مكاشفة
أجلسها على مقعد قريب، ظلت صامتة لدقائق ثم أكملت: كنت أعتقد أنكم نسج من خيال الأفلام والروايات، لستم واقعًا وحقيقة، لا أعلم ما أفكر به.
وقفت فزعة، تبعد يده عنها..
دعني الآن، أريد الانصراف.
قالتها بصوت مرتعش، وهي تنظر إليه بريبة وكأنها تشك بسماحه لها بالهروب.
أدرك «دار» أنها مرعوبة منه؛ فإجابتها تتسم بالبلاهة، وحديثها مشوش..
- حسنًا «رونا»، هذا هو ما كنت أخفيه، ما يجعلني دومًا مذبذبًا بين الاقتراب منك والاختفاء، لعلِّي أستطيع نسيان حبك، لكنني دومًا لا أستطيع مقاومة نظرتكِ وأعود إليكِ من جديد أكثر عشقًا من ذي قبل.
هنا ضحكت بشدة وبصوت صاخب قائلة: لقد أخبرت «ميلي» أنني أريد مقابلة دراكولا، لكنني لم أظن أنني سأقابله فعليًّا، أيمكنك تحويلي؟! هيا، هيا اقترب، هاك عنقي، عضني هنا، حوِّلني لخالدة مثلك، هل الأمر مؤلم؟ لا يهم، لا يهم..
صمتت لثوانٍ ثم أكملت: بالتأكيد الألم مؤقت، هيا أتم الأمر، ماذا يمنعك «دار»؟!
- «رونا»، الأمر ليس بالهين، هو مُرهق ومُتعب، ستخسرين الكثير، وأهمه: بشريتك، علاقاتك، أهلك، فكِّري جيدًا بالأمر، إذا ظللتِ على رأيك يسعدني أن تكوني شريكة خلودي حبيبتي، هيا، سأصطحبك لمنزلك الآن.
رغم فرحتها باكتشاف حقيقة «دار» عاشقها، ورغم موافقتها على طلبه التفكير بالأمر، فإنها لا تعلم لِمَ أصبحت مشاعرها مذبذبة وكأنها تخافه فجأة!!
لم تحاول الاتصال به بعدها أو مقابلته لعدة أيام، حاول التقرب منها وجعلها تستوعب ما حدث وسيحدث، لكنها تشعر بشيء غريب يفصل روحها عنه، رغم استمرار إعجابها بتحولها إلى مصاصة دماء.
استمر «دار» في محاولاته للحفاظ عليها، اكتشف أنه لم يعد قادرًا على خسارتها مهما كلَّفه الأمر..
«رونا»: جاء بعد غياب ليهمس بغرام: تعالي إليَّ، المسيني بدفء نظراتك القاتلة، اقتربي وضميني بهمس صوتك الشهي، قال: آه منك، صحاري الدنيا بوجودك حبيبتي بحار حنان، غرامك فجر هَلَّ على عمري أشبعني هيامًا، غيابك أطلقني في الدنيا عابرَ سبيلٍ جوالًا دون دليل، سائحًا ببلاد الله دون رفيق أو درب عليه أسير، قربيني وأنسيني غربتي وسط بشر حضورهم غياب حبيبتي.
وبكل برود بعدت وتركته وحيدًا وسط آلامه، ليظن أني قد نسيت حبه، ليعتقد أني رميت غرامه أميالًا بعيدة عن قلبي وروحي، قد أحتمل نظرات عتابه، لكني لم أقدر على احتمال عذابه بقرب يؤذيه وسط أفكاري المتخبطة، أعتقد أنه صدَّق تمثيلي وخداعي أني أبغضه، لم يدرِ أن بُعدي عنه وفراقه يقتلانني، وأن خلف عقلي هذا تختبئ شباك ومصائد جنون تخطفني إليه، عشق ولهيب يأسران هدوء مشاعري ليشكلاني معه كائنًا واحدًا رغم جراحنا..
نيران تحرق برودة أعصابي وقلب يصطنع الجمود، حب وذوبان بداخل أحاسيسي هما عندي عشق كامن، انصهار ببوتقة حبيبي، فناء بذرات الكون لمجرد نظرة منه، ضياع وهيام في غرام قاتل لما سواه، ماذا أفعل؟! عشقنا سفاحًا باردًا يهوى سفك دمائنا على طرقات الدنيا دون ضمير، هو حب متخفٍّ بضياء نجوم تلمع في سماء الحب، دخل قلوبنا بهدوء وسلاسة، ثم، وفي لحظة، حب صرعنا دون هوادة.
آهٍ من قلب يشغلنا ويتركنا لبرودة وحدة وسط الأحباب، حضور رغم غياب، حب كالغول متنكر في زي هوى ليسرق فرحة عمر من قلب العشاق، عفريت مشاكس يهوى اللعب بقلب محبه.
حبيبي، ما زلت تستعمر القلب والروح، بقلبي لك مستوطنات غرام، هواك عقل خاص بعمري يمنحني أسلوب حياة، غرامك دنيا وحياة، سر لصمودي، يقويني لمواجهة أشباح وظنون تؤرق حياتي الفانية، حبك يدفئ ويطمئن قلبي رغم فراقنا، لأدعو ربي يلهمنا صبرًا ورحمة تقوينا في مواجهة الأيام، أدعوه ليرزقنا غفرانًا وعفوًا يُسكنان أنين ليل في الغربة يعذبنا.
أحبك وأعشقك حبيبي، لكن كُتب علينا عذابٌ نعيشه ونتعايش مع خطواته رغم آلامه ونغزات أوجاعه، حبيبي، لاح فجر شمس الحب علينا يومًا، والآن، أتى غروب شمس الحب، فلقد مر وانتهى يومنا، فلنحاول أن نعيش يومًا جديدًا ببزوغ فجر يلوح لنا من جديد بالجديد.
* * *
- تعجبني كلماتك (مشيرًا لدفتر خواطرها).
فزعت «رونا» لرؤيته بغرفتها:
- آهٍ منك، تتلصص عليَّ! هيا اخرج (قالتها غاضبة منه).
- أُحبك «رونا»، لا أستطيع الابتعاد عنكِ أكثر من هذا، ألستِ معي أن أسبوعًا كثيرٌ جدًّا علينا هكذا، وأنا من اعتدت قربك طيلة اليوم؟!
- «دار»، هذا ليس مبررًا لتلصصك عليَّ.
«دار»: تلصُّص!!
إذًا أنا المقصود بخاطرتك الأخيرة، وأنا من ظننتها مجرد خيال شاعرة، تلك المكتوب فيها:
- يا من تُعلن للدنيا غرامك وهواك وجفائي، حنينك وقسوتي، حنانك وهيامك وغبائي، أتعتقد أني كنت لأفعل هذا لو لم أكن أُحبك؟ هل كنت لأعتب وأقسو وأجافيك؟ قلبي وروحي يسبحان بسمائك!!
أسعيد أنت بأقاويل الناس وأحكامهم عنك وعني، بأحاديث ثرثارة تلوك سيرتك وعرضي، باستهزائهم مما بيننا ليلوموا غبائي وعنادي؟ أيعجبك تلصصك بخبل وهوس على حياتي، سرقة أفكاري وهناء بالي وصفائي، إقلاق مضجعي بوسوستك لأحلامي؟
أنت تقاضيني وتصدر أحكامًا بناءً على ماذا؟ أعلى إحساس مجهول تملكك، أم وهم سطر أحرفه بخيالك وكتاباتك؟ هل لأنك تصورت حبي افترضت قبولي حبك؛ لذا تحاسبني وتقاضيني؟!
ثم أكمل «دار»: إذًا أنتِ لا تحبينني؟!
«رونا»: من قال هذا؟! أتريد رميي بأي اتهام لتثير غضبي؟!
- ألم تكتبي: هل لأنك تصورت حبي افترضت قبولي حبك؟!
«رونا»: آه، إنه مجرد تعبير مجازي «دار».
«دار»: أتمنى هذا.
صمت قليلًا ثم قال لها:
- ولو أني أعلم مدى عشقكِ لي حبيبتي؛ فأنتِ كونتيستي الغالية..
أنا شيطان مارق من جنة هجرك..
لأنال نصيبًا كبيرًا من أنهار غرامك..
جنٌّ من بنّور هارب من نعيم بعادك..
لأرتشف بتمهل مياه وسحب جمالك..
وُلدت بأرض الجحيم ليفتتني عشقك..
فأنا كافر بنبوءات الشعوذة لأجلك..
لأصل أغادير حبك وأشعل قناديلك..
* * *
ابتسمت له، فقال لها:
- سأكتب لكِ خاطرة، أنا أيضًا كاتب رائع، أعطيني فقط فرصة وإلهامًا، وبما أنك الإلهام فامنحيني فقط فرصة..
ضحكت بصوت عالٍ، وانحنت له قائلة:
- تفضل سيدي الكونت، معك الفرصة والإلهام..
سحب دفترها وأمسك بالقلم وكتب لها:
تعلمين أنكِ في فلكي تدورين، وبأشعة قلبي تعيشين، لوجودي دومًا تتسولين، فلا تنكري أنكِ لي من المدمنين، على قلبي تتمنين لو تستولين، ولابتسامة رضا تتوقين وتتوسلين، لكن حُبَّك استفزازيٌّ، وهذه مُشكِلَة السنين، أنا شخص مسرحي لا أحب الحب المستكين، أتدرين ما الاستكانة؟
هي تمكن العنف البشري مني ليكون في حياتي من الساكنين، يموت كثيرون بحياتي، وأعيش لأعاني برودة وحدتي والأنين، هم اختاروا فراقي وأنا غرقت بآهاتي وببحار الحنين، كما أن غيابك مؤلم وخصامك مُر ومرار كحد السكين، لكنها أزمة ثقة لا أزمة حب ما نمر به حبيبتي.
لم تستوعبي كلماتي المُعلنة لنبضاتي!! فكيف ستفهمينني أنا؟! نظرًا لتكرار غيابك، سأعاقبك بسحب ظلالي من فراش أحلامك، وسأخلي بساط خيالاتك، فليشاركك غيري إياه، ولتختاري نعيمًا آخر علَّه يرضيكِ ويُشبِعَكِ، لتَبعِدي أنتِ وأمانك عن نيران عشقي وجنوني.
«رونا»: هل أهون عليكَ لتعاقبني بسحب طيفك مني؟! (قالتها بدلال زائد مقتربة من وجهه لتداعب شعيرات ذقنه شديدة القصر).
«دار»: بالتأكيد حبيبتي، الإجابة: ......
«رونا»: هاه؟
«دار»: لا، لا أستطيع.
«رونا»: مغرور (ضاحكة ببراءة).
- مغرور بحبك كونتيستي (قبَّل أناملها ناظرًا لعينيها بشغف)، ثم أكمل: سأترككِ لتنامي، أراكِ غدًا صباحًا..
- ماذا؟ هل تنام؟!
- لا، سأراقبكِ، لكنك ستنامين، نومًا هنيئًا كونتيستي.
تقارب
على غير عادة «دار» وجدته «رونا» ينتظر أمام باب فيلتها، فتح باب السيارة وجلس جوارها قائلًا:
- أيها السائق، أوصِلني إلى «AUC».
ابتسمت ابتسامة عريضة، قبَّلت خده الأيسر ثم قالت له:
- حاضر يا أفندم، أين سيارتك؟!
- لا أحتاجها.
* * *
«رونا»: ما مصيرنا معًا «دار»؟! هل مستقبلنا معًا؟
«دار»: مستقبلنا معًا، لكن ما معنى «مصير» بتفسيرك؟!
«رونا»: المصير كلمة كبيرة جدًّا، بمعنى أعم وأشمل.
شيء كما بحر هادرة هائجة أمواجه نسبح به.
ما سبيلنا معه؟ كيف ننجو منه؟
أهُناك بالفعل سبيل لنجاة مما سطره لنا؟
قَدرٌ هو أم طريق نخطه يوميًّا بأيدينا؟!
ما نفعله بتصرفاتنا وسلوكياتنا اليومية..
هو بذرة زُرعت، لتُروَى بمعتقداتنا ومبادئنا..
وما ننفذه فعليًّا لتنمو وتزدهر.
«دار»: فقط؟!
«رونا»: لا، ما زلت أُكمل، هو طريق شائكة جنباته، مؤلمة أحداثه، تعطره أحيانًا روائح غثيان الدماء، لكن أيضًا أجواءه مليئة بذرَّات اللؤلؤ، تفوح منها رائحة الزهر ونسيم البحر..
«دار»: كل هذا «رونا»؟!
«رونا»: نعم، فالمصير كيان مادي وروح لشبح وطموح، إنه أنا بهذه الدنيا، في طريق رسم، أصِلُ معه لنتيجة مُقدرة للنفس، لا يغيره غير دعاء من صميم القلب والروح، المصير أنا وأنتَ «دار».
«دار»: أهذا كله تفسير المصير؟ حبيبتي لِمَ تفكرين وتشغلين بالك بأشياء مُرهقة؟ حبيبتي، أيجب أن يكون الحب تمرد حبيب على حبيب، تمرد حب على وضع سائد ودنيا التقاليد؟! ألا يوجد حب يجمل الكون، كما لو كان عطرًا نُثر رذاذه مع نسمات الفجر العليل، ريحًا تسكن جوف إعصار يُدمر؟ لِمَ يعيش بالظلام؟ ما يتغذى على ظلم وقسوة لِمَ بداخله روح مُحبة؟ أيوجد حب يضُمني وحبيبي ببوتقة عشق، حب نتماهى فيه؛ لنخرج منه كوليد مُتشبع بجينات حب مشتركة؟! تختلط نواتانا لتُشكلا أشخاصًا جُددًا، في كل منا من الآخر الكثير، لا تمرد ولا عصيان، لا رفض ولا نكران.
«رونا»: أتمنى لو كنا نعيش بعالم آخر مختلف، فيه فقط أنا وأنت وحب وعشق وهيام، انسجام ووئام ومودة، أنا وأنت بلا عيوب شرقيتنا، وبلا قيود تخنقنا، فقط أنا وأنت وشرقيتنا الجميلة بما تحتويه من شرف وكبرياء، فخر وإباء، تضحية وسلام، حفاظ وأمن وأمان، لِمَ أتمرد عليك وأنت حريتي؟! ولِمَ تتمرد عليَّ وأنا سكنك؟! ليت من يعاملون الحب بعنجهية يدركون أن الحب:
أنا وأنت بعيدًا عن كل العيون، في عالمنا الساحر منسيان، في دنيا الصمت مقيمان، في حياة السكون منسجمان.
أنا وأنت وشرقيتنا نعيش جُنونًا حَنونًا، بأسلوب حياة صحيحة منعمان، بجمال تربية سنزرعها بأولادنا مهتمان، أنا وأنت والكون يضمنا مع كل المحبين.
- أنا لست بشرقي «رونا» (قالها مبتسمًا).
«رونا»: اصمت، تُدرك أن قصدي أخلاقيات الشرق الجميلة وليس المولد والتطبع بطباعه، لِمَ تستفزني بتعليقاتك هذه؟ (قالتها ضاربة كتفه بمزاح).
- تضربينني «رونا»! إذا فعلت مثلك لن تحتملي مني لمسة، تذكري هذا.
- سأفعل كونتي العزيز، أحبك.
غيرة
قابل «جو» «رونا» قبل بدء المحاضرة التي تحضرها الآن فقط لمقابلة «دار»، وقفت تحدثه، وبين الفينة والأخرى تلمح «دار» ينظر إليها شزرًا، ترى عينيه كما لو كانتا جمرتين من نار، انتهت من حديثها وذهبت إليه، باغتها بالسؤال: إذًا هو يُحبك ويريد حبك؟! ما رأيك؟
هو إنسان عادي لديه مقومات حياة طبيعية، اذهبي إليه!! ليست هذه أول مرة يحدثك في الأمر، وكل مرة لا تغلقين معه الحديث وتُفسحين له المجال ليستمر في تكرار عرضه، يبدو أن الأمر يُعجبك!! (قالها صارخًا بوجهها، حتى إن زملاءهما توقفوا ليشاهدوا ما يحدث).
حاولت التحدث، لكنه تركها وذهب ليجلس في آخر صف بعيدًا عنها، كل ما بينهما نظرات اتهام منه إليها، ونظرات اعتذار منها إليه، لتمتلئ عيناها بدموع حبيسة، حتى حل موعد معمل التشريح بقتامته المعتادة، أرسل إليها ورقة تناقلها الزملاء كالمعتاد لتصل إليها، فتحتها وقرأتها هي و«ميلي»:
آه منك ساحرة الألباب، كحيلة الأجفان، يا من تغتال الروح بحلو وعطر النظرات، وتملك بلحظها إثارة تعوض عمرًا متداعي الأركان، وجبينًا لامعًا مثيرًا بتركيز قط مشاكس متلوي الخطوات، آه منك..
يا من تُغرق ببحار عينيها ألف بحار وقبطان، بوجنتيك انتباه صقر يسرقني بتخيل معسول الكلمات، طلتكِ عنف محب، وقربكِ قوة شد لخصر يتمايل بتفانٍ، مشيتكِ ممزوجة بشقاوة غجر إسبانيا مدروسة الحركات.
رؤيتكِ انفعال وتوتر مغامرة غرام، تأسر فؤاد الفنان، لكن خيبَتي منك متتالية، فبات رد فعلي باردًا ممل القسمات، ناري العبارات، أعتذر منكِ فما بيننا قد صار «كان» وانتهى.
لتُصدم وتسرع ناظرة إليه فلم تجده، مسحت القاعة بعينيها بحثًا عنه لكن لا أثر، تبخر، لتُبهت وتتسمَّر في مكانها حزينة من قرار هجره إياها.
* * *
استمر خصام «دار» و«رونا» أسبوعًا، كلما حاولت الاقتراب منه تركها وانصرف، تراه يتحدث مع زملائهما وهو العاشق للوحدة، فتقترب متحججة بالحديث مع أحدهم فيبتسم ابتسامة باهتة ويتركهم وينصرف دون أن ينطق بأية كلمة، لذا كتبت له إحدى وريقاتهما المعتادة وخطت فيها:
هو كان حنانًا وأمانًا، خمري غير المسكرة، دوائي وبلسمي، فنانًا ساحرًا يجيد فك ألغازي وطلاسمي، يثيرني، ببخور من بلاد الواق واق لنشر الانسجام، وبزمردة شفافة يخفيني لينسيني الآلام، لكن مزَّقنا العذول، حتى بات مني يستجير ويشتكي، ويصرخ بأنه يريد الارتقاء عن شباكي، بأسود السحر وسهام غدرهم أقنعوه بلعنتي، ويحتاج ترياق فك من محنتي.
أنصحوه بأن يكون خليط ترياقه مرمريًّا، مشربًا بدماء عنقاء منزوية، ويقلب بريش طاووس بيضاء، ويزيد حنجرة خرساء، ثم ينهي المهمة؟ يشعل النيران بفك تنين مجنح، يغيب أسبوعًا عن تسلطي المسلح، ليعود بعدها يغرس أشواك رماد طلسمه في قلبي العنيد وروحي المظلمة.
كتب لها «دار» سريعًا الرد:
النوم بكهفي العتيق ملاذي الآمن من الحياة وحب غادر، رغم أسفك البادي، وحبك الباقي، لكن ولأسفي، ضاع ما بين أيدينا من ثقة وأمان برفيق الدرب بسبب خذلان سكن القلب متبادل بيننا نحن الطرفين ليصير حبنا بشعاب ودروب القلب، كما سحر أسود سكن طيات حياتنا واستحكم، لنعيش معه في الليل أسرارًا وحكايات، تُنسج لنعيشها بمتعة مسلوبة، لا لنحكيها بلمز وإشارات.
بعد أن مرت حكايات العمر تتوالى، يلوكها الدهر كعلكة بفم يتيم من أطفال المساكين، توالي سنوات العمر تتقاذفها الأحداث، كما زهرة الذئب نبتت دون إذن صاحب البستان، هي وثمرتها السوداء كجنين سِفاح ظلمه الأهل قبل السنين.
تقولين: خذلتني!! خنتكِ أنا بتجنبي لكِ!! تدَّعين أن خطأكِ ليس بهذا السوء!! رغم إدراكي أن الفكرة لم تكن إلا تعويضًا لمشاعر ترغبين لمسها بوقوفك مع شخص طبيعي، فإنه في الغالب تأتي الأفعال الشريرة كمخاض بذرة فكرة طيبة حسنة، وبسوء تنفيذ وتصرفات معيبة كما تربية طفل فاسدة، تكون العواقب شرًّا وظلمًا مسكونين بدعاوى بريئة الهتافات، وأنتِ حاولتِ عيش حياة رتيبة لمجرد أن تشعري بهدوء وأمان، مُعتقدة أنكِ لا تخونيني فأنتِ لا تطلبين منه شيئًا ولا تشجعينه كما تعتقدين.
لكن مع الوقت سينتهي شعورك بالابتعاد عني رويدًا.. رويدًا وخيانتي، لقد قطعتُ عليكِ الطريق مبكرًا، لأترك لكِ المجال لتجريب ما تريدينه دون شعور بذنب خيانتي، افعلي ما تشائين، دومًا أنا بجوارك حبيبتي حتى إن لم أكن لكِ حبيبًا، متأكد لأحضاني ستعودين.
* * *
«ميلي»: «رونا»، هل ستظلين هكذا معتكفة داخل حجرتك؟ هيا اخرجي وانطلقي، تعالي لتسهري معنا اليوم، فسأخرج مع «أمير» لحضور عيد ميلاد «جو».
«رونا»: أعُدتِ لـ«أمير»؟
«ميلي»: نعم، تعلمين أحب عصبيته، وأسلوبه الساخر من الحياة، كما أننا متوافقان في أغلب أمورنا، هيا تعالي معنا، ستستمتعين كثيرًا.
«رونا»: تُدركين جيدًا كرهي لـ«جو»؛ فهو سبب فرقتي عن «دار»، اتركيني لشأني واذهبي..
- «روناااا»، لا تنعزلي هكذا، أنتِ على هذا الحال منذ شهر!! أُفٍّ لـذاك الـ«دار».
- آه «ميلي»، ذهب، اختفى منذ آخر لقاء لنا، انتهينا، كان الوداع مقيتًا، اختفى، كما يجب أن يكون الاختفاء، لم أجده بقصره، أخبرني «إلياس»، خادمه، بسفره إلى ألمانيا، لكني أعلم أنه يُغطي عليه فقط وأنه هنا في القاهرة، اختفاؤه نظيف «ميلي»؛ لا إشارة، لا عتاب، لا رسالة، لا اتصال، مجرد تذكرة ذهاب دون عودة.
أتمنى لو أقول له: يا أيها البعيد، أبهجت مسائي الحزين، أضفت إليه نكهة استباحة المُثلجات لحر الصيف المقيت، ذوَّبتَني في بحر ضحكات أنثوية بلا حدود، شهَّيتني لدلال وغنج دُفنا بباطن همومٍ بالضياع قيَّدتني، أبهجتني، أسعدتني، أعدْتَني للحياة بكلمات خارج سياق الوجود صديقي؛ فبلُّورة كلماتك الساحرة لن تخفي حبات المعرفة عن عصافيرَ بالوهم تُطعمها، ويومًا سيُفتت جدارها سيوف الشمس، ويحرقه قناديل القمر المنسية في عتم ليل الجهل.
لا تقلق على حالي، فما يربطني بك الآن هو اللهفة، تلك الطفلة العابثة، هي من تسعى خلفكَ وتورط القلب مع شعوذة الحنين، ليعلو صخبها يناطح النجوم رأسًا برأس ويُثير السحاب ليهطل مطر المُقَل بغير حساب، آه من ذاك الشغف الذي يسلبنا الواقع ويهدهدنا على فراش الخيال، تروح عنَّا أجنحة الحياة بلذة ودلال يثيران فينا الأنثى ويطلقان عنان فعل الرجال، أنا الكارهة لحمل أيَّة ذكرى مُنذ ولدت، يؤرق ليلي، المناطح للسماء طولًا، مطر من ذكريات قِطع سُكَّر قطفناها لشهور عدة، وكأنما عتَّقتها لتحلِّي علقمًا احتل حلمي بأبدية، فصار وليدي الأول توأم حنين وقهر عُمد بدمع شجوني.
تبًّا للحنين، يُشبعنا بنغزات شوق مرير لمُهاجر على ضفاف النبض يعيش، تعسًا لحنين يُرسلنا عبر بحار اللهفة نحو من كره فينا الأرض والسماء، كنت من أطلقت وحشك المجبول على الخضوع لقهر منذ الأزل كبَّلكَ فتحرر بعد حبوٍ على أشلاء كانت يومًا أنا، وتعود طالبًا الأمان!! كيف أمنحك الأمان وأنا له راغبة؟! ما أنا إلا صنيعة الأيام، هكذا كنت ولن أكون، لن أضعف من جديد، وعلى سبيل الفكاهة البغيض، نفضت غبار أمان عشقكَ، فاعتزل سلطانُ نومي الخلاب مملكتي، تركني كي أصير قائمة، متهجِّدة، ناسكة، أناجي أشباح وجدي بتهكُّم.
من البشاعة أن تشعر كم أنت حِمل ثقيل على كاهل أحبتك، أن تراهم يسعون حثيثًا للتخفُّف منك، مانحين إياك معاذير مقنعة، أهمها: خوفهم عليك من قربهم، ليصير أقسى ما أعانيه فزعي أن ينالني الموت في رحابة قبل أن أنال حلمًا أو أملًا واحدًا مما تحتويه جعبة أحلامي.
سوق عكاظ
قررت والدة «رونا» إقامة حفل كبير احتفالًا بإحدى صفقاتها الكبيرة، في الحقيقة لم يكن الحفل إلا ستارًا لتعريف مسئول ذي منصب مهم في المملكة بباقي رجال الأعمال، ردًّا لدينها له؛ حيث خدمها بنفوذه لتفوز بصفقتها تلك.
التجارة والسياسة وجهان لعملة واحدة تسمى المصالح، كلتاهما تصب في بئر تسمى منافع متبادلة كما ترى «حليمة هانم»، طلبت من «رونا» أن تدعو صديقاتها؛ فهي تريده حفلًا شديد الصخب يُرضي جميع الأذواق، عامرًا بكل ما لذ وطاب من طعام وحتى أميرات صغيرات من صديقات «رونا» المتحررات؛ فوجودهن سيطعم الحفل بالإثارة والشغب المطلوبين، حاولت «رونا» استغلال الحفل بتقديم أغانٍ من تأليفها، لكن والدتها لم تترك لها حرية مطلقة في ذلك وانتقت هي الكلمات، ثم اتفقت ابنتها مع زملائها في فريق الجامعة لتولي أمر إشعال الحفل بالأغاني والموسيقى.
نزلت «رونا» تتبختر مع «ميلي» لتفاجَأ بتجمع كما تجمع سَحَرة ألف ليلة وليلة، بشر متضخمين أموالًا وبطونًا، نساء ورجال، خليط لا تدري من مع من، عالم ساحر البهرجة، ساخر الأفعال، كما ثعبان زاهي الألوان، يحيطك من كل جانب، كرنفال صاخب، مستعد للانقضاض عليك في أي لحظة، بمجرد أن تتهاون قليلًا وتترك له مجال الانطلاق، انفجرت «رونا» صارخة:
- «ميلي»، ماما استغلتنا نحن الاثنتين وصديقاتنا، قالت تريد الاحتفال معي بانتهاء دراستي وجمعي مع صديقاتي للترويح عنَّا من عناء الامتحانات مستغلة حفل صفقتها، لكن الواضح الآن أن العكس هو ما حدث، استغلتنا جميعًا ليذخر حفلها بشقاوة صديقاتنا، آه منكِ ماما، دومًا مستغلة لكل شيء ترينه أو تلمسينه حتى أنا وصديقاتي..
أترين هؤلاء البشر؟ يذكرونني بسوق عكاظ قديمًا، كانوا يجتمعون لإلقاء الأشعار والتبارز بالكلمات، على شرف اللقاء تتم إقامة سوق آخر، لبيع الجواري والعبيد.
همَّت «ميلي» أن تنطق فأوقفتها «رونا» بأن وضعت إصبعها على فم «ميلي» قائلة:
انتظري، لا تجيبيني بشيء ولا تدافعي عنها وعنهم «ميلي»، لا داعي للتصريح بما هو واضح وصريح..
جذبتها من يدها وهي تكمل حديثها:
تعالي لنجول بفكر صريح، فسوق عكاظ عادت من جديد، بل هي مستمرة منذ الجاهلية، لكنها دومًا بشكل جديد، فيها الجميع يُباع ويُشتَرى، فيها لا شيء يسمى الحمى، فيها النساء والرجال إماء، جوارٍ وعبيد، فيها الربا كما الزنا، الطلبُ عليه يزيد..
سوق عكاظ، هلموا يا بشر، حسب الطلب تُباع المشاعر، حتى السياسة تُلعب، كشدو شاعر، والبطولة وسام زيف يحيط صدرًا، فهلموا يا عباد الجسد، فها هنا، سرادق سوق عكاظ قد نُصب.
* * *
تسللت «رونا» وتركت الحفل وصخبه، جلست بإحدى الزوايا البعيدة بحديقة الفيلا تُراقب القمر وتناجي «دار»، تعرف أنه يسمعها ودائمًا يتابعها، واثقة أنه لم يتركها لحظة؛ فهو لن يتركها هكذا وحيدة، تشعر به بقربها دائمًا..
«دار»: متيقنة أني أسمعك ودومًا بجوارك، أليس كذلك؟!
«رونا»: آه منك «دار» (قالتها باسمة)..
اعتقدت أنك لن تأتي أبدًا، لن أراك مرة أخرى، لِمَ فعلت هذا؟! لِمَ تُعذبني؟! ونعم أعلم أنك تتابعني.
«دار»: ششش.. صمتًا، دعينا من هذا الآن، كان عليَّ إفساح المجال لقلبك ليتأكد من حبي، وعليَّ التأكد من قدرتك وقوتك لتحمل ما هو آتٍ معي، أعشقك صغيرتي، فاتنتي الصغيرة أنتِ، كونتيستي..
«رونا»: هيا أريد وعدًا مؤكدًا ببقائك كتعويض بسيط عن غيابك، حبًّا وهوى وصفاءً، قربًا يجمعنا بلقاء، عشقًا وهيامًا وفناءً، وصلًا يشملنا ببهاء، ذوبانًا كامل الأرجاء، تجاهلًا لبشر حقراء، ممن يهدوننا جفاء، بُعدًا عن أسلوب حياة بغباء.
«دار»: مجنونة أنتِ حبيبتي، مرتسم بعينيك حبي، بقلبك يعيش صوتي، أسمع غنائي حبي المفتون، لغيرك من أنا؟
ولمن أكون؟
أنت من سكنت الجفون، في عينيك أحلامي تكون.
«رونا»: أريد منك وعدًا بسمو وغناء، العيش بجنة فيحاء، الطفو بسحب سماء، والغرق بشهد الكبرياء، أن تأتي لتحتضنني بعينيك.
«دار»: بين ذراعيك بوجل أكون، أتذكرين نظرات من كانوا يراقبوننا؟ بنا يفكرون ولا يتعبون..
يسألون: لِمَ تنظر بهيام وشجون، وتضيء عيناها لفارسها المجنون؟
«رونا»: تقول: الهوى أنتِ، أقول: أنتَ الغرام، تقول: العشق مملكتك، أقول: معكَ الهيام، تقول: الذوبان عشك، أقول: حبك سلطان، تقول وأقول حتى ينتهي الكلام بفعلك جرم تقبيلي وسجني بالاحتضان (وابتسمت بسعادة).
«دار»: تريدين قبلة وحضنًا إذًا!! (قالها هامسًا، قرَّب وجهه من وجهها، محيطًا ظهرها بذراعيه ليضمها بنعومة).
«رونا»: لا (حاولت الهرب والابتعاد عنه، لكنه أجاد إحكام ذراعيه حولها)..
«دار»: حبيبتي، اسمعي هذي النجوم، بهمسهم سيتوجون زفافنا، بالورود سيزينون عرسنا؛ لذا..
سأدعهم يتعجبون ويسألون، ليبارك أهلك عشقنا يا فجري وصدحي للنجوم، فها نحن نبدأ حلمنا ومعكِ أكون، اليوم أطلب منكِ الزواج لتشهد السماء وهذه الورود والرياحين، كوني مودة وسكنًا باعتراف العيون.
«رونا»: آه، يا لفرحي ومفاجأتي، حقًّا «دار»؟!
آه منكَ، من بين الكلمات ألمح فارسًا مغوارًا، قاتلًا ينتظر الفرصة، لينهال طعنًا بالقبلات، لكن هيهات، عيناه تتجولان بنهم، لتنتهزا لحظة تنقض فيها يا مصاص الدماء، تُدرك موافقتي على طلبك، هل تحوِّلني الآن؟!
«دار»: لا، لن أفعل الآن، سأحولك بعد حفل زفافنا
«رونا»: أنت مني نبض قلبي، وأنا منك أمان بحبي، أنت نصيبي وقدري، وأنا فرحك بليلي، أنت هنائي وسعدي، وأنا أصل التمني، آه منك، غجرية أنا في حبك، لا يوجد أدنى شك، في بحارك، أغرق أمام الشاطئ، بعينيك أمحو ثقة الشك، فتقبلني كما أنا أو اذهب وشكوكك لحدود هتك عرض ذات الشك، فلن أسمح لك مجددًا بخصامي بهذا الشكل.
«دار»: أُحبكِ وستكونين أسيرتي
- موافقة
قالتها ضاحكة بفرح وشقاوة، ثم قبَّلت خده الأيمن وابتعدت مودعة إياه، صعدت إلى غرفتها لتريح عقلها قليلًا بالنوم.
* * *
أخذ «دار» قراره بالذهاب إلى «حليمة هانم» في شركتها، عقر دارها، متيقنًا من أن سلاحه الأفضل لضمان موافقتها على زواجه من «رونا» هو الدخول إليها من باب العمل والصفقات، كي لا تُثير أي تعقيدات، خاصة مع علمه عدم ارتياحها لشخصه، جهَّز عرضه المغري وذهب، طلب من السكرتيرة مقابلة «حليمة هانم» وأعطاها الكارت الخاص به، وبدورها منحته الإذن فور علمها مَن القادم.
استقبلته ببشاشة مشوبة بحذر، مهللة في وجهه مسمعة إياه وصلةً من الإطراء على شخصه وشركته العملاقة التي حققت الكثير في عالم الأعمال في فترة وجيزة، حاولت الاحتفاء به أكثر، فهو رجل أعمال لا يحل اسمه بمكان إلا جاءت خلفه الأموال والأرباح كبحر يفيض بالكثير والكثير..
«حليمة»: تفضل بالجلوس، سأطلب لك فنجان قهوة من بن برازيلي خاص، ما رأيك؟
«دار»: لا مانع، أريدها مضبوطة.
«حليمة»: حسنًا (رفعت سماعه الإنتركوم لتخبر السكرتيرة).
عاجلها «دار» قائلًا: شكرًا «حليمة هانم» على حسن استقبالك، فأنا مدرك لحجم مشاغلك، أخبرتني «رونا» عن تأخرك كثيرًا ليلًا لإنجاز أعمالك وصفقاتك سيدتي (كان هذا تلميحًا بسيطًا على أنه و«رونا» لا أسرار بينهما، وهو ما استوعبته «حليمة» جيدًا).
«حليمة»: شكرًا لك «حيدَر»، هذه دنيا الأعمال لا مفر منها، إذا أغمضت عينيك قليلًا قد تنهار ولن ينقذك أحد، هل يمكنني مناداتك «حيدَر»، فأنت في عمر أولادي؟ (كانت الأفكار تضطرب برأسها: لماذا جاء؟ أيريد خطبة «رونا»؟ بالتأكيد سأرفض، أيريد مشاركتي؟ سمعت أنه يوسع شركاته ويشتري الشركات الصغيرة والخاسرة؟ لكني لا أريد بيع شركتي!! شعرت بتوتر شديد، فهو ليس بالشخص الممكن رفض تنفيذ طلباته أيًّا ما كانت ببساطة).
«دار»: بالتأكيد، سأدخل في صلب الموضوع، لا أريد تعطيل أيٍّ منا عن أعماله.
«حليمة»: تروقني جديتك، تفضل، أسمعني ما لديك.
«دار»: تعلمين أن لديَّ فروعًا لشركتي تغطي دول وممالك العالم في أنشطة تجارية متعددة، كما أني فزت مؤخرًا بمناقصة وزارة البترول لتمويلها بمعدات خاصة، هذه المناقصة هي ما أريد شريكًا فيها بنسبة محددة، فكرت أنه لا يوجد أفضل منكِ؛ فنشاطك بارز لا يمكن تجاهله، ووجودك معي سيفيدنا نحن الاثنين.
«حليمة» (تنفست الصعداء وابتسمت لتجيبه): نعم سمعت عن هذه المناقصة فعلًا ووددت لو اشتركت بها، لكن منعني رأس المال؛ فهي ستحتاج تكاليف ووقتًا، بالإضافة إلى المجهود الضخم، يسعدني شراكتك فيها، كم ستكون نسبة مشاركتي هذه؟
«دار»: لنقُل 15%، تكفي؟
«حليمة»: زِدْها قليلًا، لتجعلها 40%.
«دار»: تعلمين أنكِ لن تتحملي أي مسئولية وأنا من سيواجه جميع الأمور والمسئوليات، سأجعلها 20% لأجل «رونا»، هي نسبة معقولة، فشريكي سأوكل إليه التصرف في أثناء سفرياتي فقط، لا أحتاج لشريك فعلي، يمكنني تحمل الصفقة كما تعلمين.
قاطعهما دخول عامل البوفيه بالقهوة لكليهما، وضع الفنجان والماء المثلج أمام «حيدَر» (لم يكلف «دار» نفسه عناء النظر إليهما فهو لن يشربهما على أي حال، مجرد أنه يجاريها بتصنع البشرية).
وضع العامل فنجان «حليمة هانم» سائلًا: أهناك أوامر أخرى سيدتي؟!
«حليمة»: لا.
ثم نظرت إلى «دار» مكملة: إذا كان لخاطر «رونا» فلنجعلها 25%، ألا تريد أن تفرحها بخبر شراكتنا؟
«دار»: حسنًا، تم الأمر (قالها ضاحكًا) سأتصل بالمحامي ليبدأ إجراءاته لنتقابل غدًا ونوقع الأوراق المطلوبة.
«حليمة»: حسنًا، جيد جدًّا، سعدت بالتعاون معك «حيدَر».
«دار»: وأنا أيضًا سيدتي، هناك أمر آخر (كان يدرك جيدًا أنها لن ترفض الآن، فقد أشركها في صفقة عمرها).
«حليمة»: كلي آذان مصغية (توترت من جديد؛ لذا عبثت في خصلات شعرها الأمامية لتزيل بعضًا من قلقها).
«دار»: تعلمين أني و«رونا» رفيقان منذ مدة، بيننا ارتباط وثيق، أريد تتويجه بالزواج، ونريد موافقتك.
«حليمة»: أعتقد أن رأي «رونا» هو الأهم (كانت إجابتها محاولة للمراوغة).
«دار»: هي تنتظر موافقتك، فأنتِ والدتها.
«حليمة»: تنتظر موافقتي؟! واضح أنكما اتفقتما ورتبتما الأمر ولم يتبقَّ غير رأيي أنا (صمتت قليلًا ثم أكملت):
- حسنًا، موافقة، فلست أنا من تقف أمام سعادة ابنتها ومستقبلها، مبروك..
فضحت تعبيرات وجهها الممتعضة رغبتها الحقيقية في رفض الزيجة، لكنه تجاهلها قائلًا:
«دار»: شكرًا لكِ، سعدتُ بموافقتك كثيرًا.
«حليمة»: ومتى تنويان إتمام الأمر؟
«دار»: رتبت كل شيء، يمكننا الزواج في نهاية الأسبوع المقبل، أمامنا عشرة أيام.
«حليمة»: آه، بهذه السرعة! واضح أنك كنت ضامنًا لموافقتي، أهذه ثقة زائدة أم غرور؟
«دار»: بل واثق في حبكِ لابنتك، كما أنني لا ينقصني شيء لأتأخر بسببه.
«حليمة»: لا أعلم هل سأستطيع تجهيز ما يلزم «رونا» أم لا! كيف سندعو أصدقاءنا بهذه السرعة؟ هناك أشياء كثيرة يجب أن تُرتب، كما أننا لم نتفق..
قاطعها..
«دار»: لا تحملي هم أي شيء، بعلاقاتي سيتم الأمر على أفضل ما يكون، وقد اتفقت مع «رونا» على كل شيء، سنعيش في قصري، وهدية الزواج طقم ماسي اشتريته لها من فرنسا خصيصًا..
«حليمة»: آه حسنًا، واضح أنك رتبت كل شيء فعلًا، هل تريد إخبار «رونا»، أم أطلبها أنا، أم أنها تعلم؟!
«دار»: اتركي لي هذا الأمر، أريد مفاجأة «رونا» وإخبارها أني فاتحتكِ في الأمر ووافقتِ، إذا سمحتِ لي؟
«حليمة»: حسنًا (نظرت ساهمة، لا تعلم سر عدم ارتياحها)
«دار»: أترككِ لاستكمال أعمالك، سعدت بالتعرف بكِ سيدتي بالإضافة إلى شراكتك ومصاهرتك.
«حليمة»: السعادة لي أيضًا، انتظر، قهوتك!
«دار»: مضطر للاستئذان، فلديَّ مشاغل كثيرة عليَّ إنجازها، بعد إخبار «رونا».
«حليمة»: كان الله في العون، أقدر هذا، حسنًا، لن أُعطلك أكثر، مع السلامة.
تركها وانصرف وهي لا تفكر إلا في غرابته، لكن لِمَ تشغل بالها؟ ما يهم الآن أنه قد شاركها في صفقة تراها صفقة العمر، كما أن ابنتها ستكون زوجة لشخص يعتبره كل من في سوق الأعمال حوتًا وإمبراطورًا، ستملك سطوة ونفوذًا سيحسدها عليهما الكثير.
فكر «دار» وهو يتركها: ماذا لو عرض عليها الاندماج في إمبراطوريته؟ نحَّى هذه الفكرة جانبًا سريعًا، فآخر ما يريده بقربه شخص لحوح مثلها متعطش للثروة وفرض السطوة، قُربها سيثير الكثير من المشاكل والتساؤلات ويعطيها الفرصة للتدخل في حياته أكثر، هكذا أفضل، شريكة في إحدى الصفقات كل فترة وكفى.
فيرساتشي
اختفى «دار» في لمح البصر وذهب إلى «رونا» بغرفتها وقصَّ عليها ما حدث، وطلب منها الاستعداد للزفاف.
«رونا»: أريد فستان زفافي والإكسسوارات تصميم فيرساتشي، أنا لست أقل من أنجلينا جولي..
«دار»: لكِ كل ما تطلبين وتشتهين، فقط فكري بالأمر تجديه أمامك كونتيستي.
«رونا»: حقًّا؟! هل تستطيع ذلك؟!
«دار»: بالتأكيد، فلديَّ معارف وثيقة الصلة بأليغرا، الشريكة في الدار، لا تقلقي، فقط اختاري التصميم الذي يعجبك وقبل الزفاف سيكون لديكِ.
«رونا»: حسنًا، سأريك أحد التصميمات، منذ أن رأيته الأسبوع الماضي وأنا أشعر أنه صُمِّم لي أنا، ثوانٍ، محتفظة به على اللاب توب، ثوانٍ، سأريك إياه، فقط ثوانٍ، ها، انظر، ها هو، تحفة فنية حيكت لأجلي.
«دار»: جميل جدًّا وبسيط، يليق بالأميرات فعلًا حبيبتي.
«رونا»: أعشق مزج الدانتيل مع الساتان بهذا الشكل، كما أن نثر قطع ماسية صغيرة كنجوم السماء عليه هكذا على هذه الثنيات سيعطي انطباعًا رائعًا بالهدوء، فأنا أريد أن أبدو كأميرة حالمة بريئة.
«دار»: هههه، حسنًا لكِ ذلك، سأكلمهم وأتفق معهم وأخبرهم عن ماساتك وثنياتك تلك..
«رونا»: ألا يعجبك الأمر؟ (قالتها غاضبة).
«دار»: لا، أشاكسك فقط، هيا أزيلي ثنيات ومنحنيات وجهك العابسة هذه، تبدين أجمل وأنتِ مبتسمة.
«رونا»: حسنًا، هل اخترت منظم حفلات زفاف؟
«دار»: اتفقت مع «ندا الماروني» قبل أن أذهب إلى والدتك، ستتكفل بحجز قاعة الفرح وتجهيز الدعوات وحجز أماكن مبيت مَن سيحضر مِن الخارج، وقائمة الطعام في البوفيه المفتوح، أخبرتها أن يقتصر الأمر على الأسماك بأنواعها، وما يتبقى بعد الحفل تمنحه للجمعيات الخيرية، ستكون دعاية جيدة، كما طلبت أن تكون الموسيقي DJ، لا أريد مطربين؛ فوجودهم سيربك الحفل، أريد منكِ قائمة بضيوفك وكيفية الاتصال بهم، وبالنسبة لي معها قائمتي.
«رونا»: يتبقى الاتفاق مع اختصاصية ماكياج؛ لا مجرد فنانة أو هاوية، لا أريد «ميك أب» أرتست تحوِّلني لمسخ غيري.
«دار»: لا تفكري في هذا، لقد نُفِّذت أمنية جميلتي، رغم أنكِ لا تحتاجين لواحدة، لكنني اتفقت مع إحدى صديقاتي الفرنسيات وستحضر لتزيِّنك، هي اختصاصية تزيين عالمية، ستنفذ لكِ ما تتمنينه حرفيًّا بكل احتراف.
«رونا»: أعشق سرعتك في إنجاز الأمور.
«دار»: وأنا أعشقك أنتِ.
«رونا»: هل هي، أأأ.. أقصد، هل هي مصاصة دماء أيضًا؟
«دار»: لا تفكري بالأمر، أنتِ ومن معكِ بأمان، لا تقلقي، شهر العسل سيكون كما الأساطير، فسنذهب في جولة إلى فرنسا ورومانيا وإيطاليا في يختي الخاص، ستكون جولة واسعة لتري كل ما رأيته أنا.
«رونا»: أعشق هذا وأنتظره بفارغ الصبر، أنت فتى أحلامي.
«دار»: وأنا أذوب فيكِ وأشتهي وصلك ليل نهار، هيا سأترككِ لترتاحي قليلًا، فقريبًا ستبدأ رحلة خلودنا معًا.
«رونا»: لا أطيق صبرًا، لكن أعلم أن عليَّ الانتظار.
«دار»: ألا تريدين منحي قبلة صغيرة عربونًا قبل الذهاب.
تمنَّعت، فضمَّها قائلًا: سأمنحكِ أنا؛ فلست بخيلًا مثلك.
لتُفاجَأ بأنها في لحظة بين ذراعيه محتضنًا إياها بهدوء مقبلًا بهدوء، لتتيه عن كل الدنيا وتذوب في قُبلته.
«دار»: إلى اللقاء حبيبتي.
«رونا»: إلى اللقاء (قالتها هائمة بملكوت آخر، مخدرة من أثر سحر قُبلته).
تركها لتبدأ استعداداتها للزفاف، التي كان أولها بالتأكيد الاتصال بـ«ميلي» لإخبارها عن كل هذه المستجدات.
* * *
اتفق «دار» مع «رونا» ووالدتها على أن تحضر صديقته «ميري» لتزين «رونا» في جناح خاص استأجره في الفندق المقام به حفل الزفاف، هي فنانة عن حق، فلقد أخبرتها «رونا» أنها تريد أن تكون ساحرة للقلوب والعيون برقة الماكياج؛ بحيث يراها الجميع نسمة بريئة وملاكًا ينقصه جناحان.
عندما انتهت.. نظرت «رونا» في المرآة لتجد أنها نفذت الأمر بحرفية، فلقد كانت عيناها مرسومتين كعيني كليوباترا لكن بألوان هادئة كما البحر، خداها كما الرمان برقة، شفتاها تبدوان شهيتين مغريتين، لكن..
كما إغراء الأطفال بريء، وفستان وإكسسوارات فيرساتشي أكملت اللوحة لتبدو ملاكًا عن حق ببساطتها، أثنت «حليمة» على «ميري» وعلى ما فعلته من أجل ابنتها، وشكرتها «رونا» كثيرًا فردت بابتسامة واستأذنت في الانصراف، كان الجو شديد الهدوء حتى قطعته «ميلي» بصرخاتها المهللة لعلمها مدى اشتياق «رونا» لـ«دار».
«ميلي»: جاء «دار»، «رونا» لقد جاء «دار».
شعرت «رونا» براحة كبيرة؛ فالأمر يبدو كما لو أن شهرًا قد مضى وليس ستة أيام وعشرين ساعة وخمسًا وعشرين دقيقة؛ حيث لم تره منذ جاءها ليخبرها بإرسال بطاقات المدعوين وطلب منها اختيار نوعية باقات الورد التي تريدها في القاعة.
«دار»: واو، روعة، تبدين غاية في الجمال والرقة حبيبتي (واقترب طابعًا قبلة على جبينها).
«رونا»: أنت أيضًا تبدو وسيمًا جدًّا، افتقدتك كثيرًا الفترة الماضية، عدني ألا تفعلها ثانية.
«دار»: افتقدتك أيضًا كثيرًا حبيبتي، ووعد مني لن أكررها، اكتشفت أني كنت أعاقب نفسي، شوقي كاد يقتلني ولكني لم أعد أستطيع مقاومتك بعد.. تذكرين طبعًا.
«رونا»: هههههههههههههه، طبعًا.
«حليمة»: يبدو أن بينكما أسرارًا، هل أنصرف مع «ميلي» ونعود لكما وقتًا آخر؟! نحن هنا أيها العروسان.
«دار»: أعتذر سيدتي، لم أقصد، فلقد خطفتني «رونا» بطلَّتها هذه، كيف حالك؟
«حليمة»: بخير حال، أتمنى لكما السعادة، لا تقلق، هذه ليلتكما، لن يلومكما أحد على أي شيء.
«دار»: كيف حالك «ميلي»؟ تبدين مثيرة بفستانك الأزرق.
«ميلي»: شكرًا «دار»، مبروك لك «رونا»، أتمنى لكما السعادة والهناء.
«رونا»: نعم؟ ما لك بها؟! اتركها وشأنها؟!
«دار»: هههههههههه، «ميلي»، صديقتك تغار منكِ.
ابتسمت «ميلي» لعلمها مدى عشق «رونا» وغيرتها عليه..
«رونا»: لا أفعل، لكن لا أحب أن تشاكس صديقتي، وأمام عيني هكذا، ماذا ستفعل في غيابي إذًا؟!
«دار»: حسنًا يا أفندم، نعتذر، عُلم وينفَّذ.
«رونا»: لقد حضرت «ندا» قبل حضورك بقليل، أخبرتني أن كل شيء في مكانه، والجميع بانتظارنا.
«دار»: حسنًا، هيا بنا كونتيستي.
«رونا»: هيا بنا.
اقتربت من أذنه اليمنى قائلة: هل ستحولني الليلة؟
«دار»: غدًا، استمتعي بليلتك ولا تفكري بالأمر كي لا تتوتري.
«رونا»: حسنًا.