كنت قاعدة في أمان الله في مكان ما محترم جداا وفوجئت بأغنية غريبة بتقول "يلعن ابو الناس !! "
نعم يا فندم....كل الناس...زي ما حضرتك قرأت كده فعلا.
وطلع إن ده حماقي.. أيوة حماقي المغني اللي بيحط بودرة على وشه ده.
يلعن أبو الناس؟ فعلا؟؟ ده كان ملعون أبو الناس العزاز بس وكنت زعلانة وقرفانة من تتر المسلسل وقباحة أحداثه !
لا قالك دلوقت ملعون أبو الناس كلهم ياللا بقى !
ولأن محسوبتكم - شأن معظم العائلات زمان - من عيلة شديدة التهذيب اه والله...فقد أصبت بذهول، وللأسف لم أستطع مغادرة المكان.
المهم حاولت أنسى وروحت البيت فتحت التليفزيون كانت فقرة إعلانية لقيت إعلان عن حاجة اسمها شيكا
"الست في الإعلان بتقول لابنها "سيب اللي في ايدك لاحسن هانزل بالشبشب على دماغك".
انا افتكرت ان التهيؤات رجعت لي تاني لكن فوجئت بأن ما سمعته حقيقي ولا حول ولا قوة إلا بالله وعليه العوض في أخلاقنا وعيالنا وإعلامنا..ألا يوجد رقابة على الإعلانات!!
فمنذ عقود طويلة اشتهرت عائلتنا في مسقط رأس العائلة بالمنصورة بدماثة الخلق والأدب الشديد والبعد تماما عن السباب أو الدعاء بالسوء على اي شخص، وخصوصا الأطفال، إذ أن أطفال العائلة كانوا يتمتعون بتدليل واحترام غير مسبوق.
فلم تشهد عائلتا أبي أو أمي ما نسمعه تلك الأيام من ألفاظ يتداولها الآباء !
وكثيرا ما كان أبي - وهو أصغر إخوته والأخ المدلل لدى عماتي الرائعات دمثات الخلق - كثيرا ما كانوا يتلفظون بألفاظ وعبارات كنا نعتقد في طفولتنا أنها شتائم أو تهديدات أو صفات سيئة ينادوننا بها.
ولكننا لما كبرنا فوجئنا أن تلك "الشتائم" أو ما كنا نعتبره سبابا في طفولتنا، لم يكن إلا دعوات بالخير متخفية في أسلوب تهديد ووعيد وهي أبعد ما يكون عن ذلك.
مستغرب؟ طيب خد دي...
كان أبي إذا تشاجر معي أخي "وذهبت لأشكوه " له يهدر قائلا "هو عمل معاكي كده؟؟ والله والله والله لأبيّته في جلده".
وكنت في طفولتي أشعر بالتشفي في أخي الذي سيبيت الليلة في جلده، معتقدة أن كلمة "أبيّته" في جلده معناها أنه سيوسعه ضربا وهو ضروب من ضروب المستحيل إذ أن أبي لم يرفع علينا يوما يدا ! ولم أره يضرب مخلوقا أيا كان، ولم يشتمنا بأي لفظ جارح أو مهين.
وكبرت لأكتشف أن أعظم نعمة للإنسان أن يبيت في جلده معافى وسليما من كل أذى !
وكنت إذا ما أخطأت يناديني أبي في غضب مفتعل "تعالي هنا يا مذبلحة" بضم الميم وفتح الذال وتسكين الباء وفتح اللام !
وكانت مُذبْلحَة هذه بالنسبة لي كارثة ..أنا مذبلحة؟؟ أنا ؟
وكبرت لأكتشف أن كلمة مذبلحة هذه ليست إلا خلطة من الحروف الموحية، ولكنها في حقيقة الأمر لا تعني شيئا بالمرة..ومفيش حاجة اسمها بنت مذبلحة وولد مذبلح، بل مجرد كلمة مضحكة .
وكان أبي إذا صادف أحد أطفال العائلة المشهورين بالشقاوة يقول له "تعالى هنا يا ولد يا مَبْعَر" وكبرت لأكتشف أن مبعر تلك ليست سبة ولكنه ولد الجمل والجمل حيوان نصف به الناس المهذبة لخلقه الطيب واعتزازه بكبريائه، لذا نصف به الناس الطيبين في صبرهم وحيائهم أي أنه ليس سبة بالمرة.
وكنت إذا ما رفضت النوم أنا وأخي وتمادينا في الشقاوة واللعب هددتني إحدى عماتي قائلة "والله لو ما نمتوا أجيب لكم "بركتالله والعافية".
وكانت تركيبة الجملة بالنسبة لنا مخيفة، فمن هي "بركتالله والعافية" التي ستأتي لتنتقم من الأطفال الرافضين للنوم ؟؟ و
بالفعل كنت أغوص في حضن عمتو وأغمض عيني سريعا قبل أن تأتي الست "بركتالله والعافية" لتأكلني وأنام على حدوتة تحكيها لنا عمتو عن فتاة جميلة في حجم الحمصة يتزوجها الأمير لكلامها الحلو وأخلاقها الحسنة ...وأنسى تماما "بركتالله والعافية" !
وكبرت لأكتشف أن "بركة الله والعافية" يتمنى كل الناس أن تأتي لهم وتظل معهم !
وأما إذا ما أنجب أحد أفراد العائلة بنتا - فإنهم لا ينادونها إلا ب "تعالي يا غولة" وكنت أتعجب كثيرا عندما ينادوننا- نحن بنات العائلة بتلك الكلمة.
وخصوصا رجال العائلة كانوا في صغرنا يقولون للبنت "تعالي يا غولة"، بل وصار أبي ينادي بناتي بنفس الكلمة التي اكتشفت أنها تقال لفرط إعجابهم بالطفلة وجمالها وخوفهم من الحسد، لذا فإنهم يقولون هذا كنوع من صرف أنظار الناس عن جمالها غذا سألوهم كيف "فلانة" يقولون زي الغولة
وكبرت...كبرت لأجد نفسي في عالم مليء بالسباب المباح والمتاح على الفضائيات وفي الأغاني والصراخ والعويل المتواصل و"الشرشحة" في المسلسلات، وصار الإعلام المصري فضيحة وهبط بنا الفن الهابط لأسفل سافلين ...وباردون يعني ..
صار الكثير من الناس في منتهى القباحة و قلة الأدب.