أصبحتُ امرأة لا تهاب الصدمات.
لم أعد أرتجف من الفقد، ولا أرتبك أمام الانكسارات.
تعلّمت أن الحياة لا تُقام على اتكاءٍ بأحد،
وأن أكثر الطرق ثباتًا هي تلك التي نخطوها وحدنا، ولو تعثرنا في بدايتها.
لم أعد أرى الخيبات كما كنت؛
لا أعدّها ولا أُفسّرها ولا أفتّش في أسبابها،
بل أتركها تمرّ كما تمرّ الريح على البحر…
تُحرّك سطحه قليلًا، لكنها لا تغيّر جوهره.
أنا الآن أعيش مع ذاتي فقط.
ليس لأن العالم خذلني وحسب،
بل لأنني أدركت أن قرب الذات أصدق،
وأن السكينة لا تُهدى، بل تُنتزع من الضوضاء ومن ثِقَل الآخرين.
قد تسمّونه انعزالًا،
وقد يراه البعض انطواءً أو توحدًا مع الداخل،
لكنني أراه ترفًا لا يُمنح إلا لمن تعافى بما يكفي،
ولمن لم يعد يبحث عن أصوات خارجية لتؤكّد له قيمته.
أراه راحة بال… نعم.
أراه ثقةً تولّدت من الألم،
واستقلالًا لم يكن اختيارًا في البداية،
بل ضرورة… ثم صار نعمة ومساحة رحبة أتنفّس فيها دون خوف.
فذلك القلب الذي أتعبته التجارب،
الذي خُذل أكثر مما احتُضن،
وتبعثر أكثر مما رُمم،
من حقّه أن أسنده،
أن أرفق به،
أن أضعه في مكان آمن لا تصل إليه أيدي العابرين ولا حكايات المؤقتين.
وتلك الطفلة الصغيرة المختبئة في ركنٍ بعيدٍ مني،
التي كانت تنتظر حضنًا ولم تجده،
تبكي في صمتٍ لا يسمعه أحد،
وتتساءل دائمًا: لماذا كان العالم قاسيًا؟
من حقها أن أقترب منها أخيرًا.
أن أسمع بكاءها الذي تجاهلته طويلًا
وأمسح دمعتها التي جفّت على امتداد سنوات.
من حقها أن تعرف أنها كانت كافية دائمًا،
أنها لم تكن سبب الوجع،
وأنها تستحق أن تُرى وتُحب وتُحمى.
لهذا لا أسكت بكاءها،
ولا أدّعي أنني نسيت ما لاقت،
فالنسيان ليس شجاعة…
والتظاهر بالقوة ليس شفاءً.
أنا أراها،
أضمها إلى صدري كلما ارتجف صوتها داخلي،
وأهمس لها: “أنتِ لستِ وحدك بعد الآن.”
أما ما يحدث حولي اليوم…
أما ضجيج العالم،
وصراخ المطالب،
وتوقعات الآخرين،
ورغباتهم التي تُبنى على حساب روحي…
فهو هراء.
لا يشغلني ولا يخصني.
أنا لم أعد هناك.
لم أعد في دائرة اللهاث.
تركت كل ذلك خلفي دون ندم.
أنا هنا الآن…
في سلامي الذي بنيته بيدي،
في وحدتي التي غزلتها من صبرٍ ودمعٍ وسهرٍ طويل،
في عالمي الصغير الذي يحتوي على ما يكفيني،
لا أكثر ولا أقل.
أتنفس.
أتماسك.
وأهدأ… ليس لأن الأشياء صارت أسهل،
بل لأنني أخيرًا فهمت نفسي،
وآثرتها،
واحتضنتها كما لم يفعل أحد.
هذه أنا…
امرأة لم تنتصر على الحياة،
لكنها انتصرت على انهيارها الداخلي،
وعرفت الطريق إلى نفسها.
وأحيانًا… هذا وحده يكفي.





































