تربعت شمس ٱب الملتهبة في كبد السماء ترتدي حلة صفراء ، حتى أصبح ظل كل شئ مثله ، مررنا بسيارتنا قرب قلعة دمشق الأثرية حيث يرقد الناصر صلاح الدين الأيوبي ، بأبهته التي حافظ عليها حيا و ميتا ، بسمة في ثغر الخلود، و هناك على مشارف سوق الحميدية الأثري العريق، لاحظنا جلبة واضحة و استعدادات مثيرة لحدث ما مبهم..يبدو أنه وفد سياحي رفيع المستوى..لكن هيهات فالأمر أعظم من مجرد سياحة..خمنت أنه جلسة تصوير لمسلسل تاريخي في القلعة العتيدة،كما يظهر لي من لباس الشابات والشباب المشاركين ، رغم ما أمر به من توعك صحي و حمى شديدة ، إلا أنه أصابتني حكة الفضول وعرفت من بعض العاملات في الموقع أنهم يعدون العدة لزفاف أسطوري مترف بالبذخ متفرد بالفكرة ، وأين ؟؟ في أعرق أوابد دمشق التاريخية.. لعريس ولد و ملعقة الذهب في فمه ، معاهدا عروسه بزفاف لا ينبغي لأحد من قبلها و لا من بعدها..
مضينا في طريقنا باتجاه ركن الدين حيث عيادة الطبيب ، حرارتي ما زالت في تصاعد ، أنفاسي لهيب تنور يغلي راسي منه..بالكاد ركنا سيارتنا..و مضينا في أزقة أسد الدين المكتظة، تاهت خطواتنا ، حارت عيوننا وهي تجول من حارة لحارة ومن زقاق إلى ٱخر تبحث عن عنوان العيادة أذ أننا أول مرة نذهب إليها ، أنهكت من المشي ، زوجي أمامي يغذ السير و قد لفحه الغضب و كل من التعب ، الشمس تنظر الينا بقسوة لا ترحم أحدا ، وي كأننا في فلاة في عز القيظ !،
و أخيرا.. قادتنا أقدامنا نحو شارع واسع رحب ، على قارعتيه بسطات الخضار والفاكهة الطازجة المتناثرة ..
توقف أمامي زوجي يسأل الباعة ، نشط رجلل قد غادر الشباب محياه ، عرف أخيرا مقصدنا و راح يرشد زوجي و يرفده بالاتجاهات الصحيحة نحو المراد..
أما أنا فوقفت بين البسطات الممتدة على مد النظر .. أغرتني سلة ملئى بالتفاح الأحمر المستدير الداكن الذي لم يخالطه لون ٱخر يناديني أن هلمي إلي.. كليني ، و بعينين ذابلتين نظرت إلى إمرأة منحنية تخاطب البائع و قد لف شماغا أحمر حول جيده يمسح بطرفه عرقه المتصبب سراعا عن جبينه ..
بصوتها الخافت المتردد قالت:
_ زكاتك ؛ أريد أن أشتري منك بالدين و سأوفيك بعد يومين أن شاءالله.
وبسرعة رد عليها مقطبا جبينه ، والشرر يبرق من عينيه الغائرتين:
مستحيل ، لا يمكن
_ أرجوك ، صدقني سأوفيه لك ..
رفع يده الضخمة و أشار بسبابته الغليظة معلنا الرفض التام الذي لا رجوع عنه :
كرمى لله يا امرأة ، سئمت الدين و خسرت تجارتي من كثرة الديون ، لا أريد جدالا ، لا تؤخريني عن عملي أكثر..اشتري أو انصرفي..
تقوس ظهر المرأة و مدت يدها نحو حبة بطاطا واحدة ،
_ حسنا أعتذر منك ، بكم حبة البطاطا هذه ؟
وبلا مبالاة محاولا اخفاء دهشته رد :
بأربعة ٱلاف ..
ردت بصوت متهدج بعد أن سكب ماء وجهها ..مطلقة زفرة دكت جبالي دكا :
أمري لله ..
ناولته أوراقا مالية مهترئة بعرق جبين يظهر عليه أنه كان من أهل النعماء و الرخاء دهرا..حتى جلبابها و حجابها و هيئتها لم تكن تدل على هيئة رثة !
لملمت حطامها ، و بقايا أشلاء كرامتها ..و حبة بطاطا واحدة .. أي و ربي ..واحدة ، لا تسمن و لا تغني من جوع..خبئتها في كيس و مضت نحو قدرها ..
حوار قذر أصغيت إليه بكل جوارحي..، سمعت فيه بكاء الطير في وكناتها والسباع في كهوفها..رعشة شديدة مشت في ضلوعي مشي السم في اللديغ ..
استيقظت من شرودي على صوت زوجي ينادي متلهفا :
هيا إيمان من هنا بسرعة تأخرنا على الموعد..
تلفت نحو المرأة فلم أجدها..اختفت تماما.. قلبت طرفي في السماء و قد تلعثمت الكلمات غصصا في حلق الفؤاد.
مشيت و أنا أحمل أثقالا فوق أثقالي تؤزني أزا نحو السقوط..
.خرجت من ذلك الشارع
بصدر أجوف و بقلب جبان أخوف ..
خطوتين نحو العيادة و كأنهما قرن من دهشة ..انفصلت فيهما عن الواقع تماما..
_ حرارتك مرتفعة جدا ..تمتم الطبيب وهو يرى ميزان الحرارة :
_ نبض القلب عميق غريب ..أنا لا أسمعه..دقيقة من فضلك..
خذي نفسا ، أكتميه ، النبض يختفي رويدا رويدا....غامض هذا النبض ، صدرك أجوف..أين قلبك ست إيمان ؟
أنا لا أجده..
نظرت إليه و قد هزمني العي :
قلبي هناك..تركته في قلعة دمشق عند حبة بطاطا واحدة ...
---
كتبت بدمعي السخي