومعاناة بأرواحنا، توضيح صامت لأسباب ضيق النفس وتيه الخاطر والبال عمَّا حولنا، حديث خطير ومهم، لكنه سرِّي يدور حول ما يجول بأنفسنا، أنا أريدكِ أنتِ لا آخر غريبًا، أحتاجكِ يا أنتِ مخزنًا لأسراري، أنت من يجيد فن احتواء معاناتي، يخرجني من صمت آهاتي، يسرقني حتى من ذاتي ليريني عالم أحلامي الزاهي..
يا أنتِ يا مخفية بين قصصي ورواياتي، هلا اقتربتِ؟! أفتقدك، منكِ أنتِ قوتي وحناني، سهري ومجوني، شقاوتي وهيامي، منكِ أنتِ أستمد عشقي وغرامي وحتى سلطات رجولتي، نوبات عنفي وجنوني، توترات فرحي وجمودي، بكِ أنتِ أثبت وجودي.
حبيبتي، جليدي في بلاد عشقك سابح، فهل بشمس حبك أذوب بلا ألم، أحتمي من غدر أشعتها الصارخة؟ برودة عمر بأجزائي متشعبة، هيا بضياء هواك المسيها، وأدخلي الدفء، احذري انهيار قلبي متألمًا، تيه عواطف بحياتي متغلغلا، فائتِ بحنانك واسلبي الحياة، امنحي الروح من النعيم فرصًا متتالية.
حبيبتي، على بقايا رماد آهاتي المشتعلة من عذابات أعوام وأعوام مضت، نضج هواك بقلبي بتأنٍّ، تنتشر أبخرة عشقك بين سحب أيامي، تجلين لياليَّ بإشراق ثغركِ الباسم وعينيكِ اللامعتين، تضيء حياتي بكِ ومعكِ، لكِ حضور طاغٍ يطفئ نيران أشواق المحب وقت الغياب، لهيب متصاعد يعقبه نور أخَّاذ، لهيب عينيكِ أشعل رماد قلبي.
«رونا»، أُحبك.
* * *
في كافيه «ليالينا» تقابلا الساعة الواحدة؛ فـ«دار» عاشق لسهر الليل و«رونا» شغوف بأستاره، المكان ساحر يعتمد على إنارة من الليزر تتغيَّر بين دقيقة وأخرى، في الأركان هناك مباخر تشعرك بسحر أساطير بغداد، والطاولات موزعة بطريقة تمنح الزائرين خصوصية تامة، وصل «دار» فوجد «رونا» في انتظاره.. ابتسمت عندما لمحته لتستقبله قائلة:
- كنت أظنك لا تريد الاقتراب مني هذه الأيام!! لمَ دعوتني اليوم للسهر؟!
شَعَرت بأنها تطبِّق مقولة «الأنثى دومًا مثيرة للنكد»، لكنها لم تستطِع الامتناع عن قول ما بداخلها لعلَّها تُخرج كل ما يضايقها منه من جرَّاء تعذيبه لها هذه الأيام، ثم تابعت:
- هيا «دار»، ما زلت أتساءل، لمَ كرهك لشخصي المسكين إلى هذا الحد؟! لمَ أوهمتني وما زلت مصرًّا على إيهامي بعشقك الغامر لوجودي؟! لمَ صرت مصدر وجعي وأنيني وأنت كنت وما زلت للقلب النبض؟! أكاد أُجنُّ!
لِمَ تحولت لنوبة قلبية مهداة بغلاف حريري الكلمات؟! بتَّ جلطة من حنين في منتصف القلب ملفوفة بمغازلات لولبية لامعة أخَّاذة للألباب!
رد «دار» عليها بهدوء: لا شيء مما تقولين صحيح
«رونا»: إذًا ما الصحيح؟ صوِّب لي أقوالي إذًا!!
ظل صامتًا، فأكملت: لمَ حبك كره بهذا الشكل؟! لمَ حُبكَ عقاب دنيوي غارقة فيه؟! أنصت وأجب، لمَ أنا من سائر جنس حواء مَن اخترتها لتمارس عليها رجولتك الزائفة؟! لمَ تخنقني بشرقيتك المتغطرسة؟! ولمَ تظن أنني جاريتك الخانعة؟! أفِق.. أفِق يا هذا فأنا من جعلتك أنتَ.
«دار»: أمي من جعلني من أنا وليس أنتِ (قالها مبتسمًا).
«رونا»: أنا من منحتك صولجان مملكة الخيال والهيام، احترس، فبيدي سأطردك خارج أسوار العشق، لتظل ذليلًا بطرقات الوجد، مشردًا بدُنيا الواقع والحياة.
ابتسم ببرود وأجابها: أنتِ، ملاكي وسمائي ومعكِ الكون بركان من نور..
- إذا كنتُ كذلك فلمَ صمتك الدائم «دار»؟!
«دار»: من ضمن الأشياء التي أعشقها فيكِ: كتاباتك عندما تغضبين لذا أُهديكِ الإلهام، دومًا لديكِ شيء لتقوليه أو تكتبيه.
«رونا»: أهذا ردكَ على كلماتي «دااااار»؟
قال ضاحكًا يمازحها: نعم، قريبًا ستعلمين لِمَ أتصرف هكذا، هيا لننصرف، لديَّ اجتماع مبكر ومهم غدًا.
وحدة
اختفى «دار» ولم يذهب إلى الجامعة ثلاثة أيام، يشعر بالحيرة والخوف على «رونا» من قربه وما سيجلبه عليها، لم يصل بعدُ إلى قرار حول كيفية استقبالها أسلوبه وحياته، ماذا سيفعل إذا رفضت؟ وإذا قبلت هل تتحملها أم لا؟! يعلم أنها بنسبة كبيرة ستوافق، فبداخلها رغبة جامحة في السلطة وتخطط لكيفية الوصول إليها، رغم البراءة الظاهرة على وجهها وأفعالها، هي أكثر من ستحقق ما يصبو إليه..
بمساعدتها سيحكم العالم كما يتمنى، وتتمنى، فكر وفكر لساعات، لكنه لم يصل إلى حل حتى الآن، سحب ورقة بيضاء من على مكتبه وظل يَرسم أشكالًا عجيبة، انتبه إلى ما يفعل فجأة، ابتسم كالعادة يُقلد «رونا».
* * *
تعبت «رونا» من إحساس الوحدة باقتراب وابتعاد «دار» المتواترين، لا تدري ما يحدث ولا لماذا! جلست لتكتب ما يُعبِّر عمَّا يُقلقها كما اعتادت منذ سنوات، فتحت دفترها وبدأت:
«ندعي الفضل على أحبتنا والكرم منهم، ونسعى إلى الهدوء بتصدير الفوضى لأيامهم، نثير المشاكل علَّهم يلتفتون وبنا يهتمون، فلا نحن انتقمنا بفوزنا بتركيزهم؛ ولا هم أدركوا حبنا لهم بجنون، فلتلعنك شياطين الإنس والجن، وتدعو لك ملائكة السماء، يا من تهوى تعذيبي وفرض سطوة رجولتك بغباء، آه لو طردتك العفاريت السفلية لدنيانا كعقاب، وحبستك حوريات الجنة بمخيلتي، حتى يجمعنا فناء ولقاء.
آه منه حبيبي، لِمَ رائحة تبغه تحيطني من كل جانب، عطره يسحبني لدنياه ويحاصرني، أنفاسه معشقة داخلي، صوته، همساته، ونسمات عبيره تداعب أنفي؟! صورته تناغش عيني، طيفه يلاعب مخيلتي ويثير أفكاري، يسرق خيالاتي لتسبح في مجراه الملاحي، تغوص وسط مراكبه وسفن خياله الماسية، لكنه يبقى عني غائبًا وبعيدًا، أذهب إليه وأستفسر، فيقول إنه ترك الدنيا وابتعد نظرًا لكآبته، وبأني لست المقصودة بغيابه، وبأنه من أجلي وفقط، من أجلي يفتح وسائل اتصالاته، الآن هو مع الكل إلا أنا، كنت أعلم - من قبل سؤاله وعتابه - أنه سيقول بأنه يضحي ويفعل هذا من أجلي».
رأت طيفه واقفًا أمامها فخاطبته: آه منك، أترى ما فعله بي غيابك؟ صرت أراك كأنك معي لأحدِّث طيفك عن قسوتك وجفائك، وعادت تُكمل: اسمعني حبيبي، سحقًا، سحقًا، إني أكره أجلي هذا، فأنا أعتقد أنه لي فيك شريك حبيبي.
آه لو رأيتك الآن «دار» لخنقتك بالتأكيد، أتعتقد أني لعبة لتظهر وتختفي كيفما شئت؟! لست بلعبة، وإياك وتخيُّل أني لعبة لك مركونة على رف حياتك، وقت حاجتك تأتي تعبث وتلعب معها، ثم تتركها لتصدأ ويأكلها تراب الدنيا أكلًا بغيابك، إياك وإياك، فاللعبة قد باتت أنثى، امرأة واعية، بسببك.
ما عدت ساذجة وبريئة لأُصفَّ برفٍّ دون روية، لست جمادًا وصخرًا صلدًا لترميه دون عناية، لديَّ أحلام ومشاعر وطموح كبير لتلبيهم، لي روح وكيان يحتاجان لإشباع كغيرهما، إن كنت غير قادر على إرضائي فانسَني، وابحث على رفوفك عن لعبة قد تماثلني، ما عدت أسيرة أنتظر فتح ستارك لأراك، تحية وسلام يا حب العمر وأراك يوم ألقاك.
«دار»: لا أقدر (اقترب منها ليقبِّلها بهدوء).
«رونا»: أشعر بقبلتك كأنها حقيقية، كيف هذا؟!
- اقتربي أكثر «رونا».
- أعشقك «دار».
لتذوب في أحضانه، ناسية الكون كله، استيقظت صباحًا وهو ليس بجوارها، لتجننها الفكرة، ملابسها المبعثرة على الأرض توحي بأنه لم يكن مجرد حلم لذيذ..
لكن كيف؟
هل تتوهم أنه حلم؟!
إن كان حقًّا فكيف وصل إليها «دار»؟!
عقاب من جديد
أخذ «دار» قراره وعاد إلى الجامعة، رأته «رونا» فذهبت مسرعة تجاهه، لكنه ابتعد عندما رآها، ذهب متحججًا بأنه نسي تذكير والدته بأمر ما، ذهب متشاغلًا بهاتفه، لكن «رونا» أسرعت وأوقفته..
«رونا» هامسة: حبيبي.
يتلامز الخبثاء فيما بينهم عني وعنك، قالوا إنك هائم ببحار العشق ودربي، تُغني صحوًا ومنامًا وتناديني، تُناجي قريني، ذائب بصفاء هواي، عاشق للحظي، تشتهي القرب ووصلي، شغوف بتفاصيل سكناتي، متيَّم بصوت همساتي، سحور بأناتي، ضائع بين تنهدات أنفاسي، موغل في سماء حبي، قالوا ملكتك وصرت في العشق طفلي، صمتنا يفوح بروائح عشقنا، وفيما بيننا سراديب تخفي أسرارنا، صناديق معتق بها دموع آهاتنا، طفلي المدلل..
حتى أنت تُخبرني أنك حب وقد ذبت بحبي، عشق وسقطت ببحاري، دنيا وهديتني، فرح وغطيتني؛ لذا تتمنى حبي، عشقي، قلبي، أتمنى أن أكون زوجتك أمام العلن، دومًا تُهددني بغيابك هذا أنك مع الوقت ستضيع، ستجعلني أسهر أشكو مما سيحدث بحياتي بسببك، تُسمعني جملًا قاتلة مثل «غيرك بطريقتك هذه ستكون معي»، تهديني هجرًا، آه منه يا قلبي، يُبكيني ليالي.
«دار»: طفلتي، في خيالي أبُثكِ أشواقي، جنون حبي وهيامي، أُجلسكِ لتستمعي لشكواي وشدو غرامي، منكِ إليكِ، تعلمين أني أحبك، أعشقكِ، أتمناكِ، وأحتاجكِ بجواري، فأنت وحدك شريكة يومي وليلي، لسهري قرين أتمنى وصالك، نقطة ارتكازي، غرامي، حبي، هيامي، قلبي، عشقي، سكني، أنتِ تكفيني.
سري الصغير والكبير أنتِ، أخُفيكِ رغم علمهم بنا، بحبك الشامل لخفايا الكون تحميني، ببسمة شفاكِ تسرقيني من نظرات بشر يغتابون مشاعرنا.
«رونا»: طفلي العزيز، لست بملاك وقد تعبت، خيالي يحدثني بأن أتركك وأنطلق، أذهب إلى السباحة في بحر ملذات؛ حرمت منها دون ذنب صنعته يدي.
تشتهي نفسي عالمًا مغريًا موازيًا لعالمنا هذا، يطلب كل ما في حياة بها شموع لامعة، عطور فواحة، أزياء فاخرة من أشهر بيوت الأزياء، أحذية بماركات عالمية، شهرة وسهر بحفلات ماجنة، أكلات صُنعت خصيصًا لأجلي، حلوى شهية سويسرية.
حبي، لا تعطِني فرصة خيانتكَ ببُعدك عني، بانقطاع حبال تربطنا روحيًّا، لا تدعني لجنوني يسرقني، تعلم بما أعايشه من مغريات حياتية، فلا تسمح لها بأسري، معذبة روحي بتناقضات أرغب بها، مشتتة نفسي من أفكار تبدو شيطانية، ضائعة بين حياة هادئة ناعمة معكَ وحياة صاخبة مثيرة مع غيرك.
الحب متاح هنا وهناك، كفتا ميزان أتأرجح بينهما، فأنقذني واسحب يدي بنعومة لعالمك، ولا تجعلني أسقط بعالمهم العامر بأشهى المسرات، فأنت رجل يجيد الاحتفال بوجودي عندما يريد.
«دار»: سأترككِ تأخذين قراركِ بهدوء، سلام.
* * *
كان «دار» مغتاظًا من إخبار «رونا» له بتهامس زملاء الدراسة عنهما، ومحاولاتها إثارة غيرته، صحيح حدث بينهما الكثير آخر ليلة زارها، لكنه ليس بالأمر الكبير لـ«رونا»، هناك من سبق واستولى على حصنها، قرر في النهاية أن يكتب كلمات قليلة وذهب ليمنحها إياها، حاول جعلها موجعة علَّها تبتعد عنه وتنجو مما سيحدث لها إذا بقيت معه كفرصة أخيرة كي لا تندم مستقبلًا:
- «رونا»، تربينا على الفضيلة وحسن السمع قبل الكلام، زرع بنا الزمنُ الحكمةَ في مواجهة العوام؛ لذا نملك من الحنكة ما يكفينا شر اللئام، للبشر خالطنا وما عاب علينا إلا الهوام، فلا تظني حبيبتي كرم الأخلاق بنا هوانًا.
لا تتوهمي لأننا نغمض الجفون أننا عميان، فاحذري تقلب ليث لمواجهة ثغاء الخرفان، اتقي شر الحليم ولا تلقي بتهم وبهتان، أعلمك الآن عدم تمكني من حبك، ولديَّ الكثير من الأسباب، فابتعدي وانسي ما كان، عدم مراعاتك لآلامي يقتلني، كنتِ الوحيدة التي تفهمني!!
ما بالك الآن أكثر مَن يؤلمني! إذا كان حبك حقًّا حقيقة فلمَ بيننا ألف عقدة تسعى مع عقد أخرى يصاحبها تنهيدات مؤلمة؟!
خبَّأت «رونا» ورقته بين طيات كتبها، وسرحت بعالمها تخاطبه وتلومه: حبيبي صارت كوابيسي معك سيدة الموقف، فهل تفهمني؟! أهي ملامح النهاية تُرسم، أم أنك لأحزاني تُسلمني؟!
لا تخلط كلمات الحب بكلمات مؤنبة؛ فقد بات جليًّا أنك تنوي وداعي، لا تقلق، اعتدت هذا الهذيان، انتهى الأمر، فلشأني اتركني.
ترك «دار» مقعده وجلس بجوارها، ألقى على سمعها العاشق لهمسه: اسمعي همسات حبيبك بقلبك، جرحي بالإضافة إلى جرحك شكَّلا شبكة خنقت قلوبنا بعتاب وملام، سأترككِ وستتركينني حبيبتي، إذا ظللنا خلف الأوهام، أحبك وأخاف عليكِ، فاستوعبي حالي ولا تُلقي المزيد من الملام.
نظرت إليه «رونا» مبتسمة قائلة: لا داعي للبعاد، أُحبك مهما كنت، ومهما كان، أحبك حتى إن كنت تظن نفسك شيطاني، يا من بصحوي ومنامي، تملك واقعي وأحلامي، أعلمك سيدي باهتمامي، واستمرار غرامي وهيامي، ما زلت سري الحنون، منجم عشقي وأماني، أهديك حروفي وكلماتي وألحاني وجمال حياتي.
تجربة الموت
تقدَّم «دار» من «رونا» أثناء المحاضرة، طلب منها الخروج معًا، وافقت واتفقا على المكان والموعد، خافت إخبار «ميلي»، وخبَّأت سعادتها بقلبها، لتعيش مع جمرات نار تنتشر داخلها انتظارًا لمرور الوقت حتى يحين موعدهما.
دخلت الكافيه المتَّفق عليه، رأته يجلس أمام إحدى الطاولات، لوَّحت له فأشار بما يعني: هيا، هلمي.. أنتظرك. جلست هادئة أمامه كما قطة وديعة، منتظرة أن يبدأ هو الحديث، ظلا على هذا الحال قرابة نصف الساعة، ثم تبادلا كلمات قصيرة، وساد صمت غريب مرة أخرى، بالإضافة إلى برودة عشَّشت بينهما، قالت لتنهي الصمت المعتاد في لقاءاتهما هذه الأيام:
- الموت شعور رائع إذا نظرنا إليه كتجربة مجردة، أتمنى خوض غمارها ثم النجاة منها لأعود لهذه الحياة المقفرة من جديد، أنظر إليها كإعادة بلورة للأفكار والمشاعر والنظرة الكاملة للحياة، سمعت كثيرًا عمَّن انفصلوا عن عالمنا ليمروا ببرزخ الموت ثم يُسحبون لهذه الحياة من جديد.
«دار»: ماذا تقولين؟! هل عدتِ إلى التفلسف من جديد؟!
«رونا»: «دار»، هي فرصة من رب العباد لإعادة تشكيل الإنسان ككائن حي هو وأفكاره، موت قريب أو حبيب يؤثر فيمن يحيط به، أيًّا ما كان شكل علاقتهم؛ فما بالك إذا جربته شخصيًّا؟! ذهول من عالم لم ترَ منه إلا لمحات لتعود لعالم سقيم تصلح ما فات أو تفيد وتستفيد مما قد فات وما هو آت.
أتعلم؟!
جرَّبت يومًا شعور الوقوف على أعتاب الموت لكني لم أقف إلا للحظات، يومها أثر ذلك في تكويني كثيرًا رغم قلة زمنه، وغيَّر من نظرتي للكثير والكثير من الأشياء.
«دار»: تبدين غريبة ومخيفة اليوم!!
«رونا»: ترى ماذا سيحدث إذا مررت بالتجربة كاملة؟ هل سأبقى كما أنا؟! أي تغير سيحدث لي وفي؟! متشوقة كثيرًا لأستشعر مذاقه، أعشق فكرة تجربة هذا الشعور والمرور به وأتمناه قريبًا، فهو هدية من السماء لمن يختاره من بني الإنسان.
يا تُرى ماذا سأرى؟! كيف سيكون شعوري؟! ما حالتي وقتها وبعدها؟! أسئلة كثيرة تُثيرني لمجرد تذكر الفكرة أو التفكير بها.
«دار»: أستغرب كلامك هذا «رونا»، هل حدَّثك أحدٌ في أمر يؤرقكِ؟ أيضايقك أمر ما؟ هل أخبرك أحد شيئًا عني أزعجكِ؟! لمَ لا تجيبيني؟!
«رونا»: لا «دار»، لكن شعرت أنه عليَّ إخبارك هذا..
- هيا تعالي معي.
سحبها دون أن ينتظر ردها، ركبا سيارته الفيراري وانطلق كما لو كان يسابق في مضمار دولي للقيادة السريعة، ذهب إلى مكانه المعتاد أعلى قمة جبل المقطم، طلب منها النزول، ليشاهدا الكون ليلًا.
وقف خلفها وضمها بين ذراعيه، رأت «رونا» السماء صافية، النجوم سراجًا منيرًا، الليل هادئًا، لكنها تعاني صعوبة التركيز؛ فرائحة عطر «دار»، الشانيل، تُثيرها، تحرِّك فيها الشهوة والشغف للاستسلام له، لكنها سيطرت على مشاعرها بقوة رهيبة.
أخرجها صوت «دار» من أفكارها فيه:
- «رونا»، هذه البقعة هي مكاني المفضل، خاصة بعد أن رأيتك أول مرة عقب سهرة قضيتها هنا.
كانت ليلة شتوية، راقبتكِ وأنتِ تُشاهدين المطر، تبتسمين وتنظرين للسماء كما لو كنتِ ملاكًا هبط من الفردوس، شعرت وقتها أنكِ جائزتي، حبي وعشقي؛ لذا سعيت خلفك، أتعلمين؟ يومها تبعتك بسيارتي وراقبتك حتى دخلتِ غرفتك.
«رونا»: إذًا هو عشق منذ النظرة الأولى، انتظر، ماذا؟ غرفتي؟ كيف؟
«دار»: «رونا»، دعينا من هذه التفاصيل، من مميزاتي: أن لا شيء يمنعني عمَّا أريد، ومنذ أول نظرة صرتِ من أملاك قلبي غاليتي.
«رونا»: لذا انضممت للجامعة، يا لك من ماكر، «دار»، أنت عطر أنفاسي، نبض قلبي، دقات الثائرة روحي، هدوء أحلامي، هيام خيالي، ذوبان قبلاتي وسط انهيار سحبي وأمطاري ببحار همساتك، والخفيضة مغازلاتك لأوتاري، أنت الموت المشتهى، محاصرة بجدران أحضانك في العتيق كهفك، لأصارع شهيق وزفير أناتي.
«دار»: أتعلمين معنى ما تقولين؟! الأمر ليس بالهين «رونا»، فكري جيدًا.
نظرت إليه ساهمة ولم تُجِب، فما زالت لا تستوعب معنى كلمات كثيرة ينطقها، سمع أفكارها..
- بعد سنين كثيرة مضت، أو بالأحرى بعد سنين شكلتني كإنسانة، هاهي تناديني أفكار مختلفة غريبة عن عالمي المغلق، كل فكرة تحوي شعابًا قاتلة، تدور بي كما التائهة في بحر ألغاز، كنملة تستجدي الرزق في غابات الأمازون. بعد ليالي تفكير عقيم، لم يتمخض عن أي وليد، أدركت كم كنت بكماء وسط صخب حياة البشر، كم أنا عمياء رغم سلامة نظر برأي الحكماء، كم هي رتيبة أفكاري رغم جنون ومجون يعشقني وأعشقه..
ما زلت أتساءل:
من أنا؟!
لِمَ أنا هنا؟!
لِمَ الآن؟!
لمَ أنا بالذات مَن فُتحت لها الأبواب لتمر بهذه التجربة، لأصارع أفكارًا وديانات وعقائد؟
لم يدرِ كيف يُخرجها من أفكارها، فسبح أيضًا داخل أفكاره القلقة على «رونا» من حبه:
أخاف عليكِ، فشخصيتك تتميز ببراءة، ستسقطك، ستغتال أحلامك، ستقضي على آخر طوق نجاة تتشبثين به، ستقتل أملًا تعيشين عليه لتنالي بعضًا من حرية تطوقين إلى نيلها معي، لا تدركين أن لكل شيء ثمنًا، وثمن انطلاقك وحريتك المتخطية لأي حدود سيكلفك الكثير.
فهل أنتِ على استعداد لتقبل دفعه؟!
تلك المبادئ والقواعد التي تسيرين عليها كبيتٍ سُجنتِ بداخله أفكارك وهمسات إبداعك لتتحكمي في كل سبل خروجها وظهورها للعلن، كل ذلك هو ثالوث يُعلن انتهاءك قبل الانطلاق والولادة بعالم الحياة معي، أو هكذا أخاف أن تكوني.
* * *
في اليوم التالي مرت «رونا» على «دار» في قصره قبل الموعد المتفق عليه كي يخرجا معًا لشدة تلهفها للقائه، كان باب القصر مفتوحًا فدخلت لتفاجَأ به واقفًا في منتصف البهو يشرب من كأس تبدو غريبة، فهي تترك أثرًا على شفتيه كما لو كان يشرب دماء.
تسمَّرت في مكانها، لا تعرف لِمَ شكت أنه يتجرع دماء لا مشروبًا آخر!! رأت عينيه زمردتين أرجوانيتين، خديه ياقوتًا أحمر قاني اللون، شفتيه كما لوحة زيتية صُبغت باللون الأحمر، رأسه كما لو كان شعلة من نار شديدة الاتقاد، يرتشف بتأنٍّ كأمير تُوِّج على عرش الأرض من كأس كريستال على هيئة محارة مفتوحة.
فجأة..
بدأت تشعر بخدر عجيب، نملت أطرافها، وشعرت كما لو أن مشاعرها هي مشاعر «دار»؛ توحدت معه كما لو أن روحها خرجت منها وانتقلت إليه، شعرت أن عينيه وشفتيه وحتى إشارات جسده تضج بالشهوة، وهي مثله، تبادله الرغبة رغبة أقوى..
لا.. فسرت الأمر خطأ، ما يتملَّكها هو شهوة.. للدماء.
ياللجحيم!
ضبطت نفسها تتلذذ معه بمذاق الدماء ورائحتها، ما جعلها تخاف بشدة، بل ترتعب؛ فتوحدها معه روحيًّا في المشاعر واللذة المطلقة، جعلها تلمس الدماء على شفتيها هي، تستشعر مذاق الدماء بفمها، تستمتع بتلك القطرات على لسانها، تشبعت بـ«دار» ومشاعره كما لو كانت هي من ترتشف تلك القطرات.
أسرعت بالفرار بعيدًا، لكنها هربت بالجسد وبقيت الروح هائمة في ملكوت «دار» ومشاعره، كل ما فيها كان أسير شهوته..
بل شهوتها هي أيضًا لفعل مثل ما يفعل، أدركت أنها أيضًا لا تجد أي مانع للسقوط بين براثنه أيًّا ما كانت عواقب الأمر، اشتهت التوحد معه روحًا وجسدًا، التمتع به وبالدماء.
لكن لحظة..
ليست أي دماء، لِمَ يركز مخها على شكل عنق «دار»؟!
ياللبؤس!
باتت متأكدة الآن أنها تشتهي دماء «دار» ذاته، تحوَّل بنظرها لفريسة وهي الصياد، وليس العكس..
فرت..
حمدًا لله أنه لم يعلم ما تفكر فيه..
لم تستوعب كيف يكون بداخلها مثل تلك المشاعر! صُدمت مما اكتشفته ووجدته بداخلها من رغبات مكبوتة شريرة.
اعتقد «دار» أنها خائفة منه، لذا فرت، في غمضة عين لحقها، اقترب متوددًا قائلًا:
- سأشرح لكِ كل شيء، عديني فقط ألا تتسرعي في الحكم عليَّ، تعلمين أنني أسكن مع أمي، هي ليست أمي فعليًّا، لكنها مَن احتضنتني؛ فأنا نسل والد هُجن من أنثى عادية لُقحت ببويضات مصاص دماء ومن أبي لُقحت أخرى؛ لذا فأنا، أنا.. أقصد.
قرأتِ أنتِ تلكَ..
هذه الأساطير المنسوجة عنا..
أنا، «رونا» أنااا..
أنا مصاص دماء.. أنا..
«رونا»: مصاص دماء!
نطقتها ممزوجةً بابتسامة بلهاء.