"أمي لا تحب أن تحكي، ولا تحب أن تشرح. تعيش الفن كأنه صلاة. حسّاسة جدًا، ولا تقبل أن تتنازل عن شيء تؤمن به. عصامية، صادقة، بل وصارمة مع نفسها.
هكذا كانت تماماً. منذ دقائق وهكذا أجاد زياد الرحباني، حتى في موته، وصف السيدة العظيمة.
حين وصف زياد والدته، الأم الصارمة مع نفسها، كان كأنه يودّعها على طريقته، قبل أن تأتي لحظة وداعه هو.
وجاءت تلك اللحظة.. لكنه لم ير هشاشتها هنا في وداعه
(١)
جنازة زياد تُشبهه: هادئة، عفوية، وحميمية. التفّ حول نعشه أحباؤه، ودموعهم تلمحها الكاميرات بخجل، كما لو أن الحزن نفسه لا يريد أن يتباهى أمام الناس.
زياد، الذي أحب الحياة وكان يحرض الجميع على حبها، بقي كذلك حتى في رحيله. نستطيع أن نتخيله الآن، بطريقته الساخرة، يقول: "رح أترك النعش، إقفز معهم عالأرض، يلفّوني وأنا مبسوط... الإيدين اللي عم تشيلني تداعبني."
(٢)
الصورة الأولى التي التقطتها الكاميرات كانت بديعة: النعش محمول بالكثير من الأيدي، واسم "زياد" يعلو المشهد. وداع مهيب، لكنه دافئ كصاحبه.
طقس لفّ النعش أكثر من مرة، كما تمارسه الكنائس المسيحية الشرقية، بدا مؤثراً بعمق، وكأنه يُطيل لحظة الوداع، يمنحها مساحة من الزمن لتُقال فيها أشياء لا تُقال بالكلام.
(٣)
لكن الذروة كانت عند دخول السيدة فيروز الكنيسة. ارتفع الهتاف:
"الله يسلم قلبك... بنحبك يا فيروز!"
تصفيق لم يُخفِ التأثّر، في مشهد بديع يليق برُقي اللبنانيين ومحبتهم. ووعيهم بالحياة.
دخلت فيروز، وجهها مغطّى بالدانتيل الأسود، تتوكأ على ريما. بدت كأنها تبحث عن كرسي، تتردّد لحظة قبل أن تجلس، ثم تقف مجدداً، تتقدم نحو النعش. وقفت أمامه بصمت طويل، تودّعه بنظراتها كما فعلت طيلة حياته. ثم جلست بقربه، في المكان الذي طالما كان لها.
رفعت عينيها نحو الأعلى، كما لو أن حديثاً خاصاً قائماً بينها وبين السماء. كأيّ أمّ تخاطب ابنها الراحل، بكلمات لا يسمعها أحد سواهما. ثم عادت بعينيها إليه، وبقيت هناك... حتى بدأ الناس يمرّون حولها.
(٤)
"الموت هو الوحيد غير القابل للتفاوض." كأننا نسمع صوته يقولها اليوم.
"أنا ما بخاف من الموت، بس بخاف موت قبل ما خلّص شي كنت عم حضّرله."
من كنيسة رقاد السيدة في بيروت، انطلقت اليوم جنازة زياد الرحباني. لكنها لم تكن مجرد وداع عادي. كانت جنازة كبيرة لكل من أحبّه، ولكل من رافقه في الحلم، وفي الصمت، وفي الموسيقى... بلا ولا شى
رحم الله زياد الرحباني الموسيقار الفذ وربط على قلب أمه