"وجوه"
سلسلة كتابات حول شخصيات هامشية "شديدة الأهمية"
"الرفيقة الدادة أم محمود" ..نحمد رابنا...مجاتش في عيني...الجوطنة غرجت دم، صورة العذرا.
"حين رزقني الله بالبنتين قررت أن أجلب مساعدة مقيمة في بيتي رغم تحسسي الشديد تجاه استخدام أدواتي ومرافق بيتي وساعدني على اتخاذ القرار وجود مكان وحمام مخصص للخادم ببيتي وعندها قررت أن تكون المساعدة فقط لأعمال المنزل وألا تقترب من البنتين ولا من تحضير الطعام.
ومرت علي العديد من المساعدات اللائي لو كتبت عنهن مجلدات حول غرابة ما وجدته منهن لن يكفي، حتى كبرت البنتان وفطمتهما وقررت أن تكون المساعدة يومية وليست مقيمة.
وساعتها رزقني الله بالرفيقة الدادة أم محمود زوجة حارس عقار العمارة المقابلة لنا.
ام محمود والتي لا أناديها إلا ب "حوده" معي منذ 13 عاما بالضبط "ما شاء الله "وهي سيدة بيضاء نظيفة تميل للقصر صبوحة الوجه قوية البدن ربي يحفظها، نمت بيني وبينها علاقة صداقة قوية جدا حتى صارت تفهمني من نظراتي وبدون كلام وأتبادل معها الحديث والهزار والضحك على لكنتها الجميلة، ويحلو لي كثيرا أن أتناقش معها لأستمتع ببراءتها وفطنتها ولهجتها الفلاحي المحببة لقلبي ،لا سيما أنها تتمتع بصوت خشن مبحوح يذكرني بصوت "دونالد دك".
والحقيقة أنني اعتدت أن أتناول إفطاري معها حين تكون متواجدة، كما اعتبرت هي أن البيت بيتها وقد كان فعلا بيتا ثان لها بفضل الله .
أم محمود صارت صديقة من نوع خاص، تهتم بي لدرجة أن تتصل بي مساءا لتذكرني بكل ما يحتاجه البيت من منظفات حتى لا تزعجني صباحا، وخصوصا في أيام إجازتي في حالة وجدتني نائمة، أعجبني فيها صراحتها ونظافتها الشخصية واعتبارها نظافة بيتي أمرا يمس كرامتها الشخصية فلا تتوانى فيه،
كما اكتشفت أنها لا تتناول طعاما في بيت أحد غيري مهما كان، وقد أشعرني هذا بالفخر وبود شديد لها، لأنها تبادلني مشاعري الطيبة وثقتي فيها.
إلى جانب إعجابها الشخصي "ببرفاناتي" وبرفانات البنات التي يحلو لها استخدامها مهما أهديتها أنا برفانات، وبرغم تبرم البنات من الأمر إلا أنني لا أرى الموضوع مستفزا، بل مثار إعجابي إذ أن ذوقها يماثل ذوقي وأنا أحب أن تروح وتجيء في بيتي برائحة محببة لي مهما غلا ثمنها ومهما تشاجرت معي البنتان بسبب البارفان الذي ينفد في وقت قياسي،
وقد حاولت البنتان أن تدسا بيننا ولكني أبدا لم أستجب لتلك الدسائس، إذ ان الرباط بيننا كان رباطا بين امرأتين تكدان وتكدحان في تلك الحياة، ولهما وجهات نظر متطابقة ونتشارك ذكريات وتفاصيل عديدة في يومنا حتى صارت أختا لي بمعنى الكلمة مما يثير غيرة البنتين أحيانا كثيرة، رغم رضوخهما لوجودها وتعلقهما بها مع الوقت.
حين رحل والداي حزنت هي معي حزنا نبيلا حتى صارت تأتي خلسة وترحل خلسة لا تدخل حجرتي ولا تقترب منها حتى لا تراني في حالتي التي كان يرثى لها لشهور أتكور كالجنين في سريري ولا أنام إلا بصوت القرآن الكريم، وتأتي أم محمود لتنهي كل شيء بصمت عجيب ولا تتكلم الا همسا مع البنتين، حتى مرت الأيام والتئم الجرح. لكنها أبدا لا تأتي على سيرتهما رغم حبها الشديد لهما إلا إذا فتحت أنا السيرة. اذ تعرف جيدا متى أكون مستعدة للحديث عنهما ومتى توجعني الذكريات!
الرفيقة الدادة أم محمود تحافظ على الصلوات مثلي ولكنها تشك في امر ديانتي ????وترى في خط "دروشة" يليق بكل "الأديان" لا أدري كيف انتبهت له حتى أنها سألتني مرة وأنا أهتم ببورتريه سيدة مصرية جميلة شعبية الملامح تحمل "بلاصا" ووجدتني أم محمود أهتم كثيرا بهذا "التابلوه" وأبجله وأحرص على وجوده على حائط معين، فسألتني مرة ببراءة "هي دي العدرا؟" ؟؟طبعا اصبت انا والبنتان بهستيريا ضحك اذ ان البورتريه لفتاة مليحة ترتدي فستانا "لبنات البلد" يظهر منه صدرها ووجهها المليح، قلت لها يا أم محمود، ليست العدرا، ولكنها فكرة جميلة بالفعل أن أمتلك صورة لستنا مريم، الله ينور عليكِ.
ذات يوم كانت منهمكة في تنظيف الشفاط وانا أتوسل إليها إلا تفعل فانا أتحسس بشدة من وقوفها على السلم بجوار شباك أو أي عمل فيه خطورة، كما إني لا أحب تلك الوسوسة غير الآدمية التي تصيب السيدات ما أن تقع في أيديهن عاملة غلبانة، حتى يستعبدن المسكينة وكأنها آلة لا تشعر .
في هذا اليوم اخذت أتوسل لها ألا تمشي حافية القدمين وسط الماء والصابون والكلور...كانت تنظر لي مشفقة كأني أنا المسكينة الممسوسة، وليست هي التي تذهب لكل بيت وهي وحظها، فإما أن تكون سيدة طيبة والله هاديها أو جبارة بلا رحمة لا يهمها إلا أن تأخذ بكل مليم تدفعه للمسكينة قطعة من لحمها ودمائها...
المهم ظللت واقفة بجانبها وهي تنظف الشفاط وأنا أرجوها وكأني أستشعر الخطر..
انا: ياستي انزلي بقى...الشفاط نظيف .. الحمام لا يدخله الغبار..والمصحف نظيف
هي:..خلاص اهوه..
انا: طيب على مهلك...هاتي ايدك..
هي:..لا إبعدي لحسن تتزحلجي إنت
ابتعدت حتى تنزل ونخلص ولكنها انزلقت فجأة وإذا براسها تخبط في طرف البانيو..
للحظات كنت أنظر في ذعر حيث شلال دماء ينفجر من جبينها وهي قد اعتدلت جالسة بهدوء تحاول كتم الدم...هويت عليها أكتم الدم وأنا أبكي وأصرخ بصوت عال مبحوح لأول مرة بحياتي وقد أخذت أردد ياحبيبتي معلش معلش يا ربي أعمل ايه يا مصيبتي معلش ياحبيبتي... واضع يدي على نافورة دم.....ثم أخذت أجري باكية إلى المطبخ ابحث عن مطهر أو ضمادات والبنات اتسمروا من الرعب وأنا أصرخ هاتوا قطن هاتوا كولونيا....
حين توقف قليلا تدفق الدم كان إصراري على الذهاب للمستشفى أمام رفض شديد منها وأنا ابكي واستعطفها.
انا: والنبي يا أم محمود لازم نروح مستشفى..لازم تتخيط
هي..لا خياطة لا هتعلم في جورتي..هي هاتلحم وحديها..
لا متخافيش هنخيطها بخيط تجميل ومش هتبان والله أوعدك .
لا .. لا خياطة لا..جولت خياطة لا
طب نروح الصيدلية واللي يقوله الصيدلي نمشيه..
وافقت على مضض وسايرتني حتى الصيدلية حين قال الصيدلي لابد تتخيط...
هي: لا جولت لا...هات بس جوطنه تانية بدل اللي غرجت دم..
انا: لا بقى هنروح المستشفى..خلاص..عشان خاطري
في المستشفى كدت أموت كمدا أثناء خياطة الجرح واتألم لها وهي ثابتة كجذر شجرة قوي..تنظر لي بنصف عين حتى أمرني الطبيب أن أخرج وهو يراني رايحة جاية ملتاعة وأبكي....لكني رفضت الخروج.
بعد أن انتهى الطبيب...وفي طريق عودتنا كنت أنا صامتة اتشحتف واشهق محمرة العينين من البكاء وهي تدير عينيها بيني وبين شباك السيارة..ثم قطعت الصمت بقولها....آني مش فاهمة عليش ده كله...هو الواحد فاكر أنه لازم يعيش كده من غير ما يحصللو حاجة؟ ودي تبجى عيشة دي؟ أمال كيف نحمدو؟؟؟ مش نحمد رابنا انها مجاتش في عيني......وحدي الله..ثم طبطبت علي قائلة،،،وحدي الله أمال.!
ضحكت وسط دموعي قائلة...لا اله الا الله.
دينا سعيد عاصم