حين رأى (وصال) كان يأمل أن تكون أمّا ثانية للبنتين، بعد أن فصلت هوة عميقة بين الأم وبنتيها، الحقيقة كان يتمنى أن تكون (وصال) أمه هو شخصيا،
إنها مذهلة حين تستمع، تنظر لمحدثها بعينين عميقتين فلا يملك إلا أن يصارحها، ثم ينساب حديثها حلوا رائقا، يقنعك بلا جدال معتمدا على سماحة نفس وجمال أنثوي بريء جدا ولكنه في الوقت ذاته، يتقن فن (التثبيت) !
حديثها أناشيد براءة غامضة وإغواء غير مفهوم، لا تتعمده، هي غير منتبهة أصلا لما تملكه من قوة سحرية، ومنتهى الإغواء هو ذلك الإغواء الرومانسي غير المتعمّد وتلك هي بهجته الخفية، إذ لا يشعرك أنه يغويك لبساطته (وبراءته) ولكنك تنزلق معه رغما عنك أو قل تغرق فيه.
كان يرى الفارق بين "وصال" و"سؤدد" مدهشا، فبعد أن أنجبت له "حسام" شعرت أن هذا هو غاية ما كانت تريده أن تسلسله بابن من صلبه وكأن البنتين لا تحتسبهما، رغم أنه يكاد يحب البنتين أكثر من "حسام" الذي جاء بناء على أوامر من والده !
كان يراها في مجتمعها المخملي الجديد فيتعجب ساخرا "في سرِّه" من تظاهرها وتصرفاتها بعنجهية وطبعها الناري الذي يذكره بأمه، وهي سؤدد التي تربت في حارات تنجار الترابية !
بينما يرى وصال ببساطتها وميلها للدعة والعفوية بلا تكلف ولا تمثيل، يبتسم في نفسه آسفا، إحداهما تملؤه حبا وزهوا وثقة بنفسه،
والأخرى لا تنسى له إخفاقات تعلم جيدا أسبابها، تكاد تعيره به، يشير لها ذلك الإهمال الجسيم،
نعم، أقل ما يقال عنه إنه "إهمال جسيم يرقى للقتل" حين تهمل أقرب الناس لك، فأنت تمعن في إيذائه ، إذ أنه قتل للمشاعر الطيبة أو قتل للكبرياء أو تصدير فكرة عدم استحقاقيته وأنه غير مرئي، وليس أولوية ويسبقه في الطابور أشياء عديدة.
هكذا قتلت سميرة، وكأنها تقتله هو عامدة في شخص ابنته الوسطى التي تحبه أكثر وتجاهر بحبها له.
نعم يخشاها، خشية الكاره لا خشية المحب، فلم يحبها يوما، يراها في ضميره مسؤولة بشكل ما عن موت نجيبة رغم أن عقله الواعي يدرك جيدا أنه لا علاقة لها بموت نجيبة، لكن ثمة حبل سِّري يربط بين موت نجيبة وحياته مع سؤدد،
وكما يحب أمه لأنهل أمه، كرههها في سؤدد !
وأما سميرة، التي تشبه أبيها وميله للبساطة والمرح فكان جزاؤها هي ومن تشبهه الطرد النفسي من جنة "سؤدد"، فقد كانت تعتبر "الفيللا الهادئة المختبئة في إحدى كمباوندات زايد المدعية " جنة، وكان يعتبرها جحيما باردا لا يجد نفسه إلا خارجها ولا يشعر بالحرية إلا بعيدا عن جدرانها الباردة مثل صاحبتها !
آفاق من ذكرياته على صوت وصال الذبيح مبحوحا رخيما كعادته، صوتها يأتيه دوما في وحدته تقول له جملتها التي لا ينساها كأنها تعويذة ألقتها عليه فأصابت روحه بالعطب، قالت
(أنت رجل مقيد، أسير مخاوفك، ولا ألومك، عد لسجّانك، فبعض الأرواح لا تليق بها الحرية، ولكن تذكر أنك جففت كل بئر عذبة حفرتها لأروي قلبك)