وجوه
من أهم وأغلى ما أحتفظ به في قلبي تلك الوجوه الطيبة الكثيرة التي تملأ حياتي بهجة شديدة، تنتشلني كثيرا من أحزاني وتلقي بي في دنيا طيبة بها محبة حقيقية لا تكلف فيها ولا اصطناع.
وخصوصا بعد أن تم "لطش" الجراج الخاص بالمبنى التليفزيون وتركونا نعاني الأمرّين في ركن سياراتنا بالشوارع "والخرابات" نعم حرفيا خرابات أرتعد وأنا أسير فيها ليلا بعد انتهاء "الشيفت" في الحادية عشرة، وأزقة صغيرة جدا و"زخانيق" حول المبنى العريق.
وأما الجراجات بالتحرير فإن الساعة ب 70 جنيها آه والله كما سمعت.. تخيل يا مون بيه؟
ولأن ما حدث كان لحكمة، فقد تعرفت على الكثيرين خلال رحلتي القصيرة تلك،
مثل حارس الجراج الموجود في شارع "خنيق" أمام فندق رمسيس هيلتون والذي يعاني علّة في قدمه وهو لذلك يتوكأ على عكاز ضخم "حتى يتحمله" بوجهه المتجهم وضخامته المرعبة ووجومه المخيف وهو يدمدم لو طلبت منه أن لا يضع سيارتي في آخر الشارع حيث "الخرابة"، لأن الشيفت سينتهي ليلا، وهو نفسه الرجل الذي مع الوقت صار بشوشا يبتسم لي وقد يسعد لو طلبت منه "فكة" ويضع سيارتي أول الشارع رغم أنف الجميع، بل ويتندر على سيارتي مقارنة بسيارات ساكني الفندق من العرب، فأضاحكه قائلة "بكرة تكبر وتبقى مرسيدس"
ومثل تلك السيدة التي تفترش الأرض بخضرواتها وبضاعتها الجاهزة للمرأة العاملة في شارع صغير مترّب مليء بالحفر والندوب بالقرب من مبنى التليفزيون، تجد عندها شتى أصناف "المحشي" والجبن القديم "المش" وغيره مما تشتريه المرأة العاملة المطحونة في طريقها للبيت.
في هذا الشارع ابتسم لي طفل فنسيت همّا ثقيلا كاد ينخلع قلبي له، وتبادلت التحية مع سيدة عجوز مريضة "بالبهاق" فنسيت مشكلة مع زميل أحزنني سلوكه.
في هذا الشارع تعرفت على العديد من الشخصيات الجميلة التي أستفتح بها يومي أو أنهيه بوجوههم الجميلة الطيبة, صرت صديقة للجميع بعد أن قضيت في هذا المبنى العريق الذي جار عليه الزمان نحو أربع سنوات.
الطفل "أدهم" الذي يبيع المناديل أمام بوابة 15.
بائعة الخضروات التي تشبه الممثلة اليونانية "إيرين باباس" التي ظهرت في فيلم عمر المختار بوجهها الأبيض المشرب بحمرة وملامحها الشرقية الرفيعة ونحافتها المفهومة أسبابها، ونظراتها الطيبة والحادة في آن واحد، والتي ما إن ترى سيارتي تدخل الشارع "المدغدغ" تظل تدعو لي دعوات ينشرح لها قلبي حتى أصل لشجرة ظليلة تقف رابضة أمام الجراج الذي يساعدني عماله على ترك سيارتي ومفتاحها معهم فصاروا اخوة لي "خالد وعاشور وعم ود" إذا غاب أحدهم سألت عنه فأعرف أن هذا يقضي إجازته في بلدته وهذا مكانه حتى يوم كذا.
وهم جميعهم يعاونوني إذا احتجت أن أملأ الردياتير بالماء وساعات أخرج فاجد أن العجل مضبوط بعد أن "استلفوا" منفاخ من سيارة أحدهم حين وجدوا إحدى العجلات "نايمة"، وهكذا يخافون على سيارتي مثل عينهم.
هؤلاء الشباب والسيدات صاروا عزوة لي في مجيئي ورواحي.
عم ود في حوالي السبعين أو أزيد قليلا ضعيف البنية بشكل يوجع القلب ورغم ذلك يعمل عملا شاقا بلا كلل وظني أنه يجري على أحفاد صغار فقدوا الأب أو الام أو كليهما فإن مقادير هؤلاء تكون غالبا أشد إيلاما لولا ربْط الله على قلوبهم.
وهو "حبيب قلبي" منذ أن سألته عن اسمه ورد بطبيعية "اسمي ود"
هتفت ساعتها وأنا سعيدة" اللااااه ما أجمل هذا الاسم حضرتك جميل واسمك جميل".
ومن يومها لم تتوقف وصلات الغزل بيني وبين "عم ود" الذي يخرج مسرعا حين يسمع صوت سيارة وما إن يراني حتى يمطرني بصباحاته الحلوة "يا صباح الفل يا استاذة، ربنا يفرح قلبك، ربنا يسترك، يخليكي لعيالك" وأنا أرد عليه بكل "ود" ربنا يخليك يا عم ود، ربنا ميحرمنيش منك"
اليوم رأيته وكان يرتدي "تي شيرت" جديد وهو شيء لم أكن لألحظه لولا أنه لا يغير أبدا ملابسه الرقيقة التي صرت أعرفه بها من بعيد وهو واقف وسط الناس حين أناديه.
وحينها هتفت له بصدق" ايه الجمال ده ايه الشياكة دي، والله حضرتك زي القمر النهاردة" فبان على وجهه السعادة والخجل وأطرق ضاحكا فقلت له ربنا يديك الصحة يا عم ود ويحفظك" فالتقط مفتاح السيارة وهو يدعو ويتمتم وعلى وجهه سعادة غامرة.
أحيانا يرسل الله لنا وجوها طيبة، قد لا يلتفت لها بعضنا رغم أن بها أسرارا إلهية، وبيدها مفاتيح الرضا والبركة، ولعل ابتسامة منا لأحد تلك الوجوه أو كلمة طيبة تشعرهم بآدميتهم وأهميتهم وأحقيتهم في نيل الاحترام تفتح لنا باب الرحمة أو تمنع عنا ما الله به أعلم من أهوال ومصائب.
هؤلاء أبناء الله فما أجدرنا أن نلاحظهم حين تلقيهم أقدارهم في طريقنا ونعيرهم اهتمامنا واحترامنا صدقا وليس رياء ونفاقا، نرحمهم عل الله يرحمنا، ولعل هذا الأشعث الأغبر إذا أقسم على الله أبرّه.
بونسوار يا حبايبي🌹